تتابع أئمة الهدى وسلف الأمة الصالح من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم على الاحتجاج بالسنة وتوقيرها والرجوع إليها في كل صغيرٍ وكبيرٍ والحذر من مخالفتها أو تركها ، أو التقدم عليها ، من غير تفريق بين متواترها وآحادها ، حتى شذت طوائف عبر التاريخ لم تقم للسنة وزناً ، ولم ترفع بها رأساً ، فمنهم من رفضها جملة وتفصيلاً ، وأنكر أن تكون أصلاً من أصول التشريع ، زاعمين أن في القرآن غنية لهم عن كل ما سواه ، وأنه يتعذر الاطمئنان إلى الأحاديث من جهة الشك في طريقها ، وأنه يجوز على رواتها الخطأ والنسيان والكذب ، فقالوا بوجوب الاقتصار على القرآن ، ومنهم من لجأ إلى التشكيك في بعض أنواعها ، فرأى الحجية في نوع منها دون غيره ، وقالوا : لا نقبل من السنة أخبار الخاصة التي تعرف عند المحدثين بأخبار الآحاد ( وهي ما لم تجمع شروط التواتر ) زعماً منهم أنها لا تفيد اليقين ، ورفضوا العمل والاحتجاج بها ، مهما كان رواتها من العدالة والضبط ، ولم يعتمدوا إلا ما تواتر نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسقطوا بذلك جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي تعارض ما ابتدعوه في أبواب الدين ، وسدُّوا جميع الطرق أمام معرفة الله وأسمائه وصفاته ، وفي مقابل ذلك أحالوا الناس على أمور وهمية ، ومقدمات خيالية سمُّوها - بزعمهم - قواطع عقلية وبراهين يقينية قدَّموها على الوحي ، وحاكموا النصوص إليها .

وقد تكاثرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وأقوال السلف - بل وإجماعهم - على الاحتجاج بحديث الآحاد ، ولزوم العمل به :



فمن أدلة القرآن : قوله تعالى :{فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ( التوبة 122) ، فقد حث الله عز وجل المؤمنين - في هذه الآية على أن تنفر من كل فرقة طائفة تقوم بمهمة التفقه والبلاغ ، ولفظ الطائفة يتناول الواحد فما فوقه ، مما يدل على قيام الحجة بخبرها .

ومنها قوله سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ، وفي قراءة {فتثبتوا } (الحجرات 6) ، فهذه الآية دلت على أن الخبر إذا جاءنا عن الثقة العدل فإن الحجة تقوم بخبره ، ولا يلزمنا التثبت فيه ، وأما الفاسق فهو الذي يجب أن لا نقبل خبره إلا بعد التثبت والتبين .



ومنها قوله سبحانه : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (النحل 43) ، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، وهو يشمل سؤال الواحد والمتعدد ، ولولا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لما كان لسؤالهم فائدة .



وقوله سبحانه : {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } (المائدة67) ، فأمر - صلى الله عليه وسلم – بتبليغ الدين للناس كافة وقام بذلك خير قيام ، ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة لتعذر وصول الشريعة إلى كافة الناس ولما حصل البلاغ ، ومعلوم أن التبليغ باق إلى يوم القيامة والحجة قائمة على العباد .



كما حكى الله عن بعض أنبيائه ورسله السابقين ما يدل على قبولهم لخبر الواحد ، والعمل بمضمونه ، فموسى عليه السلام قبل خبر الرجل الذي جاء من أقصا المدينة يسعى قائلاً له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هارباً ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت له : {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } ( القصص 25) ، وقبل خبر أبيها في دعواه أنهما ابنتاه ، فتزوج إحداهما بناء على خبره .



وقبل يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له : {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } (يوسف50) ، وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ) .



وأما أدلة السنة فأكثر من أن تحصر ومنها حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) رواه ابن ماجه وغيره ، وفيه ندب - صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها حتى ولو كان المؤدي واحداً ، مما يدل على قيام الحجة بخبره ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لم يكن لهذا الندب فائدة تذكر .



وحديث مالك بن الحويرث حين وفد مع بعض قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) متفق عليه ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن بليل ، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم ) رواه البخاري وغيره وفي رواية لابن عمر : ( إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) متفق عليه ، ففي هذه الأحاديث الأمر بتصديق المؤذن ، والعمل بخبره في دخول وقت الصلاة ، والإفطار والإمساك مع أنه واحد ، ولم يزل المسلمون في كل زمان ومكان يقلدون المؤذنين ، ويعملون بأذانهم في هذه العبادات ، وهو من أوضح الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد .



واشتهر بعثه - صلى الله عليه وسلم - الآحاد من صحابته ، واعتماده على أخبارهم وعمله بموجبها ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة و زيد بن خالد في قصة العسيف ، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم- : ( واغد يا أنيس - لرجل من أسلم إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) ، فاعترفت فرجمها ، فاعتمد - صلى الله عليه وسلم- خبره في اعترافها ، مع ما فيه من إقامة حد ، وقتل نفس مسلمة ، وفي يوم الأحزاب اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم – بخبر الزبير وهو واحد حين قال : ( من يأتيني بخبر القوم؟ ) .



وتواتر عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه كان يبعث الآحاد إلى الجهات القريبة والبعيدة ويحملهم أمور الدعوة والتبليغ وتعليم الناس أحكام الإسلام وشرائعه ، والنيابة عنه في الفتوى والقضاء والفصل في الخصومات ، فمن ذلك ما رواه الشافعي بإسناد صحيح عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت : " بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول : " إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد " ، وحديث يزيد بن شيبان قال : كنا في موقف لنا بعرفة ، بعيداً عن موقف الإمام ، فأتانا ابن مربع الأنصاري قال : " أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم ، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم " رواه الترمذي وغيره ، وقال لأهل نجران – كما في الصحيحين : ( لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين ) ، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه ، وبعث - صلى الله عليه وسلم- أبا بكر سنة تسع على الحج ، فأقام للناس مناسكهم نيابة عنه - صلى الله عليه وسلم- ، وبعث علياً تلك السنة فنبذ إلى قوم عهودهم ، وبلغ عنه أول سورة براءة ، وبعث قيس بن عاصم ، و الزبرقان بن بدر ، و مالك بن نويرة إلى عشائرهم ، لتعليمهم الأحكام ، وقبض الزكاة ، وبعث معاذاً و أبا موسى و عماراً وغيرهم إلى جهات متفرقة باليمن .



واشتهر أيضاً بعثه الأمراء في السرايا والبعوث ، وأمره بطاعتهم فيما يخبرون عنه ، وكذلك كتبه التي بعثها إلى الملوك في زمانه ، كان يتولى كتابتها واحد ، ويحملها شخص واحد غالباً ، كما بعث دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم ، و عبدالله بن حذافة إلى كسرى.



ومثلها كتبه التي كان يبعثها إلى ولاته وعماله بأوامره وتعليماته ، يكتبها واحد ، ويحملها واحد ، ولو لا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لكان بعثهم عبثاً ، ولحصل التوقف من المدعوين ، ولم ينقل أن أحداً منهم قال لمن علمه شيئاً من الدين ، أو طلب منه جزية ، أو زكاة أو نحوها : إن خبرك لا يفيد العلم ، فأنا أتوقف حتى يتواتر الخبر بما ذكرت .

وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد والاحتجاج به ، ولم ينقل أن أحداً منهم قال : " إن هذا خبر واحد يمكن عليه الخطأ فلا تقوم به الحجة حتى يتواتر ، ولو قال أحد منهم ذلك لنقل إلينا ، وقد نقلت عنهم في هذا الباب آثار لا تحصى منها :

ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ، ولولا حصول العلم لهم بخبر الواحد ، لما تركوا المعلوم المقطوع به عندهم لخبر لا يفيد العلم ولا تقوم به الحجة .

وحديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين قال : " كنت أسقي أبا طلحة و أبا عبيدة ، و أبي بن كعب شراباً من فضيخ ، فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها " ، حيث قطعوا بتحريم الخمر ، وأقدموا على إتلاف ما بأيديهم من مال تصديقاً لذلك المخبر ، ولم يقولوا : نبقى على حلها حتى يتواتر الخبر ، أو نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع قربهم منه ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت .

وكذلك قضاء عمر رضي الله عنه في الجنين حين قال لأصحابه : " أَذْكَرَ الله امرأً سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً ، فقام حمل بن مالك فقال : " كنت بين جارتين لي ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنيناً ميتاً ، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بغرة ، فقال عمر :" لو لم نسمع به لقضينا بغيره " ورجوعه بالناس حين خرج إلى الشام فبلغه أن الوباء قد وقع بها ، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ( إذا سمعتم به ببلدة فلا تقدموا عليه ) متفق عليه ، وقبل خبر عبد الرحمن أيضاً في أخذ الجزية من مجوس هجر ، بعد أن قال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ، وغيرها كثير .

ولم يزل سبيل السلف الصالح ومن بعدهم قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والاحتجاج به ، حتى جاء المتكلمون فخالفوا ذلك ، قال الإمام الشافعي رحمه الله ( الرسالة 1/451) : " وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل ، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان ......ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله ، والانتهاء إليه ، والإفتاء به ، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ، ويقبله عنه من تحته ، ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه - بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " أهـ .



وقال في ( الأم 7/460) : " لم أسمع أحداً - نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتسليم لحكمه ، فإن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قولٌ بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، إلا فرقة سأصف قولها- إن شاء الله تعالى – " أهـ .



وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله ابن القيم ( مختصر الصواعق 2/372 ) : " وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتواتر لفظه ولا معناه ، لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له …....فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين ، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع " أهـ.


وبهذا يتضح - بما لا يدع مجالاً للشك- حجية أخبار الآحاد ولزوم العمل بها في أمور الدين كله متى ما ثبتت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم- ، وأن القول بعدم حجيتها قول باطل لا يعرف إلا عن أهل البدع ومن تبعهم ، ولو ترك الاحتجاج بها لهجرت السنة ، وتهاوت أركان الشريعة ، واندثر الحق ، قال الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحة (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/156) : " فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد " ، إلى أن قال : " وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد إلى ترك السنن كلها ، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد " .أهـ .




الموضوع الاصلي هنا