من كلام الإمام ابن القيم الجوزية ( مدارج السالكين )
وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم وأهل الحال حتى كأنهما غيران وحزبان وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى ولا تعاشرها إلا على إغماض ونوع استكراه وهذا من تقصير الفريقين حيث ضعف أحدهما عن السير في العلم وضعف الآخر عن الحال في العلم فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين الحال والعلم فأخذ هؤلاء العلم وسعته ونوره ورجحوه وأخذ هؤلاء الحال وسلطانه وتمكينه ورجحوه وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير بأحدهما ملتفتا إلى الآخر فهذا مطيع للحال وهذا مطيع للعلم لكن المطيع للحال متى عصى به العلم كان منقطعا محجوبا وإن كان له من الحال ما عساه أن يكون والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعا منقوصا مشتغلا بالوسيلة عن الغاية وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله ويحكم عليه فينقاد لحكمه ويتصرف حاله في علمه فلا يدعه أن يقف معه بل يدعوه إلى غاية العلم فيجيبه. ويلبي دعوته فهذه حال الكمل من هذه الأمة ومن استقرأ احوال الصحابة رضي الله عنهم وجدها كذلك فلما فرق المتأخرون بين الحال والعلم دخل عليهم النقص والخلل والله المستعان يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير فكذلك يهب لمن يشاء علما ولمن يشاء حالا ويجمع بينهما لمن يشاء ويخلي منهما من يشاء قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى صفاء علم يهذب لسلوك الطريق ويبصر غاية الجد ويصحح همة القاصد ذكر الشيخ له في هذه الدرجة ثلاث فوائد الفائدة الأولى علم يهذب لسلوك الطريق وهذا العلم الصافي الذي أشار إليه هو العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الجنيد يقول دائما علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به وقال غيره من العارفين كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر وقال الجنيد علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو سليمان الداراني إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة وقال النصرابادي أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه الآخرون والإقامة على ما سلكه الأولون. وقد تقدم ذكر بعض ذلك فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية وحقيقتها التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا وتحكيمه باطنا وظاهرا والوقوف معه حيث وقف بك والمسير معه حيث سار بك بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كله سره وظاهره واقتديت به في جميع أحوالك ووقفت مع ما يأمرك به فلا تخالفه البته فتجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لك شيخا وإماما وقدوة وحاكما وتعلق قلبك بقلبه الكريم وروحانيتك بروحانيته كما يعلق المريد روحانيته بروحانية شيخه فتجيبه إذا دعاك وتقف معه إذا استوقفك وتسير إذا سار بك وتقيل إذا قال وتنزل إذا نزل وتغضب لغضبه وترضى لرضاه وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزله ما تسمعه من الله بإذنك. وبالجملة فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه ورسوله المطاع المتبع المهتدى به الذي لا يستحق الطاعة سواه ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعا للأصل وبالجملة فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول واقتدى به في ظاهره وباطنه فلا يتعنى السالك على غير هذا الطريق فليس حظه من سلوكه إلا التعب وأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ولا يتعنى السالك على هذا الطريق فإنه واصل ولو زحف زحفا فأتباع الرسول إذا قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عزائمهم وهمهم ومتابعتهم لنبيهم كما قيل
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدا وتجي في الأول
والمنحرفون عن طريقه إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم قعد بهم عدولهم عن طريقه. فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا )).