تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الرد المبين على من أوجب إرسال الرسل على رب العالمين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,278

    افتراضي الرد المبين على من أوجب إرسال الرسل على رب العالمين

    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
    أما بعد، فقد منّ الله تعالى على بني آدم بأن قال لأبيهم يوم أهبطه وزوجه إلى الأرض: ((قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة : 38] فجعل الدنيا دار اسختلاف، واختار سبحانه فضلا منه وكرما أن يبتلي فيها عباده بسبيل للنجاة وعلو الدرجات والمنازل في دار القرار في الآخرة، من بلغه فاتبع وخضع علت درجاته ومن بلغه فأبى واستكبر خسئ وارتكس، نسأل الله العافية.. ولكن غلت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة وقالت إن الله يلزمه أن يرسل المرسلين ويبين للناس طريق الصلاح والهداية، وذلك بسبب قولهم في التحسين والتقبيح العقليين، فجعلوا إرسال الرسل واجبا على الله تعالى، وليس كذلك، بل هو فضل من الله ومنة.. ((ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا))
    وطريقة أهل السنة ألا يوجبوا شيئا على الله إلا بنص. والله تعالى واجب الكمال في كل صفاته بموجب ضرورة العقل، وكما جاء به النص من كون أسمائه هي الحسنى وصفاته هي العلا، سبحانه وتعالى، ولكننا مع ذلك لا نملك أن نوجب عليه فعلا بعينه لم يأتنا منه النص على أنه واجب عليه سبحانه وتعالى، وما ينبغي لنا ذلك!! وليس جهل الجاهل منا أو قصور نظره – بطبيعة خلقه البشرية – بحجة على ما لا نعلم من حكمة الله جل وعلا وعلمه..
    فمطلق الابتلاء بالغيب وإرسال الرسل لتعليم الناس الغاية من خلقهم في الحياة الدنيا هو من تمام حكمة الله جل وعلا من خلق الحياة الدنيا، وهو من فضله ورحمته.. هكذا أراد الله تعالى وهكذا كان.. ولكنه ليس بواجب عليه سبحانه لا بالنقل ولا بالعقل، فلو أنه أراد غيره لنا لما منع ذلك ضرورة من ضرورات العقل قطّ، لا حقيقة معنى الحكمة ولا معنى العدل ولا غير ذلك.. فكيف يقال بأنه واجب عليه؟!
    وآية كونه ليس بواجب: وجود ما يصطلح عليه بأهل الفترة، وهم أقوام ولدوا وعاشوا وماتوا على غير الإسلام ولم يسمعوا به قطّ! فلو كان إرسال المرسلين واجبا على الله تعالى حتى يسمع كل البشر حجة الله وتقوم عليهم جميعا في الحياة الدنيا فهؤلاء ما بلغهم شيء من ذلك وما سمعوا شيئا! فلو كان واجبا على الله أن يُسمِع الناس جميعا حتى يتحقق العدل فما جواب المعتزلة – من بعد جوابهم عن ظاهر القرءان إن استطاعوا ذلك - عن وجود أهل الفترة؟ هذا من أظهر ما به نبطل مذهبهم في إيجاب إرسال الرسل! إذ قولهم هذا يلزم منه أن أهل الفترة قد ظُلموا بتخلف بلوغ الرسالة إليهم، وليس كذلك! فقد دل النص على أنهم يُمتحنون في عرصات الآخرة فلا يدخل من يدخل منهم الجنة أو النار إلا وقد ابتُلِي فاختار على علم فاستحق مصيره الأبدي.. ونقول، أولو كان أمر الله في حق أهل الفترة أن يكونوا ترابا يوم القيامة ولا يكون لهم خلود لا في جنة ولا في نار كغيرهم من البشر، أفيظلمهم الله بذلك؟ كلا! بل من فضله ومنته أن جعل لهم سبيلا ليختاروا الهدى من بعد ما يتبين لهم، وليكونوا بذلك من الفائزين، رحمة منه وفضلا، فوفقما يكون اختيارهم – على علم - يكون مصيرهم!
    وأما قول المعتزلة بأن الله يجب عليه فعل الأصلح للبشر (وهو أصل قولهم بوجوب إرسال الرسل) فليس بصحيح.. فمعنى الصالح والأصلح إنما مرده إلى علمه هو سبحانه.. فلا نحكم من ذلك إلا على ما نملك العلم اللازم للحكم عليه.. والفلاسفة ومن تبعهم من المعتزلة إنما جاء ضلالهم في هذه المسألة ونحوها من إعطائهم الحق لأنفسهم بالحكم على ما ليس لهم به سلطان من علم ولا دليل! فجاوزوا بذلك حدود النقل والعقل وأتوا من الباطل أشكالا وألوانا والله المستعان..
    الصلاح والإصلاح في الدنيا ليسا بواجبين (كونا)، بل الأصل فيها خلاف ذلك، وهذا ظاهر جدا لا يحتاج إلى تدليل!! وإنما منَّ الله على البشر بأن بعث فيهم من يعلمهم ما به يعرفون سبيلهم إليه، ابتلاء وامتحانا لهم بهذا الاسختلاف الذي هم فيه سواء (من بلغته الحجة ومن لم تبلغه).. فلو شاء أن يمنع ذلك عنهم جميعا فيجعلهم جميعا في حكم أهل الفترة مع كونهم مستخلفين فيها، فإنه لا يظلمهم بذلك.. فمقرر أنه في جميع الأحوال لا ثواب ولا عقاب إلا باستحقاق.
    فإن قالوا: أليست هداية الناس إلى الصواب خيرا في حق الله تعالى من تركهم بلا حكمة ولا كتاب منير؟ قلنا لهم عرفوا لنا حد الخيرية وحقيقة ما به قررتموها ونحن نجيبكم! إن كان حدها في كون الإنسان يكون أحسن حالا وطمأنينة في نفسه وفي أهله وفي ماله، فلا تنسوا أن حياة الواحد منا في دنياه ليست إلا قطرة في بحر الخلود.. فمهما أوتي العبد منا من خيرات في الدنيا فإنها لا تزن شيئا قط يوم يغمس في النار ثم يعلم أنه ماكث فيها أبدا (نسأل الله العافية)، والعكس صحيح.. فلا يصح أن نقرر مناط الخيرية في أحوال الناس بالنظر إلى دنياهم دون أخراهم! بل أخراهم هي الأصل في ذلك فهي تدوم أبدا ولا تزول! وإن قالوا حد الخيرية هو سعادة المؤمنين بالعلم بالله فمن يحرم ذلك من أهل الفترة فقد ظُلم، قلنا نوافقكم على أنه الخير كل الخير في الدنيا - وهذا من فضل الله ومنه على العباد - ولكن من حرمه في الدنيا من دون اختيار منه وصد عن سبيله بعدما جاءه، فهذا لم يظلمه الله، لأنه قد أوتي في الدنيا من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى ما أوتي، ومع هذا فإن الله لن يحاسبه على تركه الشكر والخضوع له بما هو أهله جل وعلا، ولن يحاسبه على انتقاصه الشديد في حقه جل وعلا وعدوانه عليه بالعبادة والخضوع لمخلوق من دون الخالق الذي دل العقل السوي المستقيم على أنه منزه عن ذلك كله ولابد!
    ثم إن أهل الأرض يأتيهم فيها نعيم كما يأتيهم عذاب، ويمتعون بالشهوات فضلا عن نعم الله السابغة عليهم في الآفاق وفي أنفسهم من غيرما كسب منهم ولا استحقاق!! وإفساد أهل الفترة في الأرض على جهلهم وعماهم ليس يورثهم الحرمان من ذلك (من وصول الرحمة العامة إليهم).. والله لا يظلمهم بما يصيبهم به في الدنيا قيد أنملة.. فليس يصح إذن أن يقال بأنه لو لم يجعل في الأرض رسلا ولا رسالات قط لظلم الخلق أو لنزل دون حد الكمال في خلقه وتقديره، سبحانه وتعالى! وخيرية ذلك كما نرى إنما هي خيرية تفضل ونعمة وليست أمرا يلحق النقص بصفات الخالق إن لم يتحقق في الأرض، فتنبه!

    فإن قال قائل القوم هل وجود الواحد من أهل الفترة في الحياة الدنيا بلا سبيل إلى الرسل ولا الرسالات أصلح له أم ليس بأصلح؟ قلنا لهم لا يحق لكم طرح هذا السؤال أصلا! فهذا لا يملك الحكم فيه أحد من البشر، لأننا لا ندري حين يُبتلى هذا الواحد من أهل الفترة في الآخرة كيف سيكون بلاؤه.. هل سيستحق الثواب أم العقاب، هل نفسه من تلك النفوس التي يعلم الله فيها الخير فيعاملها في الدنيا بما تستحق وإن لم تبلغها رسل ولا رسالات، ثم في الآخرة تختار الخير وتفوز الفوز الأبدي، أم أنها ممن قال فيهم ((وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ)) [الأنفال : 23] (كما تعلمنا من قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر من الله تعالى ولم يكن قد ظهر لنا منه ما بمثله نحكم باستحقاقه العقوبة)؟؟ هذا كله علم مفوض لله تعالى ليس لأحد منا الدخول فيه! قد خلق الله خلقا للعذاب وخلقا للنعيم، ولكنهم يقينا لا يصيرون إلى هذا أو إلى ذاك إلا باستحقاق، والعلم الذي يلزمنا معاشر البشر - المحجوب عنا بالغيب - من أحوال الخلق وحقائق ما في قلوبهم وما هو كائن في شأنهم من بعد وما لم يكن من قبل لو كان كيف يكون، كل هذا لا يعلمه أحد من البشر ولا يعلمه إلا خالق البشر، وهو يقيم به الحجة على عباده جميعا يوم القيامة ولا يظلم ربك أحدا! نحن لا نعلم إلا ظاهر الحال، فكيف بالذي يعلم ظاهر الحال وباطنه وظاهر المآل وباطنه، وهو الظاهر والباطن كل شيء عنده في كتاب؟؟ فلا نملك الحكم في مسألة نحن قاصرون عن بلوغ العلم اللازم فيها! وقد علمنا أن الله ما خلق البشر ليكونوا جميعا أهل صلاح وخير، ولا يلزمه ذلك، سبحانه وتعالى، ولا يظلم الله من خلقه مثقال ذرة.. لهذا نقول إنه لا يدخل شيء من ذلك في قضية ما هو صالح للناس وما هو أصلح لهم.. إذ هو لم يخلقهم لغاية أن يكونوا كلهم جميعا في الدنيا أهل خير وصلاح!! لو شاء لجعلهم كذلك ولآتى كل نفس هداها ولكنه لم يشأ! وهم جميعا يأتونه في ذلة العبيد، المؤمن منهم والكافر، فإن لم يكن ذُلهم له واقعا منهم في الدنيا فهو واقع في الآخرة لا محالة، يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، كما قال تعالى ((إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً)) [مريم : 93]
    فلا يتخلف من حكمة خلق السماوات والأرض شيء قط بتخلف وصول الرسل والرسالات إلى الناس، فتأمل..
    ثم ألا ترى أيها المعتزلي أن أقواما قد بلغتهم حجة الرسالة فارتكسوا وأصروا على باطلهم وكفرهم من بعد ما علموا، فاستحقوا الخلد في النار من أجل ذلك؟ فالواحد من أهل الفترة الذي عاش ومات على جهله لا يدري ما الإسلام ولا الإيمان، ثم في الآخرة خير فاختار الخير فكان من الفائزين، هذا عاش في الدنيا متسلطا على ما أعطاه الله فيها بباطل وضلال وجهل كما عاش الأول، ومات دون أن تبلغه الرسالة كما بلغت الأول، ولكنه كان في منتهى أمره من الفائزين بينما كان الأول من الخاسرين، فمن الذي قال إن إرسال الرسل يتحقق به الصلاح والخير لكل سامع ولابد؟؟ بل لعله لبعض الناس يكون الخير في خلاف ذلك، وأن يموتوا قبل أن تبلغهم محجة الحق أصلا.. وسبحان من له الحكمة البالغة! يرزق من يشاء بغير حساب.. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا..
    والرحمة من الله فيها رحمة خاصة وفيها رحمة عامة، فرحمته العامة تشمل سائر الدواب في الدنيا ولا تعلق لها بما يعملون، وأما الرحمة الخاصة فيؤتيها الله من يشاء من عباده المكلفين - بأن يصطفي منهم من يشاء للرسالة اصطفاءً كونيا قدريا فيرفعه بذلك فوق سائر البشر، ويصطفي من وراء ذلك النبي من يتبعه فيرفعه فوق من هم دونه وهكذا - وليس التفاوت في الحظ من الرحمات والمنن والعطايا الربانية في الدنيا بمتعلق بصفة العدل وتمامها، فلا يظلم الله رجلا بأن يؤتي غيره مالا فوق ماله أو خلقا فوق خلقه أو منزلة فوق منزلته بين الناس، والكل مبتلون ممتحنون، وعظم العطاء مؤداه في الحقيقة شدة الابتلاء – لمن بلغه ما به يكون الابتلاء - كما في قوله تعالى ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة))، فلا تعلق أصلا لزيادة الفضل الدنيوي والعطاء الدنيوي أو نقصانه بتمام العدل بين العباد في حقه جل وعلا.. ومن هنا نقول إن من حرمه الله في الدنيا من نعمة بلوغ الإسلام إليه ووصول دعوة التوحيد إليه فإن هذا لم يظلمه الله بذلك، سبحانه وتعالى وتقدس، ولم يخالف في ذلك حكمته من خلق الحياة الدنيا، ففي الدنيا من خُلقوا ليكونوا من أهل الجنة وهم لم يسجدوا لله سجدة واحدة، ومنهم من خلقوا ليموتوا على الكفر وقد كانوا في ظاهرهم ممن يُظن بهم الصلاح والعبادة، نسأل الله العافية، ومنهم من خُلقوا ليقضوا أعمارهم في صمم لا يسمعون شيئا أو في جنون لا يعقلون شيئا أو يموتون أطفالا لا يميزون شيئا.. وهذا التنوع بين صنوف البشر ومآلاتهم وما يكون من أمرهم إنما هو من حكمة خلق الحياة الدنيا نفسها ((ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم))..
    فالشاهد أن قول المعتزلة بوجوب إرسال الرسل إن كانوا يريدون به وجوب وصول البينة والحجة الرسالية إلى كل أحد، فليس هذا بواجب قط لا نقلا ولا عقلا، ولا هو واقع حسا ولا مشاهدة! وإن كانوا يريدون بذلك وجوب أن يرسل الله رسلا للناس بعموم، فنقول هذا أيضا ليس يوجبه العقل فضلا عن النقل!
    وقد يقولون بأن إنزال الله البشر إلى الأرض - كنوع لا كأعيان – وابتلاء الله إياهم بالاستخلاف فيها هذا لازمه وجود حبل موصول بالسماء، هو حقيقة الوحي والرسالة، التي بها يتحقق التلقي من الله جل وعلا لما به يقوم الحكم والاستخلاف حق القيام.. فمعرفة الله تعالى ومعرفة مراده لا تقوم على ما يريده الله من البشر إلا بالوحي.. والله قد خاطب آدم وهو يهبطه من الجنة بقوله ((فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم)).. فهل يقال إنه يجب على الله لهذا المعنى أن يرسل رسلا للبشر؟ الجواب كلا لا يجب، فصحيح أن معنى الابتلاء يلزم منه وجود الحجة الرسالية (سواء في الدنيا أو في الآخرة كما لأهل الفترة)، ولكن معنى الاستخلاف لا يلزم منه حصر الابتلاء للمكلفين في الدنيا أو في هذا الاستخلاف نفسه!
    إذ لو شاء الله أن يجعل سائر أهل الدنيا جميعا في حكم أهل الفترة لما ظلمهم بذلك ولما خالف الحكمة من خلقهم، ولا يزالون – مع ذلك – مستخلفين في تلك الأرض ما داموا فيها! فإن قيل ولكنّ كونه سبحانه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، هذا يمتنع بسببه أن يكون مثلُ هذا.. قلنا نعم نوع الإنس مخلوق ليعبد الله تعالى، فمن أجاب لذلك نجا ومن عاند هلك، ولكن هذا لا يمنع خلو الأرض من الرسل والرسالات بحال إن اقتضت حكمة الله ذلك (ولم تقتضه)، فالابتلاء بعبادة الله (بإتيان الهدى والدعوة لاتباعه) قد يقع للناس ببلوغ الرسالات إليهم في الدنيا وقد يقع بابتلائهم في الآخرة (كما يكون مع أهل الفترة).. وليس طريق تحصُّل ذلك قاصرا على ما يجري في داخل الحياة الدنيا وفقط! فلو شاء الله ألا يجعل في الأرض رسلا قط، وأن يكون ابتلاء البشر جميعا بذلك الهدى عندما يأتيهم في عرصات الآخرة كما يكون مع أهل الفترة، أفيظلمهم بذلك؟ أفيخالف بذلك ما قرره سبحانه من كون البشر جميعا لم يخلقوا إلا ليتمحنوا بعبادته كما في قوله تعالى ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))؟؟ كلا.. لا تعارض ولا مخالفة! بل حتى الكفار يخضعون ويتعبدون ويتذللون لله جميعا يوم القيامة ليرجعهم حتى يعملوا صالحا وليس بفاعل، وليخرجهم مما هم فيه من العذاب وليس بفاعل سبحانه.. فكلهم آتيه عبدا طوعا أو كرها.. ولا ينقص من ملك الله شيء إن فنيت أمم وأجيال من البشر في سائر الأرض لم يسجد فيها رجل واحد لله سجدة واحدة، وقد كانوا مستخلفين فيها.. فلا النقل ولا العقل يمنع إمكان هذا! إنما قضت رحمة الله وفضله خلاف ذلك، لا أنه واجب عليه سبحانه! وهو سبحانه لم يقل "وما أنزلت الإنس إلى الأرض إلا ليعبدون، ولكن قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.. أما الانزال إلى الأرض فاسختلافٌ فيها.. فتأمل الفرق الدقيق هنا..

    ولما قال تعالى ((إني جاعل في الأرض خليفة))، خاطب سبحانه الملائكة بهذا القول فاستفهموا منه عن جعله في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فأجابهم جل وعلا بأنه يعلم ما لا يعلمون، فلما خلق آدم وعلمه الأسماء كلها، أشهد الملائكة لا على أن آدم وذريته لن يفسدوا في الأرض ولن يسفكوا الدماء، ولا على أنهم سيكونون جميعا عبادا له فيها كالملائكة في السماء، كلا، ولكن أشهدهم على أنه علم آدم ما لم تكن تعلمه الملائكة، فبين لهم أن الحكمة من خلقه لا كالحكمة من خلقهم هم، والحكمة من إنزاله إلى الأرض ولازم تحقق تلك الحكمة لم يتخلف في خلق آدم طرفة عين حتى وإن أفسدت ذريته فيها وسفكت الدماء، وأن إمكان ألا يوجد في الأرض في عصر من الأعصار من يعبد الله من البشر قط، لا تأثير له على تلك الحكمة ولا على معنى الاستخلاف أصلا! فالاسختلاف في الأرض ليس معناه الخضوع لأمر الرسل ولابد، وإنما معناه عموم التسلط على تلك الأرض وإعمارها والضرب فيها والتمكن مما سخر الله لنا فيها، لينظر الله ما نحن فاعلون كما في الحديث "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ما تعملون" (أو كما قال عليه السلام).. فمن جاءه الهدى وموعظة من ربه فاتبع فهو ناج فائز برحمة من الله وخير، وأما من لم تأته فليس بمظلوم ولا هو خارج عن معنى استخلاف البشر في الأرض، بل هو مستخلف فيها تحقيقا، وعمله مؤثر فيها سواء كان أو لم يكن له حساب عليه في الآخرة.. فلا تتخلف عن مثل هذا الحكمة لا من خلق البشر ولا من استخلافهم في الأرض، وهو سبحانه صانع بهم ما يشاء.. فلا ظلم ولا هضم ولا تفريط.. فسبحان من له تمام الحكمة والعلم وحده لا شريك له.
    فالحاصل أنه لا يجوز - بأي طريق كان - أن يقال إن الله يجب عليه أن يرسل الرسل ليبين للناس ما يتقون! ليس هذا بواجب ولكنه من تمام فضل الله ورحمته وحكمته، ولأنه يريد أن يتخذ منهم شهداء وصالحين وصديقين وأنبياء، فكان هذا من فضله ومنه عليهم... ولو شاء ما فعل ذلك وما نقص من ملكه ولا من حكمته ولا من عدله شيء.. هذا والله أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين.
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    المشاركات
    30

    افتراضي رد: الجواب المبين على من أوجب إرسال الرسل على رب العالمين

    جزاك الله خيراً أخي الفاضل....وجعل ما سطّرته يداك في موازين حسناتك....


    كنت قد سألت دكتوراً حول قضيّة ذات صلة...وهي ما التعبير "خالي المحاذير" حول إرسال الرسل الكرام....فإتماما ً للفائدة وإثراءً للموضوع: أحببت تقييد جوابه:

    " أقول وبالله استعين:
    مصطلح "جواز إرسال الرسل" لا أرى بأسا في استخدامه، وهو مستخدم في مصنفات أهل السنة، لكن الإنكار على الأشاعرة في استخدامه، لا لذات المصطلح نفسه، بل لأن الجواز والإمكان مرتبط عندهم بمسألة كلامية بحتة تتعلق بمبدأ الحدوث والقدر، ولها تعلق بالإرادة و نفي الحكمة، فإرسال الرسل عندهم داخل في عموم فعل الله تعالى الذي صدر بمحض إرادته من غير حكمة، ولهم تفاصيل يطول المقام بذكرها، و أما المعتزلة فقولهم بالوجوب مبني على قاعدتهم المعروفة التحسين والتقبيح العقليين، والذي ينبني عليها وجوب فعل الأصلح للعبد، ومن هذا الفعل إرسال الرسل التي تبين للعبد ما يمنعه من العقوبة(ومن هنا قالوا بوجوب انفاذ الوعيد)، و ما به ينال الجنة (ومن هنا قالوا بوجوب إنفاذ الوعد)، وهذا القول معلوم بطلانه لدى علماء الملة.

    ثم إن قولنا: جائز لا ينافي القول بالوجوب الذي هو إيجاب الله سبحانه على نفسه تفضلا وتكرما منه سبحانه وهو مقتضى حكمته" لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل"، ومقتضى رحمته" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقطعا للأعذار" ليس أحد أحب العذر من الله، ولذلك انزل الكتب وأرسل الرسل" ، وهو مقتضى إخبار وجوب نصرة الرسل " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي".

    والخلاصة انه لا مانع أن يقال بالجواز المرتبط بالحكمة، وليس بالوجوب الذي هو قول المعتزلة، ولا كذلك الوجوب بالمعنى المذكور تأدبا لعدم التصريح به، كما أن مصطلح الجواز يشمل الوجوب الذي أوجبه الله على نفسه، ولعله يدخل في عموم قوله تعالى" كتب ربكم على نفسه الرحمة" وإرسال الرسل رحمة من الله.
    والله أعلم. "

    انتهى كلامه وفقه الله

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,278

    افتراضي رد: الرد المبين على من أوجب إرسال الرسل على رب العالمين

    الحمد لله وحده. أما بعد فقد نبهني أحد الإخوة الكرام - جزاه الله خيرا - إلى موضع في المقال وقع فيه وهم مني، حيث قلت:
    فلو شاء الله تعالى أن يقيم حجة على العباد من مجرد اتفاق العقول السوية التي دلتها الفطرة على استحالة أن يكون الخالق الباري حجرا أو شجرا أو بقرا - مثلا - وعلى فساد تلك الملل جميعا في معرفة الخالق، من دون أن يكون له في الأرض رسل أو رسالات تعلمهم الحق في ذلك، لما ظلمهم بهذا! فأهل الملل الفاسدة يعقلون فسادها وهو ظاهر لهم عند التأمل والتجرد من الهوى والكبر، ولكن الله من رحمته وفضله جعل مناط العذاب والحساب قيام الحجة الرسالية، تفضلا منه عليهم ومزيد رحمة منه، لا لأنه لو ترك ذلك لظلمهم أو لنقص كمال صفاته سبحانه!
    فقمت بتحرير ذلك الموضع من متن المقال، وأقول قياما بواجب البيان:
    يبدو أني لم أنتبه حال كتابتي هذا الكلام إلى ضرورة التفريق بين "إقامة الحجة العلمية" و"إقامة حجة التشريع"، فظهر وكأني وافقت الأشاعرة فيما جوزوه على الله تعالى من معاقبة من يستحق المكافأة والعكس، وهذا قول باطل ولا شك. فالعقوبة مقتضى الذنب على شرط انعقاد التشريع وتحقق العلم به، فإن لم يقع التشريع فلا عقوبة ولا يوصف الفعل بأنه "ذنب" ابتداء. لذا نقول إن الرسول لا يأتي ليقرر للناس ما هو معلوم لديهم من قبل (بحجة ميثاق الذر) من بطلان ما هم عليه وحسب، ولكن لينذرهم كذلك من عقوبة (تشريع) قد رتبها الله تعالى على ذلك الاعتقاد والعمل، وجعل سبيل السلامة منها في اتباع الرسول وما جاء به. ولهذا كان محض الظلم أن تقع العقوبة من غير وصول هذه الرسالة التي فيها النذارة بالعقوبة نفسها وبيان ما يوجب وقوعها على المكلف (وهو معنى التلبس بالذنب)، بحيث إن وقع فيه علم أنه قد استحق العقاب! وهذا لا ينفي أن حجية البطلان (وليس الحجة الرسالية التشريعية التي تقتضي الحساب) قائمة تحقيقا على المشركين حتى وإن لم يأتهم رسول، لأنهم يعلمون بطلان ما هم عليه. صحيح إنهم يعلمون أن فعلهم شنيع في حق خالقهم ويعقلون أنهم يسبونه سبا بمجرد التلبس بالشرك، ولكن معرفة البطلان والفساد شيء، ومعرفة استحقاق العقوبة عليه شيء آخر. ومع أن صفات الكمال في حق الخالق تبارك وتعالى تقتضي كونه لا يرضى بأن يشرَك به شيء من خلقه، ومع أن هذا اللازم أو المقتضى المباشر لصفات الكمال ينبغي أن يكون معلوما ببداهة العقول، إلا أن العلم باللازم والمقتضى (مهما كان ظاهرا جليا) ليس موجبا في نفسه للعقوبة على ترك ذلك اللازم أو المقتضى إلا بعد ورود التشريع العقابي في ذلك وقيام الحجة به. ولهذا كان قوله تعالى ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)) دليلا على كمال العدل، إذ لا تعذيب إلا بعد الإعلام بالتشريع وورود النهي الصريح والنذارة من العقوبة، والله أعلى وأعلم.
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  4. افتراضي رد: الرد المبين على من أوجب إرسال الرسل على رب العالمين

    حفظك الله

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •