بسم الله الرحمن الرحيم
في الذكرى الثامنة والثمانين لهدم دولة الخلافة عام 1342هجري
فَلنَبكِ خِلافةً ضائِعةً ... لَم نُحافِظ عليها كَالرِّجال
الحمد لله معز المؤمنين وناصر المستضعفين ومخزي الكافرين, يعز من يشاء ويذل من يشاء, بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المؤمنين بنصره فقال تعالى: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } الروم47. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، قائد المجاهدين وقدوة العاملين، بشّر أمته بنصر هذا الدين بقوله في الحديث الذي رواه داود بن أبي هند عن أبي عثمان عن سعد بن أبي وقاص قال: ( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) رواه مسلم. فصلاة الله وسلامه على الهادي البشير وعلى آله الطاهرين وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين – وبعد:
كم كنت أتمنى من مقامي هذا أن أتحدث وإياكم عن ليلة النصر التي سبقت يوم إعلان قيام دولة الخلافة,,,
وكم كنت أتمنى أن نشاطر بعضنا بعضاً هذه الفرحة, لنطوي معاً حقبة من الزمان كانت الأسوأ والأمرّ في تاريخ المسلمين, وذلك بتعطيلهم الحكم بما أنزل الله... ويبقى الأمر في التمني, وما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
لكني اليوم أود أن أتحدث إليكم عن أنفسكم!! نعم, عن أنفسكم يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام دينا, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. فاسمعوا مني هذا القول واعقلوه.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا )) الاحزاب70
أخي المسلم: هي نفسك وأنت أعلم الناس بها، سلها، وظني بها أنها لن تَصدُقُك، ولكنك أخي إن حاسبت نفسك عرفت أدواءها, وإن عرفت الداء سهل الدواء.
أخي في الله: ألا ترى ما في النفس من قسوة وغفلة؟ كسولة إذا دُعيت إلى الفروض والطاعات، نشيطة إذا همّت إلى المعاصي والشهوات! لا الوعيد يخيفها، ولا الوعد يُصلحها.
أخي في الله: مالنا إذا دعينا إلى العمل لإقامة تاج الفروض وحامية الحدود اثاقلنا إلى الأرض, أرضينا بالحياة الدنيا من الآخرة!! فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
مالنا لم نُحافظ على ظل الله في الأرض الذي يأوي اليه كل ضعيف وملهوف, الذي لا يُستغنى عنه طرفة عين, كيف لا وهو أقوى الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه و عباده, ففيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد التي بها قوام الخلق, ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض, فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس, وإذا فسد فسدت بحسب فساده, كما قال إبن تيمية رحمه الله في كتابه الفتاوى الكبرى, شارحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده) رواه البزار وابن حبان‏ عن أنس‏ بن مالك ورواه عنه الديلمي‏ _ ‏فيض القدير شرح الجامع الصغير
ما لنا لا نبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!! وحق لنا ولكم البكاء كالنساء, بل العويل والنواح.
فعندما أسمع صرخات الأيامى والنساء في جنبات الأرض تدوي وآمعتصماااه ،، ولا ناصر أو مجيب ، أبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!!
عندما أرى قهر الرجال، يتآمر عليهم حكامهم ، يبيعونهم بثمنٍ بخس دراهم معدودة، يصرخون واغوثااااه, ولا مغيث, أبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!!
عندما أرى الحرائر المغتصبات يحملن في أحشائهن نطف الروس المذرة, أبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!!
عندما أسمع صليل السيوف تبقر بطون الحوامل في الجزائر وكوسوفا والشيشان ولا من مغيث, أبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!!
لما رأيت الأطفال يُرمَون من فوق المآذن والقِباب، وقد جُدِعَت أنوفهم وقُطّعت آذانهم واجتثت حلاقيمهم، ولا من يد حامية أو ناصرة, بكيت خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!!
أنظروا للسماء فوقكم, بودها لو تتبرأ من صمتكم وغفلتكم, فأمسكت ماءها، ولو ملكت أمرها لحبست هواءها!!!
أفلا نبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال!!
عندما أرى العلماء ورثة الأنبياء على المنابر يصدوا عن سبيل الله بعلم وبغير علم ، لسان حالهم يقول: (( ... يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خليلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)) الفرقان29
أفلا نبكي خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال؟! كما بكى من قبلُ أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس حين سلّم المدينة لملك قشتالة راغماً في الثاني من ربيع الأول سنة 897 هـ، لتنتهي بذلك آخر الحواضر الإسلامية في الأندلس، فقد خرج وأسرته ليستقروا في البشرات حاكماً باسم فرديناند وتحت حمايته، وغادر غرف القصر وأبهاءه وهو يحتبس الزفرات في صدره، وسار بركب حزين. وعلى ضفة نهر شنيل التقى مع فرديناند وقدم إليه أبو عبد الله مفاتيح الحمراء قائلاً: " إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانية، ولقد أصبحْت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا، وهكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً". ولما أشرف على غرناطة وقف على صخرة سُميت فيما بعد : "زفرة العربي الأخيرة", ثم أجهش بالبكاء حسرة ولوعة، فصاحت به أمه عائشةُ الحرة: ( أجل، فلتبك كالنساء ملكاً ضائعا لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال). كتاب "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان رحمه الله ص184و186
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم, ادعو الله وأنتم موقنون بالاجابة فيا فوز المستغفرين, استغفروا الله...
الحمد لله وكفى .. والصلاة والسلام على نبيه المصطفى.. وعلى آله وصحبه ومن بهديهم اقتدى واهتدى.. أما بعد أيها الناس:
قضيةٌ عَظُمَتْ والناسُ رَاقِدَةٌ *** وَدَاؤُها مُعْضِلٌ والمعتدِيْ أَشِرُ
ما لي لا زلت أرى وجوهاً ليست منخرطة في العمل مع العاملين لإعزاز هذا الدين بإقامة خلافة المسلمين الراشدة الثانية على منهاج النبوة؟ لقد آن أوان المفاصلة ورب الكعبة، فاعقدوا العزم على التغيير، وكونوا من العاملين، وانزعوا عن أعطافكم رداء السكوت والخنوع، وانظروا أي سوادٍ تكثِّرون!! فإنكم آتون ربكم فرادى, فماذا ستجيبونه حين يسألكم عن سكوتكم وخنوعكم؟!!
فما ظنكم بمن يُؤخذ بناصيته ويقاد، وفؤاده مضطرب، ولبه حائر، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تنتفض، ولونه متغير، ولسانه وشفتاه قد نشَفا، وقد عضّ على يديه، وضاقت عليه أرض المحشر كأضيق من سَمّ الخِياط، مملوء بالرعب والخجل من علّام الغيوب, وقد أتي يتخطى رقاب الناس ويخترق الصفوف، وقد رفعت الخلائق إليه بصرها حتى انتهِيَ به إلى عرش الرحمن، فرموه من أيديهم، وناداه الواحد الديان, فدنى بقلب محزون خائف وجل، وطرف خاشع ذليل، وفؤاده متحطم متكسر، وأعطي كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فكم من حكم بما أنزل الله عُطّل وهو ساكت عنه فتذكّره,,,
وكم من منكر رآه فلم ينكره. وهل عمل لإيجاد من يتفقد شؤون أمته ، فيكون لليتيم أباً، ولابن السبيل مطعماً وهادياً، وللمسكين راعياً، وللضعيف قوةً وسنداً، وللمظلوم ناصراً ومنصفاً، يضرب على يد الظالم ، يحمي الثغور، ويقيم الحدود؟!!
وكم من صرخة "وا معتصماه" خرجت من أفواه نساء المسلمين في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان والشيشان فكان عنها أعمى وأصم,,,
وكم من أعراضٍ انتهكت تحت سمعه وبصره فلم يفكر في نصرتها وقال لا أسمع لا أرى لا أتكلم,,,
وكم من الحدود تعطلت منذ ضياع الخلافة؟!
يا الله... إن كنا سنُسأل عن كل حدٍ أزيل عن وجه الأرض، فأي أرض ستقلنا, وأي سماء ستظلنا؟؟
أترانا سنُسأل عمّن مات على غير الإسلام في أي بقعةِ من بقاع الأرض الشاسعة ؟؟؟
فيا ليت شعري بأي قدم نقف بين يدي الله، وبأي لسان نجيب، وبأي قلب نعقل ما يقول، وبأي يد نتناول كتابنا، بل وبأي عين ننظر لرب العالمين.
( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) مريم 95
هذا عمرُ بن عبد العزيز تَرِدُ إليه رسالةٌ من مِصَرَ بعثت بها إمرأة سوداء مسكينة تُسمى فرْتُونَةُ السوداء, مولاةُ ذي أَصبح, تذكر فيها أن لها حائطاً قصيراً وأنه يُقتَحُم عليها منه فيُسرَقُ دجَاجُها فكتب عمر رضي الله عنه فورا الى عامله في مصر أيوب بن شرحبيل رضي الله عنه ما يلي: (( من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل أما بعد: فإن فرتوتة مولاة ذي أصبح كتبت إلي تذكر قِصَر حائطها وأنه يُسرَقُ منه دجاجها وتسأل تحصينه لها فإذا جاءك كتابي هذا فأركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها)), ثم كتب عمر بن عبد العزيز إلى المرأة رداً على رسالتها (( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمرَ أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاةَ ذي أصبح بلغني كتابك وما ذكرت من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيه فيُسرق دجاجك فقد كتبت لك كتاباً إلى أيوب بن شرحبيل آمُرَه أن يبني لك ذلك حتى يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله والسلام )). البداية والنهاية
يا الله... تاقت أنفسنا للعيش في ظل مثل هؤلاء الخلفاء ولو للحظات... خليفة يخاف يوماً عبوساً قمطريراً, يخاف يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار, خليفة تُدوّي فعاله في الأرض قبل كلماته, خليفة يسوقنا إلى جنة عرضها السموات والأرض زمراً زمراً.
أفلا نبكي بعد كل هذا!!! فلا تلوموني إن جفت الدموع أن بكيت خلافة ضائعة لم نُحافظ عليها كالرجال...
فالأمر جِدّ لا هزل, الأمر جِدّ لا هزل... وهو يحتاج منا أن نصل ليلنا بنهارنا, لنُبريء الذمّة فتُكشفُ الغُمّة. ويكفينا تمني وتسويف, فإن طول الأمل جالب الأسقام وداء النيام, وهو حِبالة من حِبالات إبليس اللعين يقذفها في طريق إبن آدم فيأسره بها ! ليتحكم بعدها في أمره كما يشاء والعياذ بالله.
قال الحسن البصري رحمه الله: ( إن قوماً ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة, يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي, وكذب, لو أحسن الظن لأحسن العمل). وقال عون بن عبد الله رحمه الله: ( كم من مستقبل يوماً لا يستكمله ! ومنتظر غداً لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره).
أيها الناس: لقد طال التصاقكم بالأرض, فارفعوا أبصاركم إلى السماء, وازداد انهماككم في متاع الدنيا فالتفتوا إلى نعيم الأخرة, واجعلوا من دموعكم على خلافتكم الضائعة باعثاً للعمل والجدّ وتجديداً للعزيمة والإيمان, وليكن العمل مع العاملين لإقامة دولة الخلافة هو المَركِب الذي يحملكم إلى عزّ الدنيا والأخرة, وأجيبوا دعوة ربكم لكم, إذ قال: ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ). آل عمران133
فاللهمَّ أصلح لنـا ديننـا الذي هو عصمة أمرنـا, وأصلح لنـا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتـنـا التي إليها معادنا, واجعـل الحياة زيادة لنا في كـُـلِّ خير , واجعل الموت راحة لنا من كـُـلِّ شـر... اللهمَّ إنـَّـك تعلـمُ ذنـُوبنـا فاغفـرها, وتعلـم عُيوبنـا فاستـرها... وتعلم حاجاتنـا فاقضها يا قاضي الحاجات... اللهمَّ يا غنيُّ يا حميد, ويا مبدِئُ يا مُعيدُ, ياغـفـورُ يا ودودُ, ويا ذا العرش المجيدُ, يا فعَّال لما تـُريدُ, اجمع على الحقِّ كلمة المسلمين, وألّف بين قلوب عبادك المؤمنين... اللهمَّ أصلح ذات بينهم, وانزع الغلَّ والحسد والبغضاء من قلوبهم... اللهمَّ اجعل ولايتـنا فيمن خافك واتـَّـقاك, واتَّبَعَ في الحقِّ رضاك... اللهمَّ اجعـلنا من عبادك الصَّالحين, وأوليائك المفلحين, وجُـندك المنصُورين.

حُمَّ الأمر, وجاء النصر, فعلينا لا يُنصرون.


منقول