قينان الساحر ... وقينان الغبي


محمد السيف

ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن أرفخشذ بن سام بن نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان له ولد اسمه "قينان". وأن هذا الولد لم يرد له ذكرٌ في التوراة ولا في شيء من الكتب المنزلة لأنه كان ساحراً ! بل إنه تجرأ وادعى الألوهية لنفسه!!
ويذكر بدر الدين العيني في كتابه عمدة القارئ أن أهل التواريخ إذا ذكروا سلسلة النسب بين إبراهيم و نوحٍ ـ عليهما السلام ـ أسقطوا منها ذكر "قينان" بن أرفخشذ ، بسبب ما قيل عن اشتهاره بالسحر والدَّجل !
كان هذا في سالف الزمان وقديم الأوان ، فقينان الأكبر كان ساحراً صاحبَ دجل (حسب ما ينقله الطبري وغيره من أهل التواريخ ).

وأما قينان "الأصغر" ، المعاصر الذي يأكل ويشرب بواسطة الكتابة بجريدة الوطن ، فله صفة أخرى تختلف عن صفة قينان "الأكبر" ابن أرفخشذ.
قينان "الأصغر" له صفة تميز بها حتى صارت علماً عليه. لكنه ـ ولشدة فرحه بهذه الصفة ـ لم ينتظر حتى يمضى زماننا، ويأتي المؤرخون من بعدنا ليذكروا صفة قينان "ألأصغر" كما ذكروا من قبلُ صفة الساحر قينان "الأكبر".

لم ينتظر "الأصغر" إلى ذلك الحين، لأنه ـ فيما يبدو ـ يخشى أن يعبث المؤرخون بسيرته، ويكتموا أهم صفاته ومزاياه، فأحب أن يؤرخ لنفسه بنفسه.
في عدد يوم الخميس قبل الماضي من جريدة الوطن كتب قينان "الأصغر" نقداً لرجل الأعمال المعروف عبدالرحمن الجريسي، ومما قاله هناك : "حتى لا يظن الجريسي أو القراء أنني (( أستهبل ))، (( لابد أن أوضح لهم أنني من فرط غبائي )) وعدم قدرتي على التحليل والاستشراف لا أفهم هدف أيَّ شيء حتى أرى نتائجه أمامي". اهـ.

هذا ما قاله "الأصغر" عن نفسه بالنص ، فالغباء المفرط هي الصفة التي تميز بها قينان ، و التي حرص على تدوينها و تعريف القراء بها قبل فوات الأوان.
قينان يقول : أنا لا "أستهبل" لكن مشكلتي الغباء المفرط.
وتعلمون ـ أيها الأحبة ـ أن الغبي ليس بحاجة لأن يتكلف الغباء والهبل، لأن الله أغناه عن ذلك بما وهبه من غباء فطري، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والغباء ليس شراً محضاً، ولو لم يكن من فوائده إلا تقدير الناس لظروف الأغبياء، وعدم مؤاخذتهم في كثير من يقولون ويفعلون.

من أول ما قرأت تعقيب "صاحب الغباء المفرط" على مقالة الشيخ سعد البريك، وأنا أتحاشى التعليق على كلامه، لأني لو كتبت فلن أستطيع منع نفسي من وصفه ـ صراحةً ـ بالغباء. وأنا أعلم أن ذلك الوصف لن يروق للكثير من الأفاضل أصحاب الأدب الرفيع الذين سيبادرون بالقول : (لا تشتم الرجل وناقش أفكاره ) ، لكن ها هو قينان "الأصغر" يختصر علينا العناء ، ويقرُّ بأن مشكلته الكبرى تكمن في محتويات الرأس المحمول فوق كتفيه.
بدأت القصة ـ كما تعلمون ـ حين كتب الشيخ سعد البريك مقالةً تناول فيها مصطلح "الدولة المدنية" ، وذكر أن هذه اللفظة في الأصل يُعبَّر بها عن دولة لا تحتكم إلى دين، (حتى وإن كان البعض يستخدمها بحسن نية ).

والشيخ بكلامه هذا يشير لحقيقة قرَّرها الكثير من الباحثين في بيان أصل نشأة هذه اللفظة التي بدأ تداولها في حدود القرن السابع عشر الميلادي، عند احتدام النزاع في أوربا بين الكنيسة النصرانية والتيارات المناوئة لها. حيث حاول خصوم الكنسية التحرر من تسلطها عن طريق السعي إلى تأسيس دولة لا مدخل للدين في أنظمتها وقوانينها، وإنما تحتكم في شرائعها وقوانينها إلى عقد اجتماعي قائم على أساس المصلحة الدنيوية (المدنية ) بعيداً عن الخضوع لأي سلطة مقدسة بما في ذلك سلطة الدين.
حقيقة تاريخية معروفة كُتب فيها الكثير والكثير . والشيخ سعد البريك حين ذكر ذلك لم يخترع كلاماً من عند نفسه ، وإنما أكَّد على ما شاع وعرف لدى الباحثين أهل المعرفة والاختصاص. لكن "قينان" ـ وبحكم ثقافته الواسعة ، وغبائه المفرط ـ فوجئ بكلام الشيخ سعد، فكتب يقول متعجباً مستنكراً : "لم يسبق أن أحداً قال أو فهم أو استنبط أن الدولة المدنية تناقض الإسلام وتتصادم معه، لا من المنظرين المتخصصين في بلادنا أو العالم، ولا من العوام التواقين إلى دولة مدنية تحت ظلال الشريعة المحمدية السمحة، لم يفهم أو يستنبط أن الدولة المدنية تتناقض مع الإسلام إلا الدكتور سعد البريك".

هذا ماقاله الأصغر بنصه وحرفه، فهو بعد أن اطلع على كتابات العالم كله لم يجد أحداً قبل الشيخ سعد البريك (لا من المتخصصين ولا من العوام ) ذكر أن الدولة المدنية تتعارض مع الإسلام !!
ولو أن قينان ذكر رأيه الخاص، وقرَّرَ أنه لا يرى تعارضاً بين الدولة المدنية والإسلام لهان الأمر ، ولقلنا إن هذا رأي معروف لطائفة من الناس وإن كانوا مخطئين. لكنه أنكر أن يكون أحدٌ في العالم كله بطوله وعرضه ذكر هذا التعارض ، مع أن الكتابات في ذلك أكثر من أن يحاط بها. لهذا السبب قلت : إني لو علقت على كلام قينان فلن أستطيع منعَ نفسي من وصفه بالغباء المفرط، وهو ما وصف به نفسه لاحقاً ولله الحمد والمنه.

المضحك في القصة كلها أن قينان ـ في رده على الشيخ سعد البريك ـ كان يفصح عن غبائه المفرط بلغة الذكي المثقف المتعالي الواسع المعرفة ، فهو يخاطب الشيخ سعداً ويقول : "إذا خاض المرء فيما لا يحسن جاء بالبدع".

ويقول : إن "الدكتور سعد لا شك يملك مؤهلات الواعظ الجيد معرفة ولغة وخطابة في أمور العبادات والمعاملات، أما السياسة ومفاهيمها وتطبيقاتها، فلها أربابها المختصون فيها العارفون بكواليسها وظواهرها". ويزيد على ذلك ويقول : "أشعر أن الدكتور سعد البريك يحتاج إلى القراءة والاطلاع على الكثير من علوم الدنيا ليضيفها إلى ما لديه من محفوظات من علوم الدين".
هذا عبارات "الأصغر" بنصها، والتي تثبت بالفعل أنه يعاني من مشكلة في الفهم والإدراك لا بدَّ من مراعاتها عند التعامل معه.

في عدد الخميس الماضي، جاء كاتب آخر، لديه مشكلة قريبة من مشكلة قينان "الأصغر"، وهو أستاذ اللسانيات "الأكبر" د. حمزة المزيني، جاء لينتصر لصاحبه "قينان" ، فكتب مستغرباً من الدكتور سعد البريك لأنه في شرحه لمفهوم الدولة المدنية : "اقتصر على الاستشهاد بنصوص كثيرة لمصريين وفلسطينيين وعراقيين وتونسيين". ولأنه "لم يورد نصاً واحداً لكاتب سعودي عن مفهوم الدولة المدنية".
هذا أقصى ما استطاع أن يدافع به المزيني عن غباء صاحبه، ونسي أستاذ اللسانيات ( أو تناسى ) أن صاحبه "الأصغر" بسبب غبائه المفرط أنكر أن يكون أحدٌ في العالم كله (وليس في السعودية فقط ) يرى أن الدولة المدنية تعارض الإسلام. فأستاذ اللسانيات ـ عافاه الله ـ ظهر بصورة الأطرش في الزفة، حين أراد أن يشارك في حوار لا يدري شيئاً عن مضمونه ، ولا عن أي شيء يدور.

لكنَّ هذه النقطة لم تكن أطرف مافي مقالة المزيني، فقد تكلم ـ كالعادة ـ عن تيار الإسلام السياسي، وذكر أن هذا التيار ترخَّص في إطلاق وصف "الليبرالية" و"العلمانية" على كتاب سعوديين. ثم قال : "ولما كان هؤلاء لا يملكون دليلاً واحداً مقنِعاً على صحة انطباق أي من الوصفين على سعوديين معينين فإنهم يعمدون إلى الغموض الذي يرون أنه يمكن أن يمنع عنهم خطر المساءلة".

وموضع الطرافة في هذا الكلام أن د. المزيني كتبه يوم الخميس بجريدة الوطن دفاعاً عن "قينان" الأصغر. وفي اليوم التالي كتب "قينان" بنفسه، وفي الجريدة نفسها يقول : "إن في بلادنا المملكة العربية السعودية تيارين سياسيين واضحين، الأول والأقدم والأضعف هو "التيار الوطني الليبرالي" المتدثر بعباءة الإصلاح ... والتيار الثاني، هو تيار "الإسلام السياسي" وهو الأحدث والأقوى والأكثر جماهيرية".

فإذا كان د. حمزة المزيني لا يثق بأصحاب "الإسلام السياسي" ولا يصدق كلامهم، و يريد أن يعرف من هم السعوديون الذي ينطبق عليهم وصف "الليبرالية" فليسأل صاحبه "الأصغر" الذي يدافع عنه ليخبره عن رموز التيار "الوطني الليبرالي" الذي يتدثر بعباءة الإصلاح. ولعله يسأله ـ أيضاً ـ عن سبب تعمُّده الغموض في ذكر هذا التيار، وهل مقصوده منع خطر المساءلة عن نفسه.

لندع الآن أستاذ اللسانيات، ولنرجع لصاحب الغباء المفرط. ففي مقالته الأولى عن الشيخ سعد البريك قال : "أنا أعرف أن الدكتور البريك لا يملك ولا يستطيع أن يقدم دليلاً واحداً ، واحداً فقط على أن بين ظهرانينا، ومن مواطنينا السعوديين، من يشكك في الإسلام أو يتربص بالوطن أو القيادة لا سراً ولا جهراً".
أيها الأحبة : اقرأوا هذا الكلام جيداً ، وانظروا كيف جزم "الأصغر" أنه لا يوجد مواطن سعودي يشكك في الإسلام، أو يتربص بالوطن والقيادة لا سراً ولا جهراً.

اقرأوا هذا الكلام، ثم ارجعوا معي قليلاً إلى الوراء لمدة شهر واحد فقط، وسوف تجدون صاحب الغباء المفرط كتب مقالةً ينتقد فيها قاضياً حكم بالتفريق بين امرأة سنية وزوج إسماعيلي المذهب، وذكر "قينان" في مقالته تلك أن من بيننا جهلاء وهمجاً ومغرضين، ثم قال : "هم جهلاء فعلاً لأنهم لا يعرفون ولا يفهمون سماحة إسلامنا ووسطيته. وهم همج لأنهم لا يدركون خطورة ما يفعلون. وهم مغرضون إذا كانوا يفهمون ويدركون، لأنهم يستهدفون (فعلاً ) عقيدتنا، ووحدتنا الوطنية".
انظروا لحجم هذا التناقض الصارخ لتدركوا حجم المصيبة التي يحملها "الأصغر" فوق كتفيه. فقينان في أحد المقالين يرى أن هناك من بيننا من يستهدف (فعلاً ) عقيدتنا ووحدتنا الوطنية. لكنه بعد شهر واحد صار متأكداً أن الشيخ البريك لا يستطيع أن يقدم دليلاً واحداً على أن بين ظهرانينا من يشكك في الإسلام أو يستهدف الوطن والقيادة لا سراً ولا جهراً!

فمن الواضح أن الغاية التي يريد أن يصل إليها "قينان" هي التي تحدد وجود الأعداء من عدمهم. فإذا كان "الأصغر" يهدف للاستعداء واستثارة الدولة، فهناك ( فعلاً ) أعداء يستهدفون ديننا ووحدتنا الوطنية لا بدَّ أن تقف الدولة في وجوههم. و أما إذا كان في مقام الدفاع عن "الليبراليين الوطنيين" فليس هناك أحدٌ يستطيع أن يقيم دليلاً واحداً على وجود مواطن سعودي يشكك في الإسلام أو يستهدف الوطن.
نقطة أخيرة وقفت معها طويلاً في مقالة "الأصغر" عن المجتمع المدني، ولم أستطع منع نفسي من الضحك وأنا أقرأها . فقد قال المحروس للشيخ سعد : "أحب أن أوضح للدكتور نقطتين. أولاهما : أن التخصص مطلب ديني وعقلي وحضاري ... ". وقال : "أنا أربأ بالدكتور الذي يعظ الناس صباحاً ومساءً أن يغالط، لكنني أقولها بصراحة، إذا خاض المرء فيما لا يحسن جاء بالبدع".

هذا الكلام الذي خطه "قينان" بيده لا يُبقي مجالاً للشك في حقيقة المشكلة العقلية التي يعاني منها "الأصغر". فهو يُذَكِّر ويعظ بأن المرء إذا خاض فيما لا يحسن جاء بالبدع، وينادي بأن التخصص "مطلب ديني ، وعقلي ، وحضاري". فإذا تذكرتم الآن كم مرةً خاض المحروس فيما لا يحسن سابقاً، وإذا رأيتموه لاحقاً يناقش مسألة تتعلق بالشرع من حيث التحليل والتحريم، أو يخوض في أحكام الخلوة والاختلاط والحجاب. أو رأيتموه ينتقد قاضياً حكم في مجال تخصصه، فاعلموا أن الغباء المفرط أنساه أن التخصص مطلب ديني وعقلي وحضاري، وأن من خاض فيما لا يحسن جاء بالبدع.
وكذلك إذا قرأتم مقالته الأخيرة التي قرَّر فيها أن السعودية ليست دولة "دينية"، فاعلموا أن غباءه المفرط هو الذي جعله يتصور أنه يمدح بلده حين يقرِّر ويعلن للآخرين أنها دولة ((لا دينية )) !!
----------------------
للكاتب / محمد بن سيف