الوسطية والطَرَفيّة
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
هذا مقالٌ للعبد الفقير، نشره موقع الألوكة، ولكن بعد أن اقتُطِعَ منه بعضُه للأسف !
وهذا هو:
يكثر في هذه الأيام استخدام مصطلح «الوسطية».
وأصلُ هذا المصطلح مأخوذٌ من قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية:
«والوسط ـ ها هنا ـ: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسباً.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها.
ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ الحج : 78]». [1]
ثم روى ابنُ كثير حديثَ الإمام أحمد الذي أخرجه في «مسنده» عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
قال: «الوسط : العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» [2].
فالوسطية ـ بالاستنارة بما سبق ـ ليست مصطلحاً مطّاطاً يُطوِّعُهُ كلُّ أحدٍ لتبرير ما يراه، ويفعله؛ كما هو شائعٌ في هذه الأيام !
حيث إنّ كلّ داعيةٍ إلى أمرٍ يُزينُه بزينة الوسطية، ويحلّيه بحلية الحكمة والاعتدال !
إنّ مرتكز الوسطية الذي تقوم عليه هو ـ كما في الحديث الشريف السابق ـ العدالة.
و«العدالة في اللغة ـ: الاستقامة، وفي الشريعة: عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور ديناً» [3].
فالاستقامةُ هي أسُّ الوسطية، وليس من الوسطية في شيءٍ الانحرافُ يَمنةً أو يَسرةً، بأيِّ مسوِّغٍ يأتي به المنحرف.
فالمَيلُ نحو التشدُّد والتنطُّع والتعسير على النفس أو الغير انحرافٌ عن منهج الإسلام الأصيل.
والميلُ نحو التفلُّت والتراخي في الأحكام الشرعية، والتملُّص من حدود الله، واختراع أحكام جديدةٍ تنقض الأحكام الثابتةَ انحرافٌ من نوعٍ آخر.
وكلا الانحرافين طرَفيّةٌ مذمومة، والوسطية قائمةٌ بالحقّ بينَهما.
يقول ابن القيم رحمه الله:
«وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو.
ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه؛ كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.
فكما أن الجافيَ عن الأمر مُضيِّع له؛ فالغالي فيه مضيِّع له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه الحد»[4].
الذي أفهمه أنّ الوسطية: ليست جماعةً بعينِها، لا مذهباً فكرياً ولا فقهياً، ولا طريقةً صوفيةً ولا غير ذلك؛ بل كلّ ذلك إلا ما خرج عن دائرة أهل السنة والجماعة الكبرى.
والوسطية: هي السنة المطهّرة، والهدي النبويُّ الحكيم، فإذا كانت الأمة بجملتِها وسطاً، فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام أوسطُها على الإطلاق، وهو الميزان الذي توزن به الأمور، والمقياس الذي تُقاسُ به الأشياء.
وما وافقَ هديَه الرفيق وشريعته السمحة؛ فهو العروة الوثقى، وما باينه فهو باب الضلال والبَوار.
والوسطية: هي الرّاجح دليلاً من الكتاب والسنة، والضعيفُ والشاذّ ليس من الوسطية في شيء، ولو صلح لتطبيقٍ محدودٍ على سبيل الترخُّصِ في حالاتٍ بعينِها دون تعميم
الوسطية: هي عدم إلغاء الخلاف الاجتهادي السائغ، وأعني بالسائغ: ما اختلف به فطاحلُ العلماء قديماً وحديثاً.
الوسطية: ليست اتهام المخالف بالتطرُّف والتشدُّد؛ لمجرّد أنه يخالفُ ما أراه.
الوسطية: هي يُسر الإسلام، وليس اليُسرُ معناه: أسهل الأقوال وأخفّها، بل أرجحها وأقواها، بل وأحوطها وأتقاها؛ لأن الخروج من الخلاف واتقاء الشبهات من هديِ حبيبنا صلى الله عليه وسلم.
الوسطية: لا تعني تلميعَ ديننا في عيون غير المسلمين، بل الاعتزازَ به، والافتخارَ بأحكامه، رضيَ من رضيَ وسخِط من سخِط.
الوسطية في التفكير والاجتهاد: هي تحرّي مرضاة الله، وموافقة مقاصد شريعته، والتمسُّك بما هو الأرجح دليلاً مرادُهُ في نصوص الوحيَين.
الوسطية: هي التعامل مع التراث تعاملَ تقديمٍ لا تقديس، والتمييز بين ما قُرِّرَ من الأحكام متأثِّراً بظروفٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ خاصّة، وبين ما قُرِّرَ دون ذلك التأثُّر عارياً عن التخصيص بزمانٍ أو مكانٍ، وعدم الخلط عمداً أو سهواً بين هذين النوعين.
فنسيان الأول يعني قولبة الأمة في قوالب الجمود والتحجُّر وتأليه الرجال، وعصمة غير المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وتناسي الثاني تمييع للدين، وحلٌّ لمفاصلِ الشرع، ومقاطع الأحكام الراسخة، وخروجٌ ـ عاجلاً أو آجلاً ـ مما قد يظنُّ الظانُّ أنه لن يمسَّ به من المسلّمات؛ لأن من مشى الدربَ وصلَ به إلى غايته.
الوسطية: هي الواقعية التي تفرضُ عدم إيقاع الناس في عنتٍ ناتجٍ عن إسقاطِ واقعٍ مجلوبٍ من مكانٍ أو زمانٍ آخَرَين، ومن لم يكن عالماً بأهل زمانه فهو جاهل.
وجهله ليس لأنه لا يحفظُ النصوص، بل لأنه لا يعرف كيف الاستنباطُ منها لتصنيع أدوية الأمراضِ الناشئة المتجدّدة المتغيّرة.
واستخدام علاجٍ مجرَّبٍ نجعَ مع مرضٍ ما لا يعني بالضرورة أنه ناجعٌ مع مرضٍ ثانٍ، بل هو بالضرورة مسبّبٌ لتفاقم المرض الجديد لسببين:
- حجب المصل المضادّ عن البدن العليل.
- وإفساد هذا البدن بما لا ينفعه ـ بل بما يضرّهُ ـ من العقاقير !
الوسطية: هي نشوءُ أجيالٍ من رجالٍ يسيرون على درب الرجال الأوائل، يُتمّون ما بدؤوا، ويكملون ما به شرعوا، دون أن يتخذوا من أنفسهم عبيداً للسابقين، ولا أن يتعاظموا في أعيُن أنفسهم حتى لا يرَوا من سبَقَهم من السالفين.
ربِّ ما كان في قولي صواباً فمنك اللهمّ وحدك، وما كان خطأً فمني وأنت ورسولُك منه بريئان.
وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه
والحمد لله رب العالمين

[1] «تفسير ابن كثير» 2/111.

[2] «مسند الإمام أحمد» برقم 3/32.
والحديث في الصحيحين: «صحيح البخاري» برقم (3339)، وغيره بنحوه.

[3] «التعريفات» للجرجاني ص 152.

[4] «مدارج السالكين» 2/496.