رثاء شيخ الإسلام محمد العثيمين
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى
تَألِيْفُ
ذِيَابِ بنِ سَعَدٍ آلِ حَمْدَانَ الغَامِدِيِّ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى عَبْدِه ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ .
أمَّا بَعْدُ : فَمَعَ غُرُوْبِ شَمْسِ يَوْمِ الأرْبِعَاءِ النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ لِعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ ووَاحِدٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ (1421)؛ جَاءنِي مَا كُنْتُ أُحَاذِرُهُ، والحَذَرُ مِنَ القَدَرِ سَفَاهَةٌ وعَمَايَةٌ : بأنَّ شَيْخَنا مُحَمَّدَ العُثَيْمِيْنِ مَاتَ اليَوْمَ!
فَحِيْنَئِذٍ مَا كَانَ لِي أنْ أحْبِسَ دَمْعًا ظَنَنْتُهُ عَصِيًّا!، فَعِنْدَهَا فَاضَتِ العَيْنَانِ، وبَرَدَ اللِّسَانُ، ولَمْ أَمْلِكْ عِنْدَها إلاَّ تَرْجِيْعَاتٍ ورَحَمَاتٍ أُرَدِّدُها ... نَرْبِطُ بِهَا خَفَقَانَ قُلُوْبِنَا، ونَتَسَلَّى بِهَا فِي مُصَابنَِا!
ومَا عَليَّ أنْ أُرِيْقَ دَمْعًا مَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا، ولا لَقْلَقَةً، وهَلْ يَمْلِكُ مِثْلِي سِوَى دَمَعَاتٍ طَالَمَا جَنَّدَهَا وجَيَّشَهَا لِيَوْمِ الكَرِيْهَةٍ ؟!، والمَوْتُ حَقٌّ لاشَكَّ فِيْه!
وقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ :
لَعَلَّ انْحِدَارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ رَاحَةً مِنَ الوَجْدِ أو يَشْفِي شَجِيَّ البَلابِلِ
وهَذَا الفَرَزْدَقُ أيْضًا فِي نَفْسِ المَعْنَى :
ألَـمْ تَـرَ يَوْمَ جَوِّ سُوَيْقةٍ بَكَيْتُ فَنَادَتْني هُنيْـدَةُ مَـا لِيَا
فَقُلْتُ لَهَا إنَّ البُكَاءَ لَرَاحَةٌ بِه يَشْتَفِي مَنْ ظَنَّ أنْ لا تَلاقِيَا
نَعَمْ؛ مَاتَ حَسَنَةُ الوَقْتِ، وكَهْفُ العِلْمِ ... يَوْمَ نَحْنُ أحْوَجُ مَا نَكُوْنُ إلَيْهِم مِنَ الطَّعَامِ والشَّرَابِ؛ فِي زَمَنٍ تَكَاثَرَتْ رُوَيْبِضَاتُه، وطُفِّفَتْ مَوَازِيْنُه، وأقْبَلَتْ فِتَنُهُ كأمْوَاجِ لَيْلِ الدَّالِجِيْنَ!* * *
وَهَلْ كَانَ البَقَاءُ يَوْمًا لأحَدٍ مِنَ العَالَمِيْنَ؟! لا؛ فَهَذِه تَعْزِيَةٌ فَخُذْهَا يَوْمَ تَقِلُّ التَّعَازِي!
فَرَحِمَكَ اللهُ : أبَا عَبْدِ اللهِ!؛ فإنْ عَزَّتْ حَيَاتُكَ فَلَقَدْ هَدَّتْ وَفَاتُكَ، ولَنِعمَ الرُّوْحُ رُوْحٌ ضَمَّهُ بَدَنُكَ، ولَنِعْمَ البَدَنُ بَدَنٌ ضَمَّهُ كَفَنُكَ!، فَطِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا، وإنْ كَانَتْ أنْفُسُنا غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِفِرَاقِكَ، ولا شَاكَّةٍ فِيْما اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ!، فَقَدْ شَهَرَك ربُّكَ عِنْدَ مَوْتِكَ بِفَضْلِكَ، وألْبَسَكَ رِدَاءَ عَمَلِكَ، فَلَوْ رَأيْتَ مَنْ حَضَرَكَ عَلِمتَ : أنَّ رَبَّكَ قَدْ أكْرَمَكَ وشَرَّفَكَ، واللهُ حَسِيْبُكَ ! وعِنْدَه يَقُوْلُ غَيْرِي :
ومَا الدَّهْرُ والأيَّامُ إلاَّ كَمَا تَرَى رَزِيَّةُ مَـالٍ أو فِرَاقُ حَبِيْبِ
أمَا واللهِ! لَئِنْ فَاتَنِي أنْ أُصَلِّيَّ عَلَيْكَ صَلاةَ الحَاضِرِيْنَ، لا فَاتَنِي حُسْنُ الثَّنَاءِ عَلَيْكَ قُرْبَةً لِرَبِّ العَالَمِيْنَ، و"هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ"؟!، وحَسْبِي قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ :"لا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لا يَشْكِرِ النَّاسَ" التِّرْمِذِيُّ، وهُوَ تَصْدِيْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى : "وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُوْرُ"!* * *
نَعَمْ؛ قَدْ يَكْتُمُ بَعْضُ الشَّاكِرِيْنَ شُكْرَهُم حَالَ حِرَاكِ المَشْكُوْرِيْن َ، رَجَاءَ حَاجَةٍ فِي نُفُوْسِهِم، أو غَيْرَ ذَلِكَ!؛ أمَا وَقَدْ أُسْلِمَ المُتَفَضِّلُ فِي قَبْرِهِ، أو سُجِّيَّ فَوْقَ نَعْشِهِ؛ فَحِيْنَئِذٍ لا، يَوْمَ لا خَوْفَ ولا رَجَاءَ عِنْدَ مَنْ لا حِرَاكَ لَهُ؛ إلاَّ مِنَ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوْتُ (سُبْحَانَهُ)!* * *
وبَعْدَ هَذَا؛ لا يَخْفَى أهْلَ الذِّكْرِ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ كَتَبُوا الكَثِيْرَ عَنْ سِيْرَةِ وتَرْجَمَةِ الشَّيْخِ العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ، لاسِيَّما طُلابُه وعَارِفُوْه، إلاَّ أنَّ مَا كُتِبَ عَنْه لَمْ يَبْلُغْ بَعْضَ حَقِّهِ فَضْلاً عَنْ حَقِّه!، وعُذْرُهُم ( وَفَّقَ اللهُ الجَمِيْعَ ) أنَّهُم تَرْجَمُوا لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ .* * *
ومِنَ المَعْلُوْمِ : أنَّ مَا يُكْتَبُ للشَّخْصِ بَعْدَ مَمَاتِه أوْسَعُ آفَاقًا، وأسْلَمُ وِفَاقًا مِمَّا لَوْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ ( لأمْرٍ أو لآخَرَ! )، فَحِيْنَئِذٍ لا عُذْرَ لِمُتَرْجِمٍ بَعْدَ الآنَ!
فَقَمِنٌ لِشَادِي العِلْمِ إذَا مَا أجْمَعَ أمْرَه، وشَدَّ مِأزَرَه فِي جَمْعِ تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ؛ أنَّه سَيَجِدُ مَنْهَلاً ومَعِيْنًا فَيَّاضًا يَرْوِي غُلَّةَ الطَّالِبِ، ويَشْفِي عِلَّةَ السَّائِلِ، فَدُوْنَكُم سِيْرَتَه الزَّاخِرَةَ فِي أعْطَافِ ومَثَانِي ومُقَدِّمَاتِ المُؤلَّفَاتِ والمُصَنَّفَاتِ ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَظَانِّ المَعَارِفِ والتَّرَاجِمِ؟!* * *
ومِنْ قَبْلُ؛ فَعَوْذًا باللهِ ولَوْذًا بِه!؛ أنْ يَتَرَامَى أقْزَامٌ فِي غَيْرِ مَيَادِيْنِهِم، أوْ تَتَنَافَسُ أقْلامٌ فِي غَيْرِ فُنُوْنِهَا يَوْمَ يَتَسَارَعُ مَنْ لَيْسَ أهْلاً (فِي عِلْمِه وقَدْرِه)([1])، فِي تَرَاجِمِ سِيْرَةِ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ دُوْنَ رَوِيَّةٍ أو بَصِيْرَةٍ، ظَنًّا مِنْهُم أنَّهُم يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا، أو يَعْرِفُوْنَ وَضْعًا، لا وَاللهِ! مَا هَذا إحْسَانٌ ولا عِرْفَانٌ؛ بَلْ سُوْءٌ وبُهْتَانٌ!، وهَلْ يَقْبَلُ أحَدٌ مِنَ العَاقِلِيْنَ سِيْرَةَ الأئِمَّةِ الكِبَارِ إلاَّ مِنْ أقْلامِ أسَاطِيْنِ العِلْمِ، أو مُقَارِبِهِم، فإنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ طُلاَّبِه النَّابِغِيْنَ، وخَوَاصِهِ المُلازِمِيْنَ؟ !* * *
ولأجْلِ هَذا أو ذَاكَ؛ جَهَدْتُ نَفْسِي، وأشْهَرْتُ قَلَمِي عَسَانِي أكْتُبُ مَا أحْسِبُه مِنْ بِرِّ الطَّالِبِ لشَيْخِه، أو إبْرَاءِ ذِمَّةٍ نَذَرَها فِي حَقِّ أشْيَاخِه، عِلْمًا أنَّنِي كَمَا ذَكَرْتُ آنِفًا لَنْ أُحِيْطَ بشَيْخِنَا تَرْجَمَةً حَافِلَةً تَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ، وتُطْرِبُ السَّامِعِيْنَ لضِيْقِ الوَقْتِ، وقِلَّةِ البُضَاعَةِ والمَعْرِفَةِ بِمَدَاخِلِ ومَخَارِجِ الشَّيْخِ؛ فِي حِيْنَ أنَّ هُنَالِكَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ وطُلابِه مَنْ هُوَ أجْدَرُ وأقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ وفَوْقَه، ونَحْنُ وغَيْرُنا عَلَى انْتِظَارٍ مِنْهُم، والعُهُوْدُ وُعُوْدٌ([2])!* * *
فعِنْدَئِذٍ؛ سَأُبْدِي لَكَ أيُّها القَارِئ الكَرِيْمُ مَا جَادَ بِه قَلَمِي، ونَظَرَتْهُ عَيْنَاي، وسَمِعَتْهُ أُذُنَاي عَنْ شَيْخِِنا وشَيْخِ عَصْرِه بِلا مَيْنٍ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ وَمَضَاتٍ، ونُتَفٍ مُخْتَصَرَةٍ تَبْصِرَةً للسَّائِلِيْنَ، وعَوْنًا للمُتَرْجِمِيْن َ، أمَّا التَّوَسُّعُ فِي سِيْرَةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ؛ ابْتِدَءً مِنْ مَرَاحِلِ تِعْلِيْمِهِ، وانْتِهَاءً بِسَرْدِ كُتُبِهِ، وشُيُوْخِه، وتَلامِيْذِه ... إلخ؛ فَلَيْسَ شَرْطِي هُنَا.
أقُوْلُ؛ وباللهِ التَّوْفِيْقُ :* * *
هُوَ شَيْخُنا أبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ صَالِحٍ بنِ عُثَيْمِيْنَ الوَهَيْبِيِّ التَّمِيْمِيِّ، وُلِدَ فِي السَّابِعِ والعِشْرِيْنَ مِنْ رَمَضَانَ لعامِ ألْفٍ وثَلاثَمَائَةٍ وسَبْعَةٍ وأرْبَعِيْنَ للهِجْرَةِ عَلَى صَاحِبِها أفْضَلُ الصَّلاةِ وأتَمُّ التَّسْلِيْمِ .
فَهُوَ شَيْخُ الإسْلامِ، وأحَدُ الأئِمَّةِ الأعْلامِ، نَاصِرُ السُّنَّةِ وقَامِعُ البِدْعَةِ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، وقُدْوَةُ الخَلَفِ، الفَقِيْهُ، الأُصُوْلِيُّ، المُفَسِّرُ، النَّحْوِيُّ، كَمَا لَهُ مُشَارَكَاتٌ فِي فُنُوْنٍ كَثِيْرَةٍ، حَتَّى إنَّك إذَا سَمِعْتَهُ يَتَكَلَّمُ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُوْنِ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ، قُلْتَ (بَدَاهَةً) : مَا أظُنُّ الشَّيْخَ يُحْسِنُ أمْثَلَ مِنْ هَذَا!، ومَعَ هَذا التَّفَنُّنِ فِي عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ، والنُّبُوْغِ العِلْمِيِّ الرَّاسِخِ الَّذِي حَصَّلَهُ الشَّيْخُ مِنْ بَيْنَ أقْرَانِه، كَانَ (أيْضًا) آيَةً فِي أُصُوْلِ الدِّيْنِ والفِقْهِ واللُّغَةِ، حَيْثُ تَرَكَ خَلْفَهُ جِبَالاً جُدُدًا وزَمَائِلَ مِنَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِمَّا تَنُوْءُ بِهِ أوْلُو العُصْبَةِ مِنَ أهْلِ العِلْمِ الأشِدَّاءِ، سَوَاءٌ عَبْرَ الأشْرِطَةِ (الكَاسِيْتِ) المَسْمُوْعَةِ، أو المُؤلَّفَاتِ الَّتِي حَرَّرَهَا، أو الفَتَاوَى الَّتِي أمْلاهَا هُنَا وهُنَاكَ، أو مَا حَفِظَهُ لَهُ طُلاَّبُه مِنْ بَدِيْعِ الفَوَائِدِ، وعَوِيْصِ المَسَائِلِ مَا تَسْتَحِقُّ أنْ تُنْظَمَ فِي عِقْدٍ مِنَ الزَّبَرْجَدِ وذَلِكَ ضِمْنَ مُؤلَّفٍ بَدِيْعٍ، وهُوَ كَذَلِكَ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا شَغَلَ النَّاسَ بَعْدَهُ مِنَ المَعَارِفِ والعُلُوْمِ!
كَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَالِي القَدْرِ، سَامِي الذِّكْرِ، ثِقَةً، أمِيْنًا، صَادِقًا، حُجَّةً فِيْمَا يَقُوْلُه، مُحَصِّلاً لِمَا يَحْكِيْهِ، صَنَّفَ كُتُبًا كَثِيْرَةً، وجَمَعَ عُلُوْمًا جَمَّةً، وانْتَفَعَ بِه خَلْقٌ عَظِيْمٌ؛ لا يُحْصَوْنَ!* * *
وطَارَتْ فَتَاوَاهُ بِلا جَنَاحَيْنِ، وسَارَ بِها الرُّكْبَانُ بين المَشْرِقَيْنِ، صَاحِبُ الفُتْيا الوَاسِعَةِ، والتَّصَانِيْفِ النَّافِعَةِ، فَتَصَانِيْفُه فِي العَالَمِيْنَ دَائِرَةٌ، وكُتُبُه فِي الخَافِقِيْنَ سَائِرَةٌ مَا بَيْنَ تَألِيْفٍ مُفِيْدٍ، أو شَرْحٍ سَدِيْدٍ، أو تَعْلِيْقٍ مَجِيْدٍ ...!
وكَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَالِمًا بَارِعًا فِي عُلُوْمٍ كَثِيْرَةٍ، ورَاسِخًا فِي مَذْهَبِ أبِي عَبْدِ اللهِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ، فَهُوَ إمَامُ الحَنَابِلَةِ فِي عَصْرِه، بَلْهَ عَالِمُهُم ومُدَرِّسُهُم، ونَاشِرُ المَذْهَبِ فِي الأفَاقِ بلا شِقَاقٍ، وكَانَ حَسَنَ الكَلامِ فِي مَسَائِلِ الخِلافِ، كَمَا لَهُ كِتَابَاتٌ ومُرَاسَلاتٌ كَثِيْرَةٌ بِخَطِّ يَدِه؛ وفِي خَطِّهِ رَدَاءةٌ مَلِيْحَةٌ!
ولَهُ تَخَارِيْجُ حَسَنةٌ فِي المذْهَبِ، كَمَا جَمُلَ بِه المَذْهَبُ وَزَانَ، ولَهُ تَحْقِيْقَاتٌ فِي كَثِيْرٍ مِنَ المَسَائِلِ المَشْهُوْرَةِ فِي المَذْهَبِ، وتَرْجِيْحَاتٌ مُسَدَّدَةٌ فَدُوْنَكَ كِتَابَه العُجَابَ المُسْتَطَابَ "الشَّرْحُ المُمْتِعُ"، كُلُّ ذَلِكَ أخْذًا بنَاصِيَةِ الدَّلِيْلِ لا التَّعَصُّبِ والتَّقْلِيْدِ، كَمَا لَهُ مُشَارَكَاتٌ فِي الشِّعْرِ لاسِيَّمَا إنْشَادِ المَنْظُوْمَاتِ فِي الفِقْهِ والأُصُوْلِ وغَيْرِهِما.
وقَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْه الكَلِمَةُ، وقَصَدَه الطَّلَبَةُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وقَامَتْ سُوْقُ العِلْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَمَرَّةً يَأخُذُ بأيْدِي الشُّدَاةِ إلى وَاحَاتِ اللُّغَةِ ابْتِدَاءً بـ"الآجُرُّوْمِ َّةِ"، وانْتِهَاءً بشَرْحِ "ألْفِيَّةِ ابنِ مَالِكٍ"، ومَرَّةً يَبْسُطُ "الكَافِي" فِي الفِقْهِ شَرْحًا وتَعْلِيْقًا ومِنْ قَبْلِهِ "زَادَ المُسْتَنْقِعِ" ومَرَّةً يَشْرَحُ "صَحِيْحَ البُخَارِي"، ومَرَّةً يُرَوِّضُ النُّفُوْسَ عَلَى كُتُبِ الآدَابِ تَنْكِيْتًا وشَرْحًا كـ"رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ" وغَيْرُهَا الكَثِيْرُ الكَثِيْرُ!* * *
وقَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُرَسِّخُ التَّوْحِيْدَ فِي قُلُوْبِ الطَّالِبِيْنَ مُبْتَدِءً بِكُتُبِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ؛ حَتَّى يَرْتَقِي بِهِم إلى مَدَارِجِ كُتُبِ شَيْخَي الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَةَ وتَلْمِيْذِه ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُمَا اللهُ، وهَكَذَا دَوَالِيْكَ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ وَاحَاتِ العِلْمِ ورِيَاضِ التَّعْلِيْمِ!
فَتَرَاهُ يَصُوْلُ ويَجُوْلُ كَاللَّيْثِ فِي مَيَادِيْنِ العِلْمِ : مُعَلِّمًا ومُتَعلِّمًا، ودَارِسًا ومُدَرِّسًا؛ فَلا تَفْتَرُ لَهُ عَزِيْمَةٌ، ولا تَضْعَفُ لَهُ إرَادَةٌ، ولا تَكِلُّ لَهُ هِمَّةٌ ... وهَلْ دَرْسُهُ وإفْتَاؤُهُ فِي الحَرَمِ المَكِّيِّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لهَذِه السَّنَةِ (1421) وهُوَ طَرِيْحُ الفِّرَاشِ عَنَّا ببَعِيْدٍ؟!
فَهُوَ البَحْرُ لا سَاحِلَ لَهُ، ولا يُشَقُّ لَهُ غُبَارٌ، فأنَّى جِئْتَهُ وَجَدْتَّهُ؛ يَوْمَ فَازَ بقَصَبِ السَّبْقِ، وحَازَ القِدْحَ المُعَلَّى فِي حَلَبَةِ العِلْمِ والتَّعْلِيْمِ!
إذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوْهَا فإنَّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
وقَدْ تَخَرَّجَ بِهِ أئِمَّةٌ، ومَشَاهِيْرُ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، وأسَاتِذَةُ الجَامِعَاتِ، وأعْيَانُ البِلادِ؛ ومَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَسْتَطِيْعُ أنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدِيْه هَيْبَةً ووَقَارًا لِغَزَارَةِ عِلْمِهِ، وقُوَّةِ حُجَّتِهِ، وحِدَّةِ ذَكَائِهِ، ووُفُوْرِ عَقْلِهِ، وفَوْقَ هَذَا رَأى النَّاسُ مِنْ تَلامِيْذِهِ مَنْ نَاظَرَ ودَرَّسَ وأفْتَى فِي حَيَاتِهِ، فَأَكْرِمْ بِثِمَارٍ جَنَتْها يَدَاكَ بَعْدَ أنْ رَعَتْهَا عَيْنَاكَ!* * *
وكَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَظِيْمَ الحُرْمَةِ، وَافِرَ الجَلالَةِ، ذَا حُشْمَةٍ ووَجَاهَةٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ، والأعْيَانِ، ومَعَ هَذَا أيْضًا لَمْ يَفْتَأ رَحِمَهُ اللهُ يَتَألَّفُ الغُرَبَاءَ ويُقَرِّبُهُم، ويتَلَطَّفُ بِهِم، حَتَّى صَارَ مِنْ أخِصَّاءِ تَلامِيْذِهِ بَعْضُ العَجَمِ، وكَانَ يَتَفَقَّدَهُم، ويَسْألُ عَنْ حَالِهِم، ولَقَدْ صَحِبَهُ ثُلَّةٌ مِنْ أهْلِ المَذَاهِبِ فَرَجَعُوا عَنْ مَذَاهِبِهِم لِمَا شَاهَدُوْهُ فِيْهِ مِنْ فَقَاهةِ النَّفْسِ، وفِقْهِ الشَّخْصِ عِنْدَ تَقْرِيْرِ الدَّلِيْلِ، وتَحْرِيْرِ التَّعْلِيْلِ، ومَا ذَاكَ إلاَّ أنَّ الدَّلِيْلَ دَلِيْلُهُ، والتَّعْلِيْلَ الصَّحِيْحَ أنِيْسُهُ!* * *
كَمَا كَانَ رَحِمَهُ اللهُ مُتَوَاضِعًا فِي مَلْبَسِه ومَأكَلِهِ لا تَرَى عَلَيْهِ أثَرَ الفَارِهِيْنَ، أو لُبْسَةَ المُتَنَعِّمِيْ نَ؛ بَلْ أثَرُ الزُّهْدِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وعَلامَةُ الخُشُوْعِ والتَّوَاضُعِ عَلَى قَسَمَاتِهِ سَافِرٌ!
وقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلَهُ طَلَبَةُ العِلْمِ مِنْ كُلِّ فَوْجٍ عَمِيْقٍ، وقَصَدَهُ التَّلامِيْذُ مِنْ زَوَايَا الأرْضِ حَيْثُ بَنَى لَهُم المَسَاكِنَ والدُّوْرَ، وأجْرَى عَلَيْهِم الأمْوَالَ الكَثِيْرَةَ، والمَعَائِشَ الوَفِيْرَةَ ... حَتَّى غَدَتْ مَدِيْنَةُ "عُنَيْزَةَ" مَعْقَلاً للعِلْمِ والتَّعْلِيْمِ، فلْيَفْخَرْ أهْلُهَا عَلَى العَالَمِيْنَ؛ إذَا تَفَاخَرَتْ طَئٌ وتَمِيْمٌ!* * *
أمَّا كُتُبُ الشَّيْخِ وتَصَانِيْفُه فَشَيءٌ آخَرَ، تَصْلُحُ أنْ تَكُوْنَ مَكْتَبَةً شَامِلَةً لغَالِبِ العُلُوْمِ الإسْلامِيَّةِ، والفُنُوْن المَعْرِفِيَّةِ ، بَلْهَ قَدْ يَعْجَزُ البَلِيْغُ وَصْفَها، ويَتْعَبُ البَاحِثُ عَدَّهَا أو حَتَّى تَقَصِّيْها، فَلَيْسَ لأحَدٍ (كَائنًا مَنْ كَانَ) أنْ يَقِفَ عِنْدَ مُسَمَّيَاتِ كُتُبُهِ وتَوَالِيْفِه المَشْهُوْرَةِ المُتَدَاوَلَةِ ، بَلْ للشَّيْخِ مِنَ الفَتَاوَى والرَّسَائِلِ العَامَّةِ والخَاصَّةِ مَا يَعْجَزُ الخَوَاصُ مِنْ تَقَصِّيْهَا.* * *
فَقِفَا نَذْكُرُ كَشَّافَ أسْمَاءِ كُتُبِ شَيْخِنا مِمَّا يَقْطَعُ بِعُلُوِّ كَعْبِهِ، وغَزَارَةِ عِلْمِهِ، ونُبُوْغِ تَفَنُّنِهِ، وجِمَاعِ مَعَارِفِهِ ... مَا سَنَحَتْ بِهِ الذَّاكِرَةُ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ :
"القَوَاعِدُ المُثْلَى في صِفَاتِ اللهِ وأسْمَائِهِ الحُسْنَى"، و"عَقِيْدَةُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَة"، و"فَتْحُ رَبِّ البَرِيَّةِ بتَلْخِيْصِ الحَمَوِيَّةِ"، و"تَقْرِيْبُ التَّدْمُرِيَّة ِ"، و"مَجَالِسُ شَهْرِ رَمَضَانِ"، و"المَنْهَجُ لِمُرِيْدِ العُمْرَةِ والحَجِّ"، و"تَسْهِيْلُ الفَرَائِضِ"، و"شَرْحُ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ" و"القَوْلُ المُفِيْدُ شَرْحُ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ"، و"الشَّرْحُ المُمْتِعُ شَرْحُ زَادِ المُسْتَقْنِعِ" و"أصُوْلُ التَّفْسِيْرِ"، و"الأُصُوْلُ مِنْ عِلْمِ الأُصُوْلِ"، و"مَجْمُوْعُ فَتَاوَى ورَسَائِلِ الشَّيْخِ "، و"مُصْطَلَحُ الحَدِيْثِ"، وغَيْرُها الكَثِيْرُ مَا بَيْنَ كُتُبٍ وكُتَيِّبَاتٍ، ورَسَائِلَ وفَتَاوَى، وشُرُوْحٍ لِكَثِيْرٍ مِنْ كُتُبِ العِلْمِ، ومِنْ وَرَاءهَا ذَخَائِرُ عِلْمِيَّةٌ مُسَجَّلَةٌ ضِمْنَ شَرَائِطَ صَوْتِيَّةٍ، لَمْ تَزَلْ مُخَبَّأةً عَنْ كَثِيْرٍ مِنْ طُلابِ العِلْمِ([3]) .
أمَّا طَرِيْقَةُ شَرْحِهِ ودُرُوْسِهِ فَهِي باخْتِصَارِ للاعْتِبَارِ : كَانَ رَحِمَهُ اللهُ سَهْلَ العِبَارَةِ قَوِيَّ الإشَارَةِ قَدْ أخَذَ بِنَاصِيَةِ اللُّغَةِ فِيْمَا يَقُوْلُ أو يَكْتُبُ، يُقَرِّبُ البَعِيْدَ ويُرَسِّخُ القَرِيْبَ، ولَهُ فِيْمَا يَقُوْلُ ويَشْرَحُ تَصْوِيْرٌ بَلِيْغٌ للمَسَائِل مِمَّا زَانَتْ بِه دُرُوْسُه وفَاقَتْ؛ حَيْثُ كَانَ حَرِيْصًا ومُكْثِرًا مِنْ تَقْرِيْبِ المَسَائِلِ وتَهْذِيْبِ الدَّلائِلِ للطُّلابِ مِنْ خِلالِ تَصْوِيْرِها بأمْثِلَةٍ سَهْلَةٍ يَفْهَمُها الجَمِيْعُ!* * *
وكَانَ رَحِمَهُ اللهُ لا يَذْهَبُ لِمَسْألةٍ أو يَذْكُرُ حُكْمًا أو يُرَجِّحُ قَوْلاً إلاَّ بِدَلِيْلِهِ الشَّرْعِيِّ، وتَعْلِيْلِهِ المُعْتَبَرِ، فَكَانَ غَايَةً في تَذْلِيْلِ صِعَابِ المَسَائِلِ العَقَدِيَّةِ مِنْهَا والفِقْهِيَّةِ بالأمْثِلَةِ والمَعَانِي، ومَعَ هَذَا كَانَ يَأخُذُ بألْبَابِ الطُّلابِ الحَاضِرِيْنَ شَحْذًا وهِمَّةً وحُضُوْرًا فَقَلِيْلٌ مَا يَغْفَلُ الطَّالِبُ منَّا أو يَفْتُرُ في الدَّرْسِ أو الشَّرْحِ، فالشَّيْخُ لا يَسْأمُ في مَثَانِي دَرْسِه مِنْ مُشَارَكَةِ الطُّلابِ، فَمَرَّةً يَسْألُهُم، ومَرَّةًّ يَطْلُبُ مِنْهُم البُحُوْثَ وتَحْرِيْرَ بَعْضِ المَسَائِلِ، ومَرَّةً يَدْفَعُهُم للمُشَارَكَةِ في الدَّرْسِ حَثًّا مِنْهُ عَلَى تَعْوِيْدِهِم عَلَى الاسْتِنْبَاطِ، وهَكَذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مُعَلِمًا ومُوَجِّهًا ومُرَبِّيًّا، وقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّه كَانَ للطُّلابِ أبًا نَاصِحًا مُشْفِقًا!
فَكُلُّ مَا هُنَا (وهُنَاكَ) مِمَّا ذُكِرَ مِنْ شَمَائِلِ وسَجَايَا الشَّيْخِ العِلْمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ كَانَتْ مِنَ اللهِ تَعَالى مِنْحَةً ومِنَّةً أوَّلاً، ثُمَّ كَانَتْ تَأثُّرًا كَبِيْرًا بطَرِيْقَةِ شَيْخِه عَلاَّمَةِ القَصِيْمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ نَاصِرٍ السَّعْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ المُتَوَفَّي عَامَ (1376) .
أمَّا وَفَاتُهُ : فَلا نَامَتْ أعْيُنُ الجُهَلاءُ، يَوْمَ نَعَى النَّاسُ مَوْتَ شَيْخِ الإسْلامِ وحَسَنَةِ الوَقْتِ العَالِمِ الرَّبَّانِيِّ، وعِنْدَهَا بَكَتْ عَلَيْهِ العُيُوْنُ بِأسْرِهَا، وحُقَّ لَهَا البُكَاءُ، وعَمَّ مُصَابُهُ جَمِيْعَ المُحِبِّيْنَ، فأَيُّ دَمْعٍ مَا سُجِمَ، وأيُّ رُكْنٍ مَا هُدِمَ، وأيُّ فَضْلٍ مَا عُدِمً؟!، يَالَهُ مِنْ خَطْبٍ مَا أعْظَمَهُ، ومُصَابٍ مَا أفْخَمَهُ!* * *
فَلَيْتَ شِعْرِي!؛ لَوْ رَأيْتَنَا ونَحْنُ نَتَعَازَى؛ وكُلُّنَا مُصَابٌ، فَعِنْدَهَا سَتَعْلَمُ : أنَّ المُعَزِّيَّ هُوَ المُصَابُ ؟!
وأيْمُ اللهِ!؛ ذَهَبَ حَسَنَةُ الوَقْتِ؛ والأمَّةُ بَعْدُ فَقِيْرَةٌ إلى عِلْمِه، أمَّا طُلاَّبُهُ فِي "عُنَيْزَةَ" فَلا تَسْألْ؟، فَحَسْبُهُمُ اللهُ ونِعْمَ الوَكِيْلُ، فَمَنْ لَهُمْ بَعْدَهُ غَيْرُ اللهِ؟، ومَنْ يَأْوِيْهِم بَعْدَهُ غَيْرُ اللهِ؟؛ كَأنَّهُم قَطِيْعُ شَاةٍ فِي أرْضٍ مُسْبِعةٍ شَاتِيَةٍ!
وكَأنِّي بأمْرِئِ القَيْسِ يَصِفُ أطْلالَهُم :
وإنَّ شِفائِي عَبْـرةٌ مُهْـرَاقَـةٌ فَهَلْ عِنْدَ رَسْـمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَـوَّلِقِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِتَرَى بَعَرَ الآرَامِ فِـي عَرَصَاتِـها وقِيعَانِـها كَـأنَّهُ حَـبُّ فُلْفُـلِوُقُوفًا بِـها صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُمُ يَقُوْلُوْنَ : لا تَهْلَكْ أَسَىً وتَجَمَّـلِفَدَعْ عَنْكَ شَيْئًا قَدْ مَضَى لِسَبِيلِهِ ولَكِنْ عَلَى مَـا غَالَكَ اليَوْمَ أقْبِلِوَقَفْتُ بِـها حَتَّى إذَا ما تَرَدَّدَتْ عَمَايـةُ مَحْزُونٍ بِشَـوْقٍ مُوَكَّـلِ
فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الشَّيْخُ الكَبِيْرُ مِنَ العُمْرِ أرْبَعَةً وسَبْعِيْنَ عَامًا قَامَ يُكَابِدُ وَقْتَئِذٍ الأمْرَاضَ والأوْصَابَ الآذِنَةَ بالرَّحِيْلِ والتِّرْحَالِ عَلَى ضَعْفٍ مِنْهُ واسْتِثْقَالٍ، يَوْمَ عَلِمَ أنَّ الَّذِي اعْتَرَاهُ مَرَضٌ اسْتَعْصَتْ أدْوَاؤُهُ عَلَى أرْبَابِ الطِّبِّ، وتَصَاغَرَتْ عِنْدَهُ هَيْمَنَةُ وكِبْرِيَاءُ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا، ومُلُوْكِ الأرْضِ!، فَلا عِلاجٍ عَرَفُوْهُ، ولا سَبَبٍ أدْرَكُوْهُ ... إنْ هِيَ إلاَّ ظُنُوْنٌ لا فُنُوْنٌ، وحَالَ حِيْنَئِذٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ العِلاجِ إيْمَانُهُ؛ يَوْمَ تَقَطَّعَتِ الأسْبَابُ، إلاَّ مِنْ رَبِّ الأرْبَابِ الرَّحِيْمِ التَّوَّابِ!* * *
وفِي لَيْلَةِ الخَمِيْسِ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ لِعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ وإحْدَى وعِشْرِيْنَ للهِجْرَةِ؛ حِيْنَ كَانَ الشَّيْخُ تَحْتَ العِنَايَةِ والعِلاجِ فِي أحَدِ المُسْتَشْفَيَا تِ الكَبِيْرَةِ فِي مَدِيْنَةِ جُدَّةَ؛ إذْ بالمُسْلِمِيْنَ يَتَلَقَّوْنَ خَبَرَ وَفَاتِهِ ... فإنَّا للهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!
فعِنْدَها تَسَامَعَ النَّاسُ بِأنَّ الصَّلاةَ عَلَى فَقِيْدِ الأمَّةِ وحَسَنَةِ الوَقْتِ، سَتَكُوْنُ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ، وذَلِكَ عَصْرَ يَوْمِ الخَمِيْسِ مِنَ اليَوْمِ الثَّانِي مِنْ وَفَاتِه رَحِمَهُ اللهُ، (16/10/1421)، وبَعْدَ أنْ أشْرَقتْ شَمْسُ الخَمِيْسِ تَسَابَقَ النَّاسُ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانًا رِجَالاً ورُكْبَانًا يَتَدَافَعُوْنَ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، وقَدْ رَكِبُوا الصَّعْبَ والذَّلُوْلَ، لا يَلْوُنَ عَلَى أحَدٍ، ولا يَسْتَأخِرُوْنَ !* * *
وكَأنِّي بالتَّمِيْمِيِّ قَدْ وَصَفَهُم بقَوْلِه :
فَكَأنِّي بالطُّرُقَاتِ قَدْ ضَاقَتْ بِهِم، والمَسْجِدِ الحَرَامِ قَدِ ازْدَحَمَ بِهِم؛ حَتَّى أنَّكَ لا تَجِدُ مَوْضِعَ قَدَمٍ وَقْتَئِذٍ، ولِسَانُ حَالِهِم يَقُوْلُ : "بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الجَنَائِزُ"، فأَكْرِمْ!لا يَسْألُوْنَ أخَاهُم حِيْنَ يَنْدُبُهُم فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا* * *
وفِي مِثْلِ هَذَا قَالُوا :
مَنْ شَـاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَـاذِرُ
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُوْلِه الأمِيْنِإنِّي وغَيْرِي لا مَحَــا لَةَ حَيْثُ صِرْتَ لصَائِرُ
وكَتَبَهُ مُعَزِّيًا مُصَابًا
يَوْمَ الخَمِيْسِ قُبَيْلَ المَغْرِبِ السَّادِسُ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ لِعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ ووَاحِدٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِها أفْضَلُ الصَّلاةِ، وأتَمُّ التَّسْلِيْمِ
( 16/10/1421هـ )
ذِيَابُ بنُ سَعَدٍ آلِ حَمْدَانَ الغَامِدِيُّالطَّائِفُ
([1]) نَعَمْ؛ لَقَدْ تَسَارَعَ (للأسَفِ) بَعْضُ المُنْتَسِبِيْن َ للعِلْمِ فِي إخْرَاجِ سِيْرَةِ الشَّيْخَيْنِ ابنِ بَازٍ والعُثَيْمِيْنِ رَحِمَهُمَا اللهُ، تَحْتَ عَنَاوِيْنَ جَذَّابَةٍ، وطَبَاعَاتٍ خَلاَّبَةٍ زِيَادَةً فِي التَّدْلِيْسِ، ومَنْ أجَالَ النَّظَرَ فِي ما كَتَبَه هَؤلاءِ عَلِمَ أنَّ القَوْمَ لَمْ يُدْرِكُوا أبْجَدِيَّاتِ فَنِّ التَّرَاجِمِ والسِّيَرِ فَضْلاً عَنْ سُمُوِّ العِلْمِ ورُسُوْخِه، وأدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ مَا سَمِعْنَاهُ عَنْ بَعْضِهِم أنَّه لَمَّا سُئِلَ عَنِ الحَشْوِ الَّذِي حَشَرَ بِهِ كِتَابَيْهِ الكَبِيْرَيْنِ (!) الَّذَيْنِ لَيْسَ فِيْهِمَا إلاَّ قَصَاصَاتُ الجَرَائِدِ، وغَرَايِبُ النَّاسِ، وبَعْضُ أقْوَالِ الشَّاذِّيْنَ فِكْرِيًّا، قَالَ : أنَا لَمْ أُتَرْجِمْ تَرْجَمَةً عِلْمِيَّةً بِقَدْرِ مَا أرَدْتُ أنْ أرْصُدَ مَا قِيْلَ عَنِ الشَّيْخَيْنِ!، فإذَا أصْبَحَ "حَاطِبُ اللَّيْلِ" مُتَرْجِمًا لأهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ؛ فَحَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَرْجُمَ كُتُبَ المُتَرْجِمِ!
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ أكْثَرَ أصْحَابِ هَذِه الكُتُبِ لا يَسْتَأخِرُوْنَ سَاعَةً فِي غَزْوِ المَكَاتِبِ الإسْلامِيَّةِ بكُتُبِهِم (التَّرْجَمَاوِ َّةِ) والشَّيْخُ بَعْدُ لَمْ يَمْضِ عَلَى وَفَاتِه شَهْرٌ أو شَهْرَانِ! فَهْلَ يَدُلُّ هَذَا عَلَى عِلْمٍ كَبِيْرٍ عِنْدَ القَوْمِ (المُتَرْجِمِيْ َ!)، أو أنَّهُم تَرْجَمُوا للشَّيْخِ قَبْلَ أنْ يَمُوْتَ؟!، فإنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ( وهُوَ كَذَلِكَ ) فَلَعَلَّهُم (واللهُ أعْلَمُ) يُتَاجِرُوْنَ لا يُتَرْجِمُوْنَ، أو لَعَلَّهُم صَرْعَى شُهْرَةٍ لا مُحَقِّقُو سِيْرَةٍ (عَيَاذًا باللهِ)!
([2]) وبَعْدَ سَنَةٍ تَقْرِيْبًا مِنْ كِتَابَتِي لِهَذِه الشَّذَرَاتِ عَنْ شَيْخِنا العُثَيْمِيْنَ رَحِمَه، وَجَدْتُ كِتَابًا حَافِلاً بتَرْجَمَةِ الشَّيْخِ العُثَيْمِيْنَ، وهِي لأحَدِ طُلابِ العِلْمِ الفُضَلاءِ مِمَّنْ لَهُم مَعْرِفَةٌ كَبِيْرَةٌ بالشَّيْخِ، وهَذَا مِمَّا زَادَ التَّرُجَمَةَ دِقَّةً وشُمُوْلاً لِحَيَاةِ وعِلْمِيَّةِ الشَّيْخِ، وذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ "..." وهُوَ للأخِ الشَّيْخِ وَلِيْدٍ الزُّبَيْرِيِّ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا.
([3]) و»مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللهَ« تَعَالى؛ فَقْدَ قَامَ مُؤخَّرًا طُلابُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ بِرًّا بشَيْخِهِم، وحَقًّا لطُلابِه، ونَفْعًا للأمَّةِ أجْمَعَ في إخْرَاجِ هَذِه الذَّخَائِرِ المُخَزَّوْنَةِ في الأشْرِطَةِ العِلْمِيَّةِ الَّتي ألْقَاهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ خِلالِ دُرُوْسِهِ ومَجَالِسِهِ وفَتَاوِيْه، حَيْثُ خَرَجَتْ مُؤخَّرًا مُفَرَّغَةً مَطْبُوْعَةً مُحَرَّرةً، تَحْتَ إشْرِافِ مُؤسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ صَالِحٍ العُثَيْمِيْنَ الخَيْرِيَّةِ، فَجَزَاهُم اللهُ خَيْرًا .