تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

  1. #1

    Lightbulb لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

    بسم الله الرحمان الرحيم

    لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

    الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده،وبعد.....
    فقد اطلعت على بعض ما يكتبه إخواننا على الشبكة من مقالات وبحوث حول المنطق الصوري، إما اتباعا للتيار العام الجاري في الأمة، حيث يعتبر المنطق من العلوم التي لا يسع طالب العلم جهلها ، و إما تقليدا لبعض الشيوخ السلفيين الذي اشتبه عليهم الأمر فأطلقوا كلامات مجملة في مدح المنطق، ولم يدركوا مخاطره على الدين، بحكم خلفيتهم العلمية التي لم تمسح لهم بإدراك هذه المخاطر، و بالتالي وقعوا في تناقض شديد[1]، إذ أن من يستحسن المنطق فقد استحسن نظرية المعرفة الفلسفية، فالمنطق ليس إلا أداة لها، و نظرية المعرفة الفسلفية تتعارض كلية مع نظرية المعرفة الشرعية ،فالعلم و المعرفة في الأولى لا يتلقى إلا عن العقل و القياس المنطقي،وكل ما سواه تعتبره من قسم الخطابة، بينما في الثانية فإن تلقي أحكام الدين و المعرفة الدينية لا يكون إلا عن الرسول صلى الله عليه و سلم ، وهذا يتنافى و اعتبار المنطق علما صالحا للاشتغال به أو إعماله في العلوم الدينية، ذلك أن الطريقة الكلامية و الفلسفية تعتمد على تحصيل ذاتيات المسائل و التكلف بإيجاد حد جامع لها، وهذا فيه عجز كبير عن تلقي جميع الأحكام الشرعية من الرسول صلى الله عليه و سلم.
    و إنما صار أهل الكلام إلى كتب اللغة و المنطق ليس لان أهل اللغة و المناطقة أعلم بدلالة النصوص من المفسرين و المحدثين، ولكن طلبا للمذاهب الفاسدة.
    ولو أن السني السلفي سلم بمقدمات المنطق، فإنه لا يمكنه أبدا إثبات عقيدة السلف إلا إذا كان متناقضا، لا يعلم ما يثبت، ولا يعرف حقيقة المقالات المنطقية،فمن اثبت قواعد المنطق ليس له إلا أن يعتبر النصوص من موارد الظنون،وظواهر ، و أنها لا تفيد علما قطعيا، و إنما هي مجرد أخبار من قبيل المسلمات و الخطابيات غير خاضعة لقوانين البرهان، وحتى القياس الفقهي يعتبرونه قياسا ظنيا لا يفيد علما موثوقا،فإن اثبت منهج السلف الصالح وطريقتهم في العلم مع إثباته لصلاحية المنطق فإنه بدون شك لا يدري ما يقول، و إنما جره التيار العام.
    نبذة تاريخية عن نقض المنطق:
    ودرءا لهذه المخاطر الشديدة على العقيدة و المنهج السلفيين سنناقش بحول الله وقدرته علم المنطق مناقشة دقيقة، بحيث نتعرض لكل جزئية منه ببحث مستقل تبين أنه من أفسد العلوم، بل هو ترهات عقل وثني متخبط في الجهل لم يعرف نور النبوة ،ولا حقائق المعارف البشرية الحقيقية .
    ومن أجل بيان أمر بالغ الأهمية و هو تمتع المسلمين بمنهج للبحث العلمي فريد و أصيل، يجعلهم في غنى عن المنطق الصوري، لابد لنا من أن نستعرض ـ كمرحلة أولى ـ هذا المنهج بشيء من التفصيل من خلال قراءته عند احد مفكري الإسلام البارعين ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم اختر هذه الشخصية من نظرة اختزالية للفكر الإسلامي، أو لأن هذه الأمة لم تنجب إلا ابن تيمية، ولكن لعوامل موضوعية في الصميم منها:
    1 ـ لا يمكن أن نستبصر مدى بعد الطائفة المقرة بصلاحية علم المنطق عن مقاصد الدين الكبرى، و إشكالية تناقضها مع مراجعها وممثليها من الأئمة إلا من خلال نقض شيخ الإسلام ابن تيمية للمنطق.
    2 ـ لدى ابن تيمية منهج علمي صارم، ولد لديه روحا نقدية عالية، نلمسها من خلال ردوده إذ لم يستثن أحدا حتى أقرب الناس إليه، مما يعني انه تخلص من المذهبية و الطائفية، بل صرح في كثير من المناسبات بأن معيار الصدق عنده هو الكتاب و السنة، و القاعدة التي من المفروض أن يعمل بها كل سلفي يعظم النصوص هو أن كل علم يبعدك عن النصوص، أو يقلل من أهمية النصوص في استنباط العلم الديني أو يجعلها في مرتبة أقل من مرتبة البرهان المنطقي فهو علم رديء وفاسد ،و آلة من آلات الزندقة.
    وحتى لو زعم بعضهم أنه يمكن استعمال المنطق في مباحث أصول الفقه، فحتى هذه ليست أقل خطرا من سابقتها،نعرف ذلك في فصل المقارنة بين مسالك العلة عند المسلمين ومسالك العلة عند المناطقة.
    3ـ يتمتع ابن تيمية بشجاعة أدبية فريدة سببت له دخول السجن في غالب فترات حياته، بل يمكن أن نقول انه قضى معظم حياته في السجن، و فتاويه الجريئة التي أثارت ضده الناس والفقهاء القضاة و المتكلمون معروفة و تدل على روحه العلمية و النقدية العالية.
    4ـ لا يتوانى في مخالفة كبار الأئمة إذا ظهر له الدليل المخالف لهم، كما لا يتوانى عن الخروج عن المألوف، و لذلك يتمتع بموضوعية كافية للإقرار بالحق و الصواب لمخالفه، ولو كان من أشد أعدائه.
    وهنا يجب التمييز بين النعرة المذهبية التي تبطل أصلا الموضوعية في العلم، و بين حدة اللهجة التي كانت تعتريه، إذ مرجع الثانية السلوك النفسي للمفكر و العالم الغيور على دينه، ومعلوم أن لهجة الخطاب لا علاقة لها بالموضوع و بقيمة النقد.
    5ـ ترك لنا ابن تيمية مجموعة مؤلفات يمكن دراسته من خلال دراسة جامعة و متكاملة الجوانب بحيث نضبط المنهج العلمي عنده بتمامه.
    6ـ بعض الأئمة كابن حزم و الغزالي و إن كان لهما أثر بالغ في الفكر الإسلامي، إلا أنهما لا يمثلان أصالة التفكير الإسلامي في بعض الجوانب، كالجانب الفلسفي و المنطقي، مما يعني أنهما لم يدركا أبعاد الفكر الإسلامي خاصة الأصولي منه، فلم يكونا إلا مرددين للمنطق الأرسطي بدون براعة ولا ابتكار، مما لا يمكن معه البرهنة على استقلال المسلمين بمناهج بحث خاصة بهم.
    ونحن من خلال هذه الدراسة التحليلية لمنهج ابن تيمية في أهم عناصر الفكر و الثقافة الإسلامية و بعيدا عن مؤثرات التاريخ و الروح الطائفية سنتبين أن فكر الرجل ومنهجه بعيد جدا عن فكر و منهج بعض من ينتحل إتباعه، و أننا إذا ما وضعنا التعصب و لغة المؤلف و روحه النقدية جانبا سنتبين شخصية علمية أصيلة و معتدلة تغلب النظر في المقاصد و المآلات النصية و تنظر للأشياء وفق قاعدة المصالح و المفاسد، قاعدة الإمكان العلمي و الإمكان في القدرة و الاستطاعة، و أن منهجه و فكره يمكن أن يكون قاعدة صلبة لنهضة علمية و اجتماعية و سياسية حقيقية.
    ذم المنطق:
    إن السلفيين الذين هم على منهج الأوائل علما وعملا، اعتقادا وسلوكا درع الإسلام الذي يرد عنه ضربات العدو الظاهرة و الخفية، و المنطق بلا شك من الضربات الخفية التي توجه للكتاب و السنة.
    إنهم يصولون ويجولون في ميادين الفكر والمعرفة الهادفة بدافع الإيمان، و إن كان في لهجتهم حرارة فهي حرارة الإيمان المنافية لبرودة البدعة، و حرارة اليقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واليقين بأن أصل المعرفة وجذعها وغصنها وثمرتها في كتاب الله وسنة نبيه، لا يشكون في ذلك أدنى شك، إنهم ليسوا مجرد ناعقين أو مرددين مقلدين، إنهم يحملون للعالم نور المعرفة الحقيقية، وجمال الإنسانية العابدة لربها الموقنة بآخرتها، المقتدية بنبيها في أبهى الصور و أجمل الأمثلة.
    إنهم رواد المعرفة الشرعية والعقلية، وحماتها من الطفيليين والصابئة والمتهوكين، مهما سمى المخالفون معرفتهم بأنها نقلية أو سمعية أو حشوية، فإن الله ورسوله، قد حكم بأن الحق في كتابه وسنة نبيه.
    النقد عند السلفيين:
    إن مصدر النقد عند السلفيين إيماني ديني، ولذلك يقع بين النفي والإثبات، نفي الباطل وما يقود إلى الباطل، و إثبات الحق وما يقود إلى الحق، ولعل جميع النظريات الكبرى في الفكر البشري التي أثرت عليه جاءت ضمن هذا المنطلق: مواقف عقدية، إذ إن الحافز عامل هام في النقد، ولذلك نجد البحوث الخالية من هذا العامل تحت عذر الحياد أو الموازنة بحوثا عقيمة لا تولد نتائج معتبرة، ولا تحسم النزاع بشكل ملاحظ وجلي.
    يعتقد كثير من الناس أن تحريم أهل السنة الاشتغال بالمنطق ينطلق من نزعة نقلية لا عقلية، وهؤلاء لم يحددوا معنى نقلي تحديدا صحيحا، وحصروه في مفهوم عقيم لم يقم عليه أي برهان، إذ كيف تسمى أدلة نقلية والعقل هو الذي يحكم عليها بالصدق أو الكذب من حيث عملية النقل، ومن حيث مطابقتها لواقع الدين ومقاصده، فكلام الله ورسوله بغض النظر عن المنطلق الإيماني الذي هو في حد ذاته معتمد على مقدمات عقلية يقينية غير خاضعة للمطابقة أو المخالفة للحقيقة العقلية الكلامية.
    إن المنطق المشائي أو الصوري ليس إلا تشكيكات وجدليات عقلية لا يطابق القياس الفطري أو القياس الفقهي عند المسلمين، فالمناطقة قلبوا الموازين فجعلوا الجزئي مناط الظن والكلي مناط اليقين، أي المعرفة الحسية ظنية والمعرفة الذهنية يقينية، وليس لهم أصلا معرفة ذهنية أو كلية لا تعتمد على المعرفة الحسية.
    وإذا كان نقض المنطق عند شيخ الإسلام ومن سبقه يمثل اتجاها فكريا إسلاميا مبدعا كفيل بل دليل على استقلال المسلمين بمنهج تفكير مستقل و فذ لم يدرك الباحثون بعده بعد.
    فهاهنا عاملان بالغي الأهمية في تحديد معالم نقض المنطق عند ابن تيمية هو أن الشيخ الإسلام انتقد الفلسفة على مراحل أو بمقدمات أنتجت نتيجة يقينية:
    ألف كتاب " الدرء" كتدليل برهاني عقلي جدلي عميق الأبعاد أظهر فيه أن الأدلة النقلية أدلة برهانية عقلية لا يجوز فصلها عن الدليل العقلي مادامت أدلة يدل عليها العقل وتقع تحت محكه، ولكن العقل الصحيح لا العقل الفلسفي الكلامي المنطقي.
    ثم في كتاب" الربوبية " بين نظرية المعرفة عند المسلمين وهي الإيمان والنظر والتجرد، والفرق بين النظر في القرآن الذي يسميه الآيات، وبين القياس العقلي المنطقي، ثم نقض المنطق نقضا علميا دقيقا من خلال نقضه الفلسفة المشائية في كتبه السابقة، وانتهى إلى "النبوات" حيث قرر فيها وجوب تصديق الأنبياء واتباعهم، وان منتهى العلوم يقف عندهم[2]، كما بين فيه ضوابط الدليل بشكل دقيق، فكان نقده للمنطق ثمرة هذا العمل الذي حاصر به الفلسفة من كل جهة، فكان نقضا عقليا برهانيا محضا.
    لقد أدرك شيخ الإسلام خطورة المنطق على العقيدة الإسلامية خصوصا، وعلى أساليب التفكير عند المسلمين عموما، لقد أدرك بحكم سعة اطلاعه على الكتب الكلامية والفلسفية أن المنطق هو السم النقاع الذي يتجرعه المسلمون المشتغلون به، وهم لا يدرون في غالب الأحيان.
    لقد أدرك شيخ الإسلام من خلال تشبعه بطريقة القرآن والسنة في تقرير الحقائق أن المنطق المشائي ماهو إلا شروط القياس الفلسفي اقتضتها التصورات الميتافيزيقية لعقيدة وثنية خرافية[3]، لقد من الله على شيخ الإسلام بالمعارف القرآنية السنية فأدرك أن الفطرة أساس جميع العلوم، وانه بفسادها تفسد طرق الاستدلال وبسلامتها تسلم هذه الطرق، والفطرة هي عقيدة التوحيد، فمن لم يحقق التوحيد لا يمكنه الاستدلال في العلم الإلهي بطرق صحيحة لأن فطرته فسدت، وفساد الفطرة يقتضي فساد الضروريات، فإن الناس لم يزالوا يفكرون بدون منطق، كما لم يزل المناطقة يفكرون بدون منطق، و إن استعملوه فإنما يستعملوه لتحليل فكرهم لا للتفكير به، فما هو إلا صناعة نظرية من باب تحصيل الحاصل.
    و أنا لست في هذا الاستدراك على إخوتنا الأفاضل لاعتنائهم بالمنطق واستعمالهم له في مباحثهم وتعليقاتهم الأصولية أريد استيفاء الموضوع، وإنما غرضي التنبيه بما يفي بالقصد.
    إنه من الإنصاف العلمي، ومن باب العدل في التحقيق العلمي أن نقول إن من روائع النقد العلمي عند شيخ الإسلام، والتي يشهد له بها خصومه ونحن بصدد نقضه المنطق استفادته من علوم من قد سبقه، بخلاف من فضحهم التاريخ ممن ضربوا صفحا عن تحليلاته و أدلته العلمية رغم أشد حاجتهم إليها ، بل إن إعراضهم عن دراسة فكره قد أخل بعلومهم وجعلهم لا يتقدمون فيها ، ولا يواكبون المجهود البشري في العلم الذي قلدوا فيه غيرهم .
    إن هذا العامل ليطفح بشكل مخز على سطح نقودهم ومناهجهم ومعارفهم المنطقية المحدودة، حتى إنهم وفي نقد بعضهم للمنطق لم يستطعوا أن يأتوا بجديد و قد رأوا الغربيين يتخلون عن المنطق المشائي الذي أعاقهم عن التقدم، و استبدلوه بمنطق يشبه منطق شيخ الإسلام التجريبي الحسي الفطري فوصلوا إلى ماهم عليه.
    إن أوروبا بتخليها عن المنطق الصوري تخلت عن الوجدانية والمثالية اليونانية، وبالتالي ازدهرت العلوم بعد أن تجردت من المنطق اليوناني، وبنت لأنفسها مناهج مستقلة مما أدى إلى تقدمها بسرعة وبكفاءة كبيرة أثمرت النهضة العلمية والتقنية، وماكان ليكون هذا لولا جهود ديكارت وجون استوارت مل وغيره من التجريبيين الذي رأوا في المنطق المشائي مضيعة للوقت، وكما وصفه هيجل:متاع قديم.
    أما المسلمون اليوم من صنف الأشاعرة والعقلانيين، ومن صنف بعض الأصوليين فلم يدركوا بعد خطورة المنطق الصوري وتفاهته، و كونه عائقا أمام العقلية الإسلامية للانطلاق بحضارتها، رغم أن الشيخ الإسلام انتقده وبين البديل عنه منذ ثمانية قرون.
    لقد حرم فقهاء الإسلام المعتبرون الاشتغال بالمنطق، فمالك وأحمد وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم حرموا الاشتغال بعلم الكلام فما بالك بالمنطق، ولم يلتزم بفتاويهم إلا المتكلمة ولا أحسب إخواني منهم.
    أما الشافعي فحرم المنطق صراحة، ومثله ابن الصلاح الذي قال:" وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين "{ الفتاويً35}، وقال في المصدر نفسه:" لقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة".
    وكذلك حرمه النووي، وقال فيه الشاطبي" الموافقات"{4/337}:" التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر، لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية، ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك""
    كذلك نقد المنطق المازري، وابن خلدون في "المقدمة"، وابن الوزير الصنعاني في "ترجيح أساليب القرآن"، والسيوطي في "صون المنطق" وغيرهم كثير، ولم يبح الاشتغال به إلا من كان من أهل الكلام أو الفلاسفة أو دخلت عليه شبههم ولم يحقق علم السنة والآثار.
    ويمكن القول من جهة أخرى أن ما يذكره الأصوليون من أقيسة منطقية أو حدود منطقية ليس بقوة المنطق عند أصحابه الفلاسفة كابن سينا والفارابي، بل مستوى المنطق الصوري عند المسلمين في هذا العصر لا يواكب النظريات المنطقية الجديدة لأنصاره في الغرب، و إن اعتقد هؤلاء إتباعا للتفتزاني، والسبكي، وابن الحاجب وغيرهم أنهم يمكنهم تجريد المنطق من صوره الميتافيزيقية، فهذا يعني أنهم لم يفهموا شيئا مهما في المنطق المشائي.
    على كل حال هذا الاستدراك لا يحتمل مزيدا من البسط، المهم أن يعرف السلفي أن الاشتغال بالمنطق لا يليق به، ولا يليق بالسنة التي يحملها، فلا يجوز الكلام عن المنطق إلا في حدود نقضه والتحذير منه، أما إِشباع المباحث الأصولية بقواعده فهذا يصب رأسا فيما كان ينهي عنه السلف قاطبة.
    و الحقيقة تقال: المسلمون ليسوا في حاجة إلى منهج علمي جديد، بل عندهم منهج علمي قوي جدا، لكنه ضاع بين ثنيات الكتب و قتله التخلف و التقليد، فهم أحوج منهم إلى تجديد عقليتهم منهم إلى تجديد منهجهم العلمي، فمنهج البحث قد ضبطه المسلمون بعلمين دقيقين مؤصلين علم الحديث و أصول الفقه، و علم أصول الفقه يشكل فعلا مناهج البحث العلمي ولكنه بحاجة إلى خدمة و إعادة صياغة لغوية و تبويب و ترتيب.
    فمن خلال علم أصول الفقه الذي ابتكره المسلمون الأوائل يمكن استخراج و استخلاص المنهج العلمي القائم عل تحديد قواعد الاستقراء للعلة الشرعية الذي يقود حتما إلى القدرة على استقراء العلة الطبيعية في العلم لحديث.
    لقد زعم المفكرون الأوروبيون أن قواعد الاستقراء للعلة الطبيعية التي هي عماد التفكير الاستقرائي و أساس المنهج التجريبي أمر لم تعرفه الحضارات الأخرى، فخرجوا بذلك عن وقائع التاريخ و سنن العادة، فوقائع التاريخ تثبت مدى صلة الغرب بالحضارة الإسلامية، و انه استمد منها كل شيء بنى عليه، و سنن العادة تمتنع من الإقرار بالانبثاق الفجائي لأي فكر علمي، فلابد أن يقوم على فكر سبقه، أما التولد والانبثاق من العدم فأمر لا يقره العقل ولا التاريخ.
    ونحن إذا نظرنا كما فعل بعض الباحثين في مسالك العلة عند علماء الأصول المسلمين وجدناها تتشابه إلى حد بعيد مع قواعد الاستقراء في شكلها العام عند فرنسيس بيكون و في صورتها النهائية عند ستورت مل، فلابد أنهم أخذوها عمن سبقهم وهم المسلمون.
    لقد امتاز علماء الإسلام بقيمة علمية منهجية عالية أثرت بشكل أو بآخر في المنهج العلمي المعاصر و يمكننا استخلاصها من مثالين أساسيين لهذا التحليل:
    1 ـ المثال الأول تفوق المسلمين في بيان مسالك العلة، وهي نفس المسالك للاستخراج العلة في النحو أو الطب أو غير ذلك، ومما يدل على انحياز أكثر المفكرين الغربيين إلى العرقية عندما زعموا أن القياس أخذه المسلمون من الرومان، و أن فكرهم الأصولي يقوم على التراث الفلسفي اليوناني هو غياب مفهوم العلة الأرسطية عند علماء الأصول المسلمين، وهذا يدل من جهة على أنهم ابتكروا علما لا علاقة له بمن سبقهم، ومن جهة أخرى يدل على أن الذين طعموا أصول الفقه الإسلامي بمباحث المنطق لم يفهموا جدية هذا العلم عند المسلمين، ولا تخلف المنطق عن مواكبة علم أصول الفقه كما سنبينه في المثال الثاني.
    لاشك أن الباحث في هذا المجال قد يدرك انفصالا تاما بين العلة الأرسطية طريق الوصول إليها و مسالك العلة عند الأصوليين و طريق استخراجها
    2 ـ نقد المسلمين لعلم المنطق الصوري، فإنه لا يمكنهم نقضه إلا من خلال منهج تجريبي يقابله، فإن ثبت تمكن المسلمين من نقض المنطق الصوري نقضا منهجيا فهذا يعني أنهم سبقوا الغرب في معرفة المنهج التجريبي.
    ولبيان هذه النقطة أنقل شهادة أهل العلم و الفكر في هذا العصر كما نقلها الدكتور محمود يعقوبي في كتابه القيم" ابن تيمية و المنطق الأرسطي" نستشف القيمة المنهجية والعلمية لدى نظار و فقهاء الإسلام، و قيمة الروح النقدية المتأججة التي كان يمتاز بها ابن تيمية في حين قتلت الطائفية و النعرات المذهبية هذه الروح عند بعض العلماء فتجاهلوا عمله و تخلفوا عن مواكبة التطور العلمي، فهذا مثال صالح على خطورة التعصب المذهبي ومدى عمقه في فكر المسلمين المتأخرين.
    قال الدكتور في الفصل الثالث:نقد المنطق بعد ابن تيمية {ص:230}:"و الآن بعد تعرف مختلف هذه المواقف يمكننا أن نتعرف قيمتها بإزاء موقف شيخ الإسلام في نقده للمنطق المشائي، و إذا كان معنى النقد في الأصل هو النظر إلى الدراهم لمعرفة جيدها و زيفها، و بالتالي لمعرفة قيمتها و إصدار حكم قيمي في شأنها، فإن هذا المعنى إذا نقلناه إلى ميدان المنطق، كان نقد المنطق معناه النظر في أصوله وفي وقائعه للحكم عليها إيجابا أو سلبا، وفي ضوء هذا يمكننا أن نلاحظ أن شيخ الإسلام قد نظر في أصول المنطق المشائي، فوجد بعضها صحيحا و متينا لأنه ثابت في طبيعة العقل بالفطرة، و بعضها عليلا و هشا لأنه مصطنع ولدته لدى بعض الناس مقتضيات غير طبيعية يمكن اجتنابها لأنها ليست ضرورية.
    وقد تبين لنا من خلال تتبع هذا النقد أن صاحبه على بينة تامة من آراء خصومه و أن له معرفة عميقة بالإسلام عقيدته و شريعته، و أن له نظرا ثاقبا و غيرة متبصرة على الإسلام ولدا فيه روح نقدية قد عدها بعض المفكرين الإسلاميين المحدثين ضربا من النعرة[الأستاذ إبراهيم مدكور في"أورقانون أرسطو" التي تكون قد صغرت في عين صاحبها منطق اليونان و فلسفتهم، إلا أننا نعتقد أن شيخ الإسلام ما كان لينقد المنطق اليوناني لولا حرصه على حماية الدين الإسلامي مما شأنه أن يفسد أصوله، ويهون عليه التحول عنها عن طريق ممازجة الصحيح للفاسد، ومداخلة الفطري للاصطناعي، ومصاحبة المنطق للميتافيزياء اليونانية عامة و المشائية خاصة.
    لقد انبرى لنقد المنطق المشائي لأنه سبق له أن نقد الفلسفة اليونانية التي كان خصوم الإسلام يستعملون بعض آرائها للطعن فيه، والتي وجد هو أصولها دعائم استند إليها المنطق الأرسطي و خليفته المنطق المشائي حتى في ثوبه الإسلامي الأول.
    إن نقد الإمام ابن تيمية للمنطق المشائي جزء من نقده الشامل للفلسفة اليونانية، و إذا كان بعض الناس يعدون الحماسة في النقد عيبا، فإن هذا العيب إن جازت نسبته لسلوك الناقد، فإنه لا يمكن نسبته إلى طبيعة النقد و قيمته، فالقول الحق لا تعيبه اللهجة التي يقال بها، ومع ذلك فإننا لا نرى أن غيرة ابن تيمية على دينه هي وحدها التي جعلت منه ناقدا للمنطق المشائي، إذ الغيرة على الدين هي التي حركت جميع من أفتوا من أئمة الإسلام بتحريم الاشتغال بالمنطق المشائي تعليما و تعلما، لكننا نرى أن الروح النقدية المتأججة و المعرفة الدقيقة بمسائل المنطق المشائي و أصوله، و بالعلوم العقلية عامة، و الدراية الشاملة بالعلوم النقلية، هي التي عندما اجتمعت فيه جعلت منه ناقدا للمنطق المشائي.
    و يمكننا أن نرتب على هذا الرأي أن سائر أئمة الإسلام الذين استعرضنا مواقفهم من المنطق المشائي لم تجتمع فيهم هذه المؤهلات الثلاثة في وقت واحد، مما جعل بعضهم يحرم المنطق بناء على أقوال مخالفة للدين قالها بعض المشتغلين به، وليس بناء على كشف الدراسة و النقد عن وجود خلل ذاتي فيه يوجب تعليق العمل به، و إذا وجد بين هؤلاء من كان قد عرف ذلك و أدركه فإنه لم يصرح به ولم ينقل عنه انه اعتمده في حكمه على المنطق، إذ لو كان ذلك قد حصل بالفعل لعلمه شيخ الإسلام ولاستشهد به وهو الحريص على دعم موقفه بأقوال أئمة الإسلام، فلم يعرف عن الأئمة المجتهدين ولا عن ابن الصلاح و النووي أنهم اشتغلوا بالمنطق دراسة أو تدريسا، و إن كان ليس من المستبعد أن يكون هذان الإمامان قد عرفا منه بعض المسائل عند طلبهما العلم في مؤسسات القرن السادس الهجري الذي كانت فيه كتب المنطق التي تركها ابن سينا و الغزالي رائجة متداولة بين الناس، لاسيما بعدما مزج حجة الإسلام علم الأصول بالمنطق، إلا انه لا يفوتنا أن نلاحظ أن الأئمة المجتهدين إنما صرحوا بمنع الاشتغال بالفلسفة اليونانية القائمة على أصول مخالفة لأصول الشريعة، ولم يبادر إلى تحريم المنطق إلا الإمام ابن الصلاح الذي ضمن فتواه قياسا منطقيا منه تولدت فتواه، و إذا كان الإمام السيوطي قد عمل على ترويج فتوى تحريم المنطق بعد ابن الصلاح و النووي حتى بالتأليف، فإنه قد حرص في كتابه "صون المنطق و الكلام" على دفع الاتهام الذي وجهه إليه بعض خصومه بأنه لا يعرف المنطق بالقدر الذي يؤهله للاجتهاد الذي ادعاه لنفسه، ولعل في هذا ما يكفي لبيان أن إفتاءه بالتحريم إنما كان في حدود إثبات صحة ما ادعاه ابن الصلاح من نسبة نفي الإباحة إلى علم الكلام و المنطق، وفي حدود ما اطلع عليه من أفكار لابن تيمية لخصها من كتابه" الرد على المنطقيين" فلم ينقد السيوطي المنطق و إنما روح التنفير من استنادا إلى أقوال ينقلها عن أئمة اتفقوا على اعتباره غير ضروري للعلوم الشرعية.
    و إذا كان بعض الأئمة قد وقفوا من المنطق موقفا نسبيا مثل موقف الإمام السبكي و الأخضري فهم إنما فعلوا ذلك إقتداء بشيخ الإسلام الذي ماز المقبول من غير المقبول منه، ولم يكن ذلك منهم نتيجة بحث و نقد كما كان ابن تيمية.
    أما الذين دافعوا عن المنطق في غمرة موجة تحريمه كالإمام المغيلي[4] و طاش كبرى زاده و حاجي خليفة و صديق بن حسن القنوجي، فإنهم لم يفعلوا ذلك نتيجة دراسة نقدية ، بل لمجرد المحافظة على ما ألفوه، و إذا كانت أهمية هؤلاء المدافعين إنما تتمثل في إيرادهم أقوال الرافضين للمنطق و حججهم، فإن الرافضين للمنطق بالتحريم الكلي أو الجزئي لم يوردوا هم الآخرون الموجبات الموضوعية من داخل المنطق ذاته بصورة مباشرة.
    و أما الذين نقدوه كالصنعاني و ابن خلدون ومحمد مبين و الشربيني و باقر الصدر فإنهم جميعهم لم يبلغوا بنقدهم الشأو الذي بلغه ابن تيمية، و إن كانوا جميعا يرون مثلما يرى أن المنطق الطبيعي يغني عن المنطق الصناعي المعقد، إلا أن الغريب في الأمر هو أن هؤلاء النقاد الذين ظهروا بعد ابن تيمية يبدو أنهم لم يذكروا آراءه النقدية، إما لأنهم لم يعرفوها، و إما لأنهم سكتوا عنها لمخالفة مضامينها لمضامين العقيدتين الأشعرية و الماتريدية اللتين كانتا تتقاسمان البلاد التي نشأ فيها هؤلاء النقاد[أبو زهرة في" ابن تيمية" و غولدسيهر في" العقيدة و الشريعة في الإسلام"].
    إنهم لم يبنوا عملهم النقدي على عمله الذي سبقهم به، بينما بنى هو نقده على نقد من سبقه و استفاد منه في توسيع آرائه و في تنويع حججه وفي دعمها في جميع الحالات، فجاء نقده متضمنا لنقد جميع الذين تمكن من توجيه آرائهم الوجهة التي اقتنع أنها الوجهة الصحيحة التي ينبغي أن تكون للمنطق في الثقافة العربية الإسلامية، و إذا كان بعض المؤلفين المسلمين الهنود الذين تعرضوا لفكرة كفاية المنطق الطبيعي عن المنطق الصناعي مثل الشيخ صديق بن حسن القنوجي صاحب"أبجد العلوم" قد عرفوا آراء شيخ الإسلام بإطلاعهم عليها في كتاب"الرد على المنطقيين" الذي كان معروفا في الهند، فإن القنوجي قد اكتفى بإحالة القاريء على كتاب شيخ الإسلام قائلا:" ارجع إلى كتاب رد المنطقيين لابن تيمية رحمه الله و اعلم أن جواباته كثيرة و كلها صواب حق[أبجد العلوم ج2، ص:523] وهو بهذه الإشارة المقتضبة يعطينا فكرة واضحة عن موقف النظار المسلمين من عمل شيخ الإسلام حتى القرن الثالث عشر وهو موقف لم يكن ليبلغ مستوى موقف ابن تيمية النقدي إلا لو تظافرت على توليده لديهم المؤهلات التي اجتمعت للإمام ابن تيمية، وهي التضلع في الشريعة، و المعرفة العميقة بالفلسفة اليونانية و المنطق المشائي، وتوفر الروح النقدية المتولدة من الغيرة المتبصرة على الدين، و الشعور بالأخطار التي أحذقت به حتى في عقر داره في عهد الحروب الصليبية، وهو الذي خاض غمارها بقلبه و لسانه و سيفه، ولعل روح النقد إنما أججتها في نفسه أوضاع التحدي التي ألمت بالحضارة الإسلامية التي كان هو أحد أساطينها في نهاية القرن السابع و بداية القرن الثامن الهجري.
    و بهذا يتبين لنا أن نقد ابن تيمية للمنطق المشائي قد بقي نسيج وحده في الفلسفة الإسلامية، لأن أسبابا موضوعية حالت دون معرفة قيمته و الاستفادة منه تؤول في جملتها فيما يبدو لنا إلى ضعف الباحثين الذين خلفوه في العلوم العقلية و النقلية وخمود روح النقد فيهم، إذا لولا ذلك لكان بإمكان الفلسفة الإسلامية أن تسلك بمواصلة نقد المنطق المشائي في الاتجاه الذي ابتدأه الإمام ابن تيمية المسلك الذي كان ينبغي أن تسلكه منذ عهد الإمام الشافعي الذي وضع أصول [علم الأصول] الذي يمكن أن يعد بحق " منطق الشريعة" الذي يستمد مبادئه منها، و الذي يكون أداة لمعالجة المسائل المعرفية و العملية التي تعكسها في ذهن المسلم وقائع الحياة كما تجري في تجربته الحسية، لأن النظار المسلمين مجمعون على أن مصدر المعرفة إنما هو التجربة الحسية، و أن مباديء المعرفة و العمل واحدة، فلم يكن بالإمكان أن يكون المنطق الذي يصدر عنه الفكر الإسلامي إلا منطقا تجريبيا على النحو الذي لجأ إليه شيخ الإسلام من خلال نقده للمنطق المشائي، و الذي لم يتعرفه عن كثب كثير من علماء الدين الأزهريين حتى في القرن الرابع عشر الهجري مثل الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي رأى أن:" ابن تيمية تعسف في إبطال الحد بتعذر الوصول إلى ذاتيات الأشياء وكما تعسف في إبطال القياس بأن الدليل لا يلزم أن يكون مركبا من مقدمتين"[مقدمته لكتاب"تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على متن التهذيب للتفتازاني"].
    لكن الذين عرفوا جهد الإمام ابن تيمية عن كثب و تعمقوا دراسته ولو من خلال أصغر النصوص النقدية التي تعبر عنه مثل كتاب"نقض المنطق" قد أدركوا قيمة هذا الجهد و قدروه حق قدره كما فعل أحد الأئمة الأزهريين المعاصرين هو الشيخ محمد أبو زهرة الذي وافق شيخ الإسلام على آرائه في المنطق المشائي[ كتابه"ابن تيمية"ص:255].
    ومن هنا يتبين لنا أن نقد ابن تيمية للمنطق المشائي كان في حاجة إلى من يعرفه معرفة مباشرة و يدرسه دراسة عميقة، بحيث يحق لنا أن نقول: إن هذه المعرفة و هذه الدراسة لو توفرتا للناظرين منذ الوهلة الأولى ولو تناولته النظار بالتأمل و التنمية لكان له الأثر الحسن في تصفية الفكر الإسلامي من شوائب الفلسفة اليونانية التي عكرت صفوه ردحا من الزمان وفي توجيه مناهج البحث عند المسلمين الوجهة الطبيعية التي تطابق روح شريعتهم، فلقد تمكن الدكتور علي سامي النشار المتوفى في سنة 1983 من إماطة اللثام عن وجود مناهج للبحث عند مفكري الإسلام من خلال نقدهم للمنطق الأرسطي و قد وجد أن " ابن تيمية نقد المنطق الأرسططاليسي نقدا تفصيليا، و أنه ترك لنا بهذا النقد تراثا علميا ممتازا"[مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص:200].
    إلا أن الذي لا مراء فيه هو أن هذا النقد لم يقيض له الله في العصور السالفة من يقف عليه وقفة العارف بخطر مداه، الواعي لقيمة فحواه القادر على فهم جدواه في حماية الأصالة و تحقيق التقدم في ميادين الفكر، ومناهج التفكير و الاستدلال، إذ كما يقول الشيخ مصطفى عبد الرزاق:"لو أن الدراسات المنطقية سارت منذ عهد ابن تيمية عل مناهجه في النقد بدل الشرح و التفريع و التعمق لبلغنا بهذه الدراسات من التجديد و الرقي مبلغا عظيما"[فيلسوف العرب و المعلم الثاني ص:125 نقلا عن عبد الرحمن الوكيل في مقدمته لكتاب "نقض المنطق"لابن تيمية"].
    لقد تميز منهج ابن تيمية فيما يخص نقده العلمي و المنهجي لمنطق المشائين بسيولة علمية متناسقة و بانسجام في الطرح فجاء نقده في سياق علمي مضبوط بحيث ذكر أسباب نقده للمنطق و تعليلات توجهاته ثم لخص نظريته في المعرفة و التعريف و العلاقة بين التعريف و التمييز فبحث التصور و الماهية بحثا دقيقا خلص منه إلى ضبط آليات الدليل العلمي و الروح التي تديره و التي هي اللزوم أو الاستلزام فاستعرض القياس و الاستقراء و العلية و عرضهما على الفطرة ليستخلص قيمة القياس في المعرفة بناء على قيمة صحة الاستلزام.
    وبعد هذه المقدمة المقتضبة عن مجهود ابن تيمية في صيانة الدين من خلال نقض المنطق و بيان عقمه لابد أن نتعرف مميزات المنهج المعرفي عند المسلمين ولماذا نحن به في غنى عن المنطق و تشدقاته كما أظهرها شيخ الإسلام، ثم بعد ذلك ننقض المنطق نقضا معرفيا مذهبيا منهجيا ،وفي حلقات أخرى ننقده نقديا تفكيكيا من خلال نقد أهم كتب المتأخرين التي اعتنت بشرحه.
    الأساس الشرعي لنقض المنطق عند ابن تيمية:
    أنواع العلم الديني:
    العلم الديني و كشفه نوعان:1 ـ أمور خبرية اعتقا دية 2 ـ و أمور طلبة عملية.
    الأول:
    كالعلم بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، ويدخل في ذلك إخبار الأنبياء و أسمهم و مراتبهم في الفضائل و أحوال الملائكة و صفاتهم و أعمالهم و يدخل في ذلك صفة الجنة و النار، وما في الأعمال من الثواب و العقاب، و أحوال الأولياء و الصحابة و فضائلهم و مراتبهم و غير ذلك.
    و قد يسمى هذا النوع أصول الدين و يسمى العقد الأكبر و يسمى الجدال فيه بالعقل كلاما، ويسمى عقائد و اعتقادات، ويسمى المسائل العلمية و المسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.
    الثاني:
    الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح و القلب كالواجبات و المحرمات و المستحبات و المكروهات و المباحات، فإن الأمر و النهي قد يكون بالعلم و الاعتقاد فهو من جهة كونه علما و اعتقادا أو خبرا صادقا أو كاذبا يدخل في القسم الأول، و من جهة كونه مأمورا به أو منهيا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل:شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض و اجب و أن صاحبها بها يصير مؤمنا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرا يحل دمه و ماله فهي من القسم الثاني.
    و قد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن و القبيح و الوجوب و الحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع أم لا تعلم إلا بالسمع؟
    و أن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟
    و كذلك الاستدلال بالكتاب و السنة و الإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول، مثل:مسائل الصفات و القدر و غيرهما مما اتفق عليه أهل السنة و الجماعة من جميع الطوائف، و أبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل، فإثباتها بالعقل، حتى يزعم كثير من القدرية و المعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله و عدله، و انه خالق كل شيء و قادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء و من اتبعهم من بعض الأشعرية و غيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله و قدرته و عبادته، و انه مستو على العرش.
    نوع الأدلة في القرآن:
    1 ـ طريقة القرآن في تقرير الحقائق و مخاطبة الناس:
    القرآن جاء بالبينات و الهدى، بالآيات البينات وهي الدلائل اليقينيات، و قد قال تعالى:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن}"النحل"، و الفلاسفة [مثل الغزالي في"القسطاس المستقيم] يفسرون ذلك بطرقهم المنطقية في البرهان و الخطابة والجدل، وهو ضلال من وجوه، بل الحكمة هي معرفة الحق و العمل به، فالقلوب التي لها فهم و قصد تدعى بالحكمة فيبين لها الحق علما و عملا فتقبله و تعمل به.
    و آخرون يعترفون بالحق لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه، فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق و الترهيب من الباطل، والوعظ أمر ونهي بترغيب وترهيب، كما قال تعالى:{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به}"النساء"، وقال:{ يعضكم الله أن تعودوا لمثله أبدا}"النور"فالد وة بهذين الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله فإنه يجادل بالتي هي أحسن.
    و القرآن يشتمل على النوعين، ولهذا إذا جادل يسأل و يستفهم عن المقدمات البينة البرهانية التي لا يمكن أحد أن يجحدها، لتقرير المخاطب بالحق و لاعترافه بإنكار الباطل كما في مثل قوله:{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}"الطور" وقوله:{أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}"ق"، وقوله:{ أوليس الذي خلق السموات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}"يس"، وقوله:{ أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أن نحن الخالقون}"الواقع ة"، إلى أمثال ذلك مما يخاطبهم باستفهام التقرير المتضمن إقرارهم و اعترافهم بالمقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب، فهو من أحسن جدل بالبرهان، فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم بالمقدمات و إن لم تكن بينة معروفة، فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية.
    والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها، كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق و غيرهم، بل بالقضايا و المقدمات التي تسلمها الناس وهي برهانية و إن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها، كقوله تعالى:{ و ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا و هدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا و علمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم}"الأنعام".
    فالخطاب في هذه الآية مع من يقر بنبوة موسى وهم أهل الكتاب اليهود و النصارى ومع من ينكرها من المشركين، ذكر ذلك بقوله:{ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} عقب قولهم:{ ما أنزل الله على بشر من شيء}.
    فإذا ثبت بالبراهين صدق موسى ثبت صدق محمد، فاحتج على أهل الكتاب بنبوة موسى، وجعل نبوة موسى دليلا على نبوة محمد، فكان دليل ما عرفوه دليلك على مالم يعرفوه.
    و أظهر الله بقصة موسى البراهين و الآيات التي هي أظهر من البراهين و الأدلة المنطقية حتى اعترف بها السحرة، فأتى الله موسى من الأدلة التي علم بالاضطرار أنها من الله، و ابتلعت عصاه الحبال و العصي التي أتى بها السحرة ليسحروا أعين الناس و يسترهبوهم فجاؤا بسحر عظيم أبطله الله بالحق فانقلبوا صاغرين، قال السحرة:{ لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات}"طه"، وهذه البينات هي الدلائل القطعية التي يبطل معها كل قول وقياس.
    و تعدد قصة موسى في القرآن ليس تكرارا كما يظنه بعض المتهوكين، و إنما يبين في كل موضع منها من الاعتبار و الاستدلال نوعا غير النوع الآخر، وهذا مثل أسماء النبي صلى الله عليه و سلم هي صفات متعددة لذات واحدة.
    إبطال القرآن للقياس المنطقي:
    قال الله ـ عز وجل ـ في فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة:{إنه فكر و قدر، فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس و بسر ثم أدبر و استكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر}"المدثر".
    فإنه صنع مثل الفيلسوف المخالف للرسل في تفكيره:الذي هو طلب الانتقال من تصور طرفي القضية إلى المبادئ الموجبة للتصديق ليظفر بالحد الأوسط، ثم قدر ثانيا و التقدير هو "القياس" وهو الانتقال من المبادئ إلى المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي و لعمري إنه لصواب إذا صحت مقدماته، و إن كانت النتيجة في الأغلب أمورا كلية ذهنية، ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان، كالعلوم الرياضية من الأعداد و المقادير، فإن العدد المجرد عن المعدود و المقدار المجرد عن الأجسام إنما يوجد في الذهن، لكن أنى و أكثر مقدماته في الإلهيات دعاوى يدعى فيها العموم؟
    و أن القضية من المسلمات بلا حجة، ومتى لم يكن في القياس قضية كلية معلومة لم تفد المطلوب وهم يلبسون المهملات التي هي في معنى الجزئيات بالكليات العامة المسلمات، أو يدعي فيها العموم بنوع قياس تمثيل.
    ومعلوم أنه لا بد في كل قياس من قضية كلية، وعامة القضايا الكلية التي لهم فيها المطالب الإلهية لا يعلم كونها كلية عامة، إذ عمومها لا يعلم إلا بمجرد قياس التمثيل الذي قد يكون من أفسد القياس المقتضي لتشبيه الله بخلقه، كما يقولون: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وليس معهم إلا تشبيه خالق السموات و الأرض ورب العالمين بالطبائع كطبيعة الماء و النار، مع أن الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات وفي المنطق، أيضا الذين يجعلون قضية الأنواع المركبة منه وهو "الجنس" و "الفصل" لا حقيقة لها ولا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان.
    فإن ما يثبتونه من العقليات التي هي "الجواهر العقلية" المجردة عن المادة، وهي العقل و النفس و المادة و الصورة التي ليست بجسم و لا عرض، لا حقيقة لها في الخارج، و إنما تقدر في الأذهان لا في الأعيان، وكذلك ما يثبتونه من الواحد الذي يصفون به واجب الوجود، ومن الواحد الذي يجعلون الأنواع تتركب منه، إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان، و "القياس العقلي" الذي يحتجون به لا بد فيه من قضية كلية.
    أنواع القياس:
    القياس نوعان: قياس الشمول و قياس التمثيل.
    و الناس متنازعون في مسمى "القياس" فقيل: هو حقيقة في "التمثيل" مجاز في" الشمول" كما ذكر ذلك أبو حامد وأبو محمد وغيرهما، وقيل هو حقيقة في عكس ذلك، كما قاله ابن حزم و غيره من نفاة قياس التمثيل و قيل: بل اسم القياس يتناولهما وهذا قول جمهور الناس.
    و اسم"القياس العقلي" يدخل فيه هذا وهذا، لكن الناس من ظن أن "قياس التمثيل" لا يفيد اليقين، ولا يستعمل في العقليات، كما ذهب إليه أبو المعالى و أبو حامد والرازي و أبو محمد و الآمدي و آخرون من أهل المنطق.
    و أما الجمهور فعندهم كلا القياسين سواء، وهذا هو الصواب.
    بيان تماثل قياس الشمول و قياس التمثيل:
    إن مآل القياسين إلى شيء واحد و إنما يختلف ترتيب الدليل فإن القائل:النبيذ المتنازع فيه حرام لأنه مسكر فكان حراما قياسا على خمر العنب، فلابد له أن يثبت أن السكر هو مناط التحريم وهو الذي يسمى في قياس التمثيل "مناطا" و "علة" و "أمارة" و "مشتركا" و"وضعا"ونحو ذلك.
    ولابد في القياس الصحيح من أن يقيم دليلا على أن السكر مناط التحريم، بحيث إذا وجد السكر وجد التحريم، فإذا صاغ الدليل بقياس الشمول فإن النبيذ مسكر و كل مسكر حرام، فالسكر في هذا النظم هو الحد الأوسط المكرر، وهو العلة في قياس التمثيل، ولابد له في هذا القياس من أن يثبت هذه القضية الكلية الكبرى وهي قوله:كل مسكر حرام، فما به ثبتت هذه القضية في هذا النظم يثبت به أنه مناط التحريم في ذلك النظم لا فرق بينهما.
    و إذا قال القائل:إثبات تأثير الوصف وكونه مناط الحكم هو عمدة القياس وهو جواب"سؤال المطالبة" وبيان كون الوصف بالشمول هو مناط الحكم، وهذا لا يثبت إلا بأدلة ظنية.
    قيل له: و إثبات عموم القضية الكبرى في قياس الشمول هو عمدة القياس، فإن الصغرى في الغالب تكون معلومة، كما يكون ثبوت الوصف في الفرع معلوما، و إذا كان ثبوت الوصف في الفرع قد يحتاج إلى دليل، كما قيل: تحتاج المقدمة الصغرى إلى دليل، و إثبات المقدمة الكبرى لا يتأتى إلا بأدلة ظنية ونفس ما به يثبت عموم القضية يثبت تأثير الوصف المشترك لا فرق بينهما أصلا، و استعمال كلا القياسين في الأمور الإلهية لا يكون إلا على وجه الأولى و الأحرى.
    ـ وبهذه الطريقة جاء القرآن وهي طريقة سلف الأمة و أئمتها، فإن الله سبحانه لا يماثله شيء من الموجودات في"قياس التمثيل" و لا أن يدخل في "قياس شمول" تتماثل أفراده، بل ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به، وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه كما قال:{للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلى}"النحل"، وقال:{ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}"الروم".
    فما يستفاد من القياس الشمولي في عامة الأمور قد يستفاد بدون ذلك، فتعلم أحكام الجزئيات الداخلة في القياس بدون معرفة حكم القضية الكلية، كما إذا قيل: الكل أعظم من الجزء، و الضدان لا يجتمعان فما من كل معين و ضدين معينين إلا و إذا علم أن هذا جزء هذا، و أن هذا ضد هذا علم أن هذا أعظم من هذا، و أن هذا لا يجامع هذا، بدون أن يخطر بالبال قضية كلية:أن كل ضدين لا يجتمعان، و أن كل فهو أعظم من جزء، وكذلك إذا قيل: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فما من نقيضين يعرف أنهما نقيضان إلا و يعرف أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان بدون أن يستحضر أن كل نقيضين لا يجتمعان و لا يرتفعان.
    فعامة المطالب يستغنى فيها عن القياس المنطقي المتضمن الكبرى الذي لا بد فيه من قضية كلية، و الأمور المعينات لا تعلم بمجرد القياس العقلي، و إنما يعلم بالقياس القدر المشترك بينهما و بين غيرها، وهم يسلمون ذلك و بينا أن الأدلة الدالة على الصانع هي آيات تدل بنفسها على نفسه المقدسة، و بينا الفرق بين دلالة الآيات و دلالة القياس، و أن الأدلة أكمل و أنفع، وطريقة القياس تابعة لها ودونها في المنفعة و الكمال، والقرآن جاء بهذه و هذه ومعرفة الإلهيات و النبوات و غيرها، فتلك الطريقة أكمل و أتم.
    وهؤلاء يزعمون أنه لا ينال مطلوب فطري إلا بطريقة القياس الذي لابد فيه من قضية كلية، و القضية الكلية لا تفيد إلا أمرا كليا عقليا، لا تفيد معرفة شيء معين، وكل موجود فهو معين، فكيف يقول عاقل مع هذا: إنه لا ينال علم إلا بهذه الطريق؟
    ثم إنهم في ضلالهم يظنون أن علم الأنبياء بل وعلم الرب سبحانه إنما حصل بواسطة القياس المنطقي، و أن المبني له قوة حدسية يظفر بالحد الأوسط في القياس المنطقي بدون معلم، فيكون أكمل من غيره، فيجعلون علمه بالغيب من هذا الباب و لم يدرك بمثل هذا القياس علوما طبيعية أو حسابية و نحو ذلك، فمن أين أنه لا ينال علم إلا به؟ ومن أين انه لا مواد يقينية إلا ما يدعيه المدعي مما عنده من الحدسيات المعتادة الظاهرة و الباطنة و البديهيات المعتادة و المتواترات و المجربات المعتادة و الحدسيات المعتادة و الحس الباطن و الظاهر و التجربة ونحو ذلك لا يعلم بمجرده إلا أمر معين جزئي، وذلك لا يصلح أن يكون مقدمة في القياس، ولكن يعلم في العموم إما بواسطة قياس تمثيل و إما بعلم ضروري يحدثه الله في القلب ابتداء و إذا أحدث علما ضروريا عاما لأفراد فإحداث العلم ببعض تلك الأفراد سها، فقل أن يستفاد بطريقهم علم نتيجة إلا و العلم بالنتيجة فيه ممكن بالطريق الذي به عرفت المقدمات أو أسهل، فلا يكون في قياسهم إلا زيادة تطويل و تهويل و تضليل.
    ونفي العلم إلا بهذا القياس و نفي كون القياس يقينيا إلا بهذه المقدمات قول بلا علم، وتكذيب بما لم يحط المكذب بعلمه، ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية "قياس الأولى" كما قال تعالى:{ولله المثل الأعلى}"النحل" إذ لا يدخل الخالق و المخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولا يتماثلان في شيء من الأشياء بل يعلم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، و كل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه، و أمثال هذه الأقيسة العقلية التي من نوع الأمثال المضروبة في القرآن، ولله المثل الأعلى.

    [1] ـ هنا في الجزائر، قام بعض طلبة العلم بدراسة المنطق في جميع مراحل تطوره عبر التاريخ إلى غاية النهضة الأروربية حيث تم التخلي عن المنطق الصوري و استبدل بالمنطق الاسمي و التجريبي و الرياضي بخلاف المسلمين الذي بقوا عالقين في منطق القرون الوسطى، وهو منطق رديء يفسد العقلية الإسلامية كما يفسد العلوم الإسلامية، ويقود إلى الزندقة مباشرة، وهذا ما سندلل عليه و نبينه بأوضح الأدلة و أقوم السبل.
    وحيث يكون الشيعة و المتكلمون يحتاج السلفي الإحاطة بعلم المنطق تصورا و الإحاطة به نقضا،فإنه أقوى أسلحتهم لبث الشبهات و تشكيك الناس في معتقداتهم.

    [2] ـ هنا مربط الفرس،وهنا يكمن السبب الحقيقي الذي يجعل السلفي يرفض المنطق رفضا قاطعا،من المعلوم أن خرق العادة عند المتكلمين جائز مطلقا وكل ما يخرق لنبي من العادات يجوز أن يخرق لغيره بشرطين:1 ـ خرق العادة للنبي يقترن به دعوى النبوة وهو التحدي عندهم.
    2 ـ لا يمكّن الله أحدا أن يعارضها إن كان كاذبا، وهذا إيجاب على الله لا يقول به الأشاعرة أصلا،ومعلوم انه بناء على هذا الأصل لم تكن معجزات الأنبياء دالة على صدقهم كما هو معروف عند الغزالي في قصة انشقاق القمر، وعند الجويني في كتابه " البرهان" في قصة عصا موسى، ومع أن هذا الكلام باطل مخالف للقرآن فسحرة فرعون لم يسجدوا لان عصا موسى انقلبت ثعبانا فهذا يقدر عليه السحرة ولكنهم سجدوا لما رأوها تبلع عصيهم و حبالهم فعلموا أن ذلك في غير مقدور البشر فهذا الذي دعاهم للإيمان، ولما كانت المعجزات من جنس الخبريات فقد جعلها هؤلاء في المرتبة السابعة من مراتب العلم.
    أما عند الفلاسفة فغن النبوة هي من قوى النفس و الفرق بين النبي و الصالح و الساحر أن النبي و الصالح نفسه طاهرة يأمر بالخير و الساحر نفسه خبيثة يأمر بالشر، أما الفرق بين النبي و الصالح فمتعذر عندهم.
    فابن سينا جعل النبوة من قسم الفلسفة العملية التي يدخل فيها تدبير المدن و المنازل و الحدائق و الأبدان و الخلاق فهي من جنس السياسة.
    أما كون النبوة من قوى النفس فيعني أنها قوى حدسية تمكن بعض الناس من الاتصال بالعقل الفعال بدون حاجة إلى تعلم فيعرف كل شيء بنفسه و القوى القدسية أعلى مراتب القوى الإنسانية، فالنبوة عندهم طور من أطوار الإدراك ليس إلا.
    فلهذا لا يعتقدون أن الأنبياء يعلمون حقائق الأشياء أو أنهم علموها و لم يبلغوها و إذا كان المر كذلك فإن من تتشوف نفسه إلى إدراك الحقائق فعليه بعلم المنطق، ولهذا حصروا طرق المعرفة ابن سينا الغزالي ابن رشد في طريقة أهل البرهان الفلاسفة و طريقة أهل التجرد وهم الصوفية و أكثرهم جمعها في التصوف الكشفي أي التصوف الفلسفي.
    أما السلفي فعنده جنس الآيات الخارقة نوعان: جنس في نوع العلم و جنس في نوع القدرة، فما اختص به النبي صلى الله عليه و سلم خارج عن علم الإنس و الجن و خارج عن قدرة الإنس و الجن،إن جنس آيات الأنبياء خارج عن مقدور البشر وعن مقدور جنس الحيوان،فما يدل على النبوة هو آية النبوة وبرهان عليها فلابد أن يكون مختصا بها ولا يكون مشتركا بين الأنبياء و غيرهم فإن الدليل هو مستلزم لمدلوله لا يجب أن يكون أعم وجودا منه بل إما يكون مساويا له في العموم و الخصوص أو يكون اخص منه وحينئذ آية النبي لا تكون لغير النبي،وعليه لا يستمد السلفيون أية معرفة شرعية سواء تعلقت بالله تعالى أو بأمره وحكمه إلا من جهة النبي صلى الله عليه و سلم إذ هو الوحيد الذي يعلم ذلك.
    و أما فهم النصوص فلا يحتاج فيه السلفي إلى علم المنطق بل يحتاج إلى فهم السلف الصالح ،فهذا باختصار شديد سبب فساد المنطق و سبب نفور أهل السنة العالمين بالسنة إثبات لها ونفيا لما يضادها من المنطق.

    [3] ـ يعتقد بعض الباحثين أن المسلمين قد تمكنوا من تخليص المنطق الصوري من مباحثه الميتافيزيقية هذا غير صحيح بالمرة إذ ليس المقصود العبارات الميتافيزيقية بل المنطق نفسه وليد تصورات ميتافيزيقية، فمن أراد أن يفهم المنطق جيدا عليه أن يرجع إلى فترة نشوئه فيكون عنده نوع إلمام بموجز عن المذاهب الفلسفية حتى يعرف الخلفية الفكرية التي نبع منها المنطق.

    [4] ــ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي ينتسب إلى قبيلة مغيلة القاطنة في نواحي تلمسان بالجزائر إلى يومنا هذا، تتلمذ على الشيخ الإمام عبد الرحمن الثعالبي و الشيخ يحي بن يدير، كان عالما صالحا قوي الشكيمة قال عنه ابن مريم:" القدوة الصالح الحبر أحد أذكياء العالم و أفراد العلماء الذين أوتوا بسطة في العلم و التقدم"[البستان:ص253]، و يمكن اعتباره من حيث مقاومته للبدع و مطالبته بتجديد الدين عالما سلفيا متحمسا، ناهض حكام عصره و طالبهم بتطبيق الشريعة مما اضطره إلى الهجرة إلى السودان[ المقصود بالسودان إفريقية الغربية مالي و النيجر و غيرها أما السودان الحالي فكان يسمى آنذاك بلاد الزنج و بلاد سنار و بلاد الفونج]، قال عنه العلامة محمد السنوسي:" القائم بما اندرس في فاسد الزمان من فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، التي يكون القيام بها، لا سيما في هذا الوقت علم على الاتسام بالذكورة العلمية و الغيرة الإسلامية و عمارة القلب بشرف الإيمان"[البستان]، ومن هناك تزعم المشكلة التي ثارت في توات، فإنه عندما وصلها وجد اليهود قد تنفذوا بها حتى صار المسلمون أشبه بأهل الذمة، فقد اشترى اليهود ذمم الحكام و استولوا على طرق التجارة بين أعالي النيجر و المغرب العربي، و قد حاول بعض المفكرين الغربيين تشويه هذه القضية كمرتين و مالفونت، و الواقع أن المغيلي لم يظلم اليهود بل كان رأيه الفقهي فيهم قائما على مطالبتهم باحترام و ضعيتهم القانونية في البلاد الإسلامية، لأنه وجدهم قد استولوا على الثروات و صاروا يتحكمون في السياسة و أمور الحكم، و قد وصف ملفانت أحوال اليهود قبل أن يصل المغيلي إلى توات بنصف قرن فقال:" يتكاثر اليهود هنا في تمنطيط و تسير حياتهم في سلم تحت ظل الرؤساء الذين يدافع كل منهم عن أتباعه و لهذا يتمتع اليهود بحياة سهلة، و تسير التجارة بواسطتهم، وهناك الكثيرون هنا يضعون ثقتهم فيهم..".
    و قد أثار حفيظة المغيلي أولا أن اليهود بنوا لأنفسهم بيعة تجاوزت ضخامتها تلك الحدود التي كان بإمكان المسلمين السماح بها فناهضهم، و لكن اليهود وجودوا عونا لهم في شخصية قاضي توات أبو عبد الله العصنوني فاضطر المغيلي إلى مكاتبة الفقهاء في فاس و غيرها فوافقه بعضهم و خالفه بعضهم، بل منهم من اتهمه بالطموح إلى أكثر من مجرد القضايا الشرعية، و قد كتب المغيلي عن هذه القضية كتابه:"مصباح الأرواح في أصول الفلاح".
    هذا عن شخصية المغيلي، أما فيما يخص موضوعنا فقد وقعت مراسلات بينه و بين السيوطي حول المنطق و جديته، و قد كان المغيلي من أنصاره، ولكن المهم أن خلافهما حول المنطق لم يمنعهما من العمل معا على تقوية نفوذ الأسقيا محمد الكبير حاكم المنطقة، خاصة و انه كان ينشر الإسلام في جنوب مملكته، و يرسل بالعلماء من أجل ذلك، وقد حوت رسالته إلى الأسقيا محمد و التي ضمنها آراؤه السياسية و الاجتماعية مواقف هامة جديرة بالدراسة.
    عن دراسة للدكتور عبد القادر زبادية.

  2. #2

    افتراضي رد: لماذا لا يجوز للسلفي الاشتغال بالمنطق؟

    الفرق بين الأقيسة القرآنية و الأقيسة العقلية المنطقية:
    الأقيسة العقلية:
    هي: البرهانية و الخطابية و الجدلية، و الأقيسة القرآنية تجمع نوعي العلم و العمل، الخبر و الطلب على أكمل الوجوه، بخلاف الأقيسة المنطقية التي تنحصر فائدتها في مجرد التصديق في القضايا الخبرية، سواء تبع ذلك عمل أو لم يتبعه، فإن كانت مواد القياس يقينية كان برهانا، سواء كانت مشهورة أو مسلمة، أو لم تكن، وهو يفيد اليقين و إن كانت مشهورة أو مقبولة سمي خطابة، سواء كانت يقينية أو لم تكن، وذلك يفيد الاعتقاد و التصديق الذي هو بين اليقين و الظن، ليس له أن يفيد الظن دون اليقين إذ ليس في كونها مشهورة ما يمنع أن تكون يقينية مفيدة لليقين.
    الفرق بين ما يجب أن يفيد اليقين و ما يمنع إفادة اليقين:
    فالمشهورة من حيث هي مشهورة تفيد التصديق و الإقناع و الاعتقاد، ثم إن عرف أنها يقينية أفادت اليقين أيضا، و إن عرف أنها غير يقينية لم تفد إلا الظن، و إن لم تشعر النفس بواحد منهما، بقي اعتقادا مجردا لا يثبت له اليقين و لا ينفى عنه.
    الفرق الجوهري بينهما:
    إن كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين، لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة و الجدل عن البرهان: بكون المقدمة مشهورة أو مسلمة غير يقينية بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة أو مسلمة فلابد و أن تكون يقينية فأما الاكتفاء بمجرد التسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة، أو مجرد كونها مشهورة، و إن لم تكن صادقة فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله الذي كله حق و صدق و هو أصدق الكلام و أحسن الحديث.
    ـ فالقياس القرآني يتكون من المقدمات الصادقة سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن، لما فيه من إدراك الحقائق على ماهي عليه في الخارج و ليس في الذهن التي تتفاوت مداركه من رجل للآخر.
    فبعض الناس من المتكلمة و المتفلسفة يظن أن القرآن جاء بالطريقة الخطابية و عري عن البرهانية، ولم يعلم أن جميع ما جاء به القرآن يشمل الطريقة البرهانية و قد تكون تارة خطابية أو جدلية مع كونها برها نية.
    فهي خطابية بمعنى وعظية لمن قد لا يفهم الحقائق الخفية لكنه لا ينازع في المشهورة و هي جدلية لمن لا ينقاد إلى مالا يسلمه، سواء كان جليا أو خفيا فتاتي جدلية بمعنى مبنية على مسلمات للمنازع سواء كانت جلية أو خفية و إلا في الخطاب العام فإنها برها نية.
    قال تعالى:{ و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}"" و المثل هو القياس و لهذا اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة ذلك أن المقدمة المذكورة في القياس الذي هو [مثل] لها وصف ذاتي ووصف إضافي.
    اعتبار الوصف الذاتي و الوصف الإضافي في مقدمة القياس القرآني:
    الوصف الذاتي لها:
    أن تكون مطابقة للحق في الواقع فتكون صدقا، أو لا تكون مطابقة له فتكون كذبا، وجميع المقدمات المذكورة في أمثال القرآن هي صدق يثبته العقل.
    الوصف الإضافي:
    فكونها معلومة عند زيد أو مظنونة أو مسلمة أو غير مسلمة فهذا أمر لا ينضبط، فكثير من المقدمات هي يقينية عند شخص قد علمها و هي مجهولة فضلا عن أن تكون مظنونة عند من لا يعلمها، فكون المقدمة يقينية أو غير يقينية أو مشهورة أو غير مشهورة أو مسلمة أو غير مسلمة أمور نسبية أو إضافية لها تختلف حسب الإنسان، ولهذا تنقلب المظنونة أو المجهولة في حقه يقينية أو معلومة و الممنوعة مسلمة، و المسلمة ممنوعة، و القرآن كلام الله الذي أنذر به جميع الخلق لم يخاطب به و احدا بعينه حتى يخاطب بما هو عنده يقيني من المقدمات أو مشهور أو مسلم.
    ـ فمقدمات الأمثال في القرآن اعتبر فيها الصفة الذاتية وهي كونها صدقا و حقا يجب قبوله و أما جهة التصديق فتتعدد و تتنوع إذ هي ليست شرط في صحة القياس، فقد يكون لهذا من طرق التصديق بتلك المقدمة ما ليس لعمرو، مثل أن يعلمها أحد بالإحساس و الروية و يعلمها الآخر بالسماع و التواتر كآيات الرسول، ومثل هذا الطوفان فمن يعلمه من جهة خبر الرسول و من يعلمه من جهة الآثار التي تركها على أعالي الجبال، و لهذا خاطب القرآن الناس بما عندهم يقيني أو مشهور من اليقين أو مسلم به.
    و بهذا يتبين أن تقسيم المنطقيين لمقدمات القياس إلى المستيقن و المشهور والمسلم ليس و صفا لازما للقضية، بل هو حسب ما اتفق للمصدق بها، فهو في حق قوم معينين لا في حق جميع البشر، و القياس حق ثابت لا يتبدل، و ما يقوله المناطقة يتغير و يتبدل و لا يستمر إلا في الأمور التي جعلها الله مشتركة بين الناس كالحساب و الطبيعيات.
    وهذان العلمان ليسا مقصود الأنبياء ولا معرفتهما شرطا في السعادة الأبدية و لا محصلا لها و غنما المقصود العلم الإلهي، و مقدمات القياس فيه هي من القسم الأول الذي تختلف فيه أحكام المقدمات بالنسبة و الإضافة، فتبين أن لا حاجة للقياس المنطقي في علوم الدين.
    القياس المنطقي النظري:
    ـ إن طريقة أهل النظر و القياس مدارها على مقدمة لابد منها في كل قياس يسلكه الآدميون، وهي مقدمة كلية جامعة تتناول المطلوب و تتناول غيره، بمعنى أنها لا تمنع غيره من الدخول و إن لم يكن له وجود في الخارج، فهي لا تتناول المطلوب لخاصيته، بل بالقدر المشترك بينه و بين غيره، و المطلوب بها هو الله تعالى، فلم يصلوا إليه إلا بجامع ما يشترك فيه هو وغيره من القضايا الإيجابية و السلبية، و المشترك بينه و بين غيره لا يعرف بخصوصه أصلا، فلم يعرفوا الله بل لما اعتقدوا فيه القدر المشترك صاروا مشركين به، وحكموا على القدر المشترك بأحكام سلبية أو إيجابية فإنها تصح في الجملة لأن ما انتفى عن المعنى العام المشترك انتفى عن الخاص المميز، وليس ما انتفى عن الخاص المميز انتفى عن العام، فما نفيته عن الحيوان أو عن النبي انتفى عن الإنسان و الرسول، وليس ما نفيته عن الإنسان أو الرسول انتفى عن الحيوان أو النبي.
    و لهذا كان قوله "لا نبي بعدي" ينفي الرسول، و كذلك ما ثبت للمعنى المشترك بصفة العموم ثبت للخاص، و ما ثبت له بصفة الإطلاق لم يجب أن يثبت للخاص، فإذا ثبت حكم لكل نبي دخل فيه الرسول، و أما إذا ثبت للنبي مطلقا: لم يجب أن يثبت للرسول، و قد تتألف من مجموع القضايا السلبية و الإيجابية:أمور لا تصدق إلا عليه، ولا يصح أن يوصف بها غيره كما إذا وصف نبي بمجموع صفات لا توجد في غيره.
    لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه، و أما عينه فلا يعرف بمجموع تلك القضايا الكلية، فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب و العدم إذا كان القياس صحيحا.
    ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن وهي المقاييس العقلية دالة على النفي في مثل قوله:{ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم}، و مثل قوله:{ضرب الله مثلا رجلين}، وقوله:{يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله}، وقوله:{قل لو كان معه آلهة كما تقولون}، وقوله:{ما اتخذ الله من ولد و ماكان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض}، و أمثال ذلك من الأمثال وهي القياسات التي مضمونها نفي الملزوم للانتفاء لازمه أو نحو ذلك.
    لماذا معارفهم في الربوبية سلبية؟
    ولهذا كان الغالب على أهل القياس من أهل الفلسفة و الكلام في جانب الربوبية إنما هي المعارف السلبية[1]، ثم لم يقتصروا على مقدار ما يعلمه العقل من القياس بل تعدوا ذلك فنفوا أشياء مشبهة القياس الفاسد مثل نفي الصفات النبوية الخبرية بل و نفى الفلاسفة و المعتزلة الصفات التي يثبتها متكلموا أهل الإثبات و يسمونها الصفات العقلية لإثباتهم إياها بالقياس العقلي.
    ومعلوم أن العقل لا ينفي بالقياس إلا القدر المشترك الذي هو مدلول القضية الكلية التي لا بد منها في القياس، مثل أن ينفي الإرادة أو الرحمة أو العلم المشترك بين مسميات هذا الاسم، و القدر المشترك في المخلوقين تلحقه صفات لا تثبت لله تعالى، فينفون المعنى المشترك المطلق على صفات الحق و صفات الخلق تبعا للانتفاء ما يختص به الخلق، فيعطلون كما أن أهل التمثيل يثبتون ما يختص به الخلق تبعا للقدر المشترك وكلاهما قياس خطأ.
    ففي هذه الصفات بل وفي الذوات ثلاث اعتبارات:
    1 ـ ما تختص به ذات الرب و صفاته 2 ـ ما يختص به المخلوق و صفاته 3 ـ المعنى المطلق الجامع.
    فاستعمال القياس الجامع في نفي الأول خطأ و كذلك استعماله في إثبات الثاني، و أما استعماله في إثبات الثالث فيحتاج إلى إدراك العقل لثبوت المعنى الجامع الكلي، وهذا أصل القياس و الدليل فإن لم يعرف العقل بنفسه أو بواسطة قياس آخر ثبوت هذا و إلا لم يستقم القياس.
    و كذلك في معارفهم الثبوتية لا يأتون إلا بمعاني مطلقة مجملة مثل ثبوت الوجود ووجوب الوجود أو كونه ربا أو صانعا أو أولا أو مبدأ أو قديما، و نحو ذلك من المعاني الكلية التي لا يعلم بها خصوص الرب تعالى، إذ القياس لا يدل على الخصوص، فإنه إذا استدل بأن كل ممكن فلابد له من موجب و بان كل محدث فلابد له من محدث كان مدلول هذا القياس أمرا عاما، و لهذا خالفوا القرآن فصاروا إلى النفي مفصل و إثبات مجمل، لأن الخصوص يثبت بالإثبات المفصل الذي هو إيجاب و ليس بالنفي المفصل الذي هو سلب كعدم.
    ـ و كذلك أصحاب الرياضة و التجرد فإن صفوتهم الذين يشتغلون بذكر بسيط مثل: لا إله إلا الله إن لم يغلوا فيقتصروا على مجرد الله الله و يعتقدون أن ذلك أفضل و أكمل، كما فعله كثير منهم، وربما اقتصر بعضهم على:هو هو أو على قوله: لاهو إلا هو لأن هذا الذكر المبتدع الذي هو لا يفيد بنفسه إلا انه مطلق ليس فيه بنفسه ذكر الله إلا بقصد المتكلم.
    فقد ينضم إلى ذلك اعتقاد صاحبه أنه لا وجود إلا هو، كما يصرح به بعضهم و يقول: لا هو إلا هو أو لا موجود إلا هو.
    و قالوا: لا إله إلا الله ذكر العابدين و الله الله ذكر العارفين وهو ذكر المحققين، و إذا قال الله الله إنما يفيد مجرد ثبوته بخلاف ما إذا ذكره بصفته كما كان يفعل النبي صلى الله عليه و سلم فحينئذ فإنه يتعين لأنه تخصص عن غيره بصفاته.
    و قد ينضم إلى ذلك نفي غيره لا نفي إلهية غيره، فيقع صاحبه في وحدة الوجود.
    الفرق بين الآيات و القياس:
    الآية هي العلامة و هي ما تستلزم نفسها لما هي آية عليه من غير توسط حد أوسط، فينتظم به قياس مشتمل على مقدمة كلية، كالشعاع فإنه آية الشمس، وكذلك النبات للمطر في الأرض القفر، و الدخان للنار، و إن لم ينقدح في النفس قياس، بل العقل يعلم تلازمهما بنفسه فيعلم من ثبوت الآية ثبوت لازمها، و العلم بالتلازم قد يكون فطريا و قد لا يكون.
    ـ كذلك أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا، بل يفضي كل منهما إلى حق ما لكن ليس هو الحق الواجب، وكثيرا ما يقترن معه الباطل، فلا يحصل المقصود الذي هو سعادة العبد، فالطريقة النظرية القياسية:فإنه لابد فيها من الاستدلال بالممكن على الواجب أو المحدث على المحدث، أو بالحركة على المحرك، وذلك يعطي فاعلا عظيما من حيث الجملة.
    و كذلك الطريقة الرياضية الذوقية تعطي انقياد القلب و خضوعه إلى الصانع المطلق و كل منهما لا بد فيها من علم اضطراري يضطر القلب إليه إذ القلب لا يحصل له علم إلا من جنس الاضطراري ابتداء بتوسط الضروري، فإن النظر يبنى على مقدمات تنتهي إلى ماهو جنس الضروري إما بتوسط الحس أو مجردا عن الحس.
    ـ فالطريق القياسية تفيد العلم بتوسط مقدمات ضرورية، مثل أن يقال الوجود المعلوم إما ممكن و غما واجب و الممكن لا يوجد إلا بواجب، فثبت الواجب على التقديرين.
    و مثل أن يقال: العالم محدث أو كثير منه محدث و الثاني ضروري و الأول يستدل عليه ثم يقال و كل محدث فله محدث.
    أو يقال: لاشك أن ثم وجودا وهو إما قديم و إما محدث، والمحدث لابد له من قديم فيثبت وجود القديم على التقديرين.
    كما يقال: لا ريب أن ثم وجودا وهو إما مصنوع أو غير مصنوع أو مخلوق أو غير مخلوق أو مفطور أو غير مفطور، و المصنوع أو المخلوق أو المفطور لابد له من صانع، وخالق و فاطر فثبت وجود ما ليس بمصنوع ولا مفطور ولا مخلوق على التقديرين.
    ـ فهذه الوجوه و ما يشبهها تدل على وجود واجب قديم ليس بمصنوع لكن الشأن في تعيينه فإن عامة الدهرية يقولون: هذا هو العالم أو شيء قائم به، ثم إن افتقار الممكن إلى الواجب، و المحدث إلى القديم، و المصنوع إلى الصانع مقدمة ضرورية، و إن كان طائفة من النظار يستدلون على هذه المقدمة، وعلى أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح و الجمهور على الاكتفاء بالضرورة فيهما.
    و الطريقة العبادية تفيد العلم بتوسط الرياضة و صفاء النفس فإنه حينئذ يحصل للقلب علم ضروري كما قال الشيخ إسماعيل الكوراني للعز بن عبد السلام [ص:76].
    و العلم الضروري:هو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه، فالقائس إن لم يحصل له العلم الضروري ابتداء و إلا فلابد أن يبني نظره و قياسه على مقدمات ضرورية ثم حينئذ يحصل له العلم.
    و لهذا قال أبو المعالي الجويني:" إن جميع العلوم ضرورية باعتباراتها بعد وجود النظر الصحيح في الدليل تحصل العلم ضرورة، لكن منها ماهو ضروري عند تصور طرفي القضية، ومنها ماهو ضروري بعد تأمل و نظر، ومنها ماهو ضروري بعد النظر في دليل ذي مقدمتين أو مقدمات.
    لكن مجرد النظر و العمل مجتمعين و منفردين لا يحصلان إلا أمر مجملا، كما هو الواقع، وذلك صحيح فإن ثبوت الأمر المجمل حق فإن ضما إلى ذلك ما يعلم بنور الرسالة من الأمر المفصل حصل الإيمان النافع وزال ما يخاف من سوء عاقبة ذينك الطريقين.
    و هذه حال من تحيز من أهل النظر الكلامي و العمل العبادي إلى اتباع الرسول و الإيمان به، فقبل منه و أخذ عنه.
    و إن لم يضم أحدهما إلى ذلك ما جاء به الرسول فإما أن يضم ضده أو لا يضم شيئا، فإن ضم إلى ذلك ما جاء به الرسول وقع في تكذيب و الجهل المركب و عن لم يضم إليه شيء بقي في الجهل البسيط سواء كان في ريب أو غفلة أو إعراض.
    فإن أي إنسان على الأرض لا يخلو من أن يتصور الرسالة أولا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة منها، وعدم إيمان بها، كما قال تعالى:{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا}، لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، و الكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، و إن تصور ما جاء به الرسول و انصرف فهو معرض عنه كما قال تعالى:{ و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، و إن كان مع ذلك لاحظ له، لا مصدق و لا مكذب و لا محب و لا مبغض فهو في ريب منه كما قال:{ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}.
    ـ فاخبر الله عن مناظرة الكفار الرسل في الربوبية أولا، فإنهم في شك من الله الذي يدعونهم إليه و في النبوة ثانيا بقولهم:{إن أنتم إلا بشر مثلنا، } و هذا بحث كفار الفلاسفة بعينه.
    هذا باختصار الأساس الفكري الذي قام عليه ذم ابن تيمية للمنطق ،وهو أساس ـ كما يرى القارئ ـ قوي ومتين يهدم نظرية القياس المنطقي ليبني نظرية القياس القرآني،بين فيه ابن تيمية أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى علم المنطق لمعرفة دينهم.
    كما أن النبذة التاريخية عن العمل الجبار الذي قام به شيخ الإسلام من خلال نقضه المنطق الصوري تضع الإخوة في الصورة لفهم مجريات الأمور و عللها الحقيقة وكيف تلبس الأمر على بعض الناس و تغافل عنه آخرون،في الأسبوع القادم إذا يسر الله و أعان نبدأ بنقض المنطق التفصيلي، و الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده، و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    أرزيو،الجزائر ،في2009-02-20
    مختار الأخضر طيباوي

    [1]ـ طريقة السلوب في المعرفة و بيان قصورها قد خصصت له بحثا أنزله الأسبوع القادم إن شاء الله.

  3. #3

    افتراضي رد: لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

    جزاك الله خيرا .. يحتاج الى نفس !

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    14

    افتراضي رد: لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

    جزاك الله كل الخير
    عند دراستي لمادة المنطق واجهتني صعوبة بالغة واحسست انه ضياع للجهد والعقل والتفكير , ولكن ادركت أهمية دراسته ومعرفة مصطلحات المناطقة في باقي المواد وخاصة مادة دراسة نصية في( شرح العقيدة الاصبهانية )لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
    فهو شر لا بد منه

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    3

    افتراضي رد: لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

    جزاكم الله خيراً وبارك بكم. وكما قيل لان يعيش المسلم أخرس أبكم خير له من أن يمتلئ باطنه كلاما وفلسفة !.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    40

    افتراضي رد: لماذا لا يجوز للمسلم الاشتغال بالمنطق؟

    لا يمكنك أن تفهم بعض كتب الأصول: "كحاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع" إلا إذا درست علم المنطق فهذا العلم قد تغلغل في كتب الأصول والعقائد فأصبح كما قالت الأخت شرا لا بد منه،
    وهنا أفتح مشروعا للعلماء وطلبة العلم، وهو أن نخلص هذه الكتب "المفيدة" من هذا العلم "الدخيل" حتى يترضى عنا خلفنا، ويستغنوا عن دراسته،
    والله أعلى وأعلم.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •