بسم الله الرحمن الرحيم

من عدل الله سبحانه وحكمته أنه لا يعذب أحدا إلا بذنب ولا ينقص أحدا من حسناته ولا يعطي أحدا من سيئات غيره ولا يكلف نفسا إلا ما تقدر عليه ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه.
قال ابن كثير في تفسيره :"وقوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا }[طه] لما ذكر الظالمين ووعيدهم، ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يُظْلَمُون ولا يُهضَمون، أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم . قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغير واحد. فالظلم: الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم: النقص".
وقال ابن كثير -أيضا- في تفسيره قوله تعالى :
"{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيد}ِ [فصلت:46] :"يقول تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } أي: إنما يعود نفع ذلك على نفسه، { وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } أي: إنما يرجع وبال ذلك عليه، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي: لا يعاقب أحدا إلا بذنب، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه".
وجاء في تفسير ابن كثير- أيضا- :
"وقوله: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي: لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم".
وجاء في الحديث القدسي :
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"رواه مسلم .
والظلم الذي حرمه الله على نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه اللائق به الموافق للحكمة .
عن ابن الديلمي قال : "أتيت أبي بن كعب فقلت له وقع في نفسي شىء من القدر فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي قال لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار قال ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك قال ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك قال ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك ". رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني .
ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم " لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" لعذبهم بغير ذنب فإن الله سبحانه منزه عن الظلم قد حرمه على نفسه فلا يمكن أن يعذب أحدا بدون ذنب لكمال عدله سبحانه ولكن معنى الحديث لعذبهم على تقصيرهم في حقه فإن كل أحد في السموات والأرض مقصر في حق الله تعالى وشكر نعمه فإن العبد مهما عمل لا يمكن أن يقابل القليل من نعم الله فما بالك بها كلها وقبول الله توبة عبده إذا أذنب إحسان منه فلو أن الله سبحانه لم يقبل التوبة من عبده وطالبه عند محاسبته بمقابلة كل نعمه بالشكر الموازي لها فسيكون حينئذ مستحقا للعذاب فلو عذبه الله بسبب ذلك لم يكن ظالما ولكن سبحانه يعامل عباده برحمته وقد جعل الإيمان والعمل الصالح سببا لنيل رحمته .
فدخول الجنة يكون بسبب العمل الصالح لا ثمنا له وعوضا عنه .
لذلك قال تعالى : {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}[الأعراف]. وفي مسند أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل ووضع يده على رأسه" صححه شعيب الأرنؤوط وفي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ ". فَقِيلَ وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ " وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى رَبِّى بِرَحْمَةٍ ".
فأثبتت الآية الكريمة أن دخول الجنة يكون بسبب الأعمال وأثبت الحديث الشريف أن دخول الجنة ليس عوضا عن العمل . لأن نعمة واحدة من نعم الله كالبصر أو التنفس تفوق كل عمل يعمله العبد فما بالك بسائر نعم الله التي لا تحصى ولا تعد .
فدخول الجنة يكون برحمة الله بسبب العمل الصالح لأن عمل العبد لا يعادل نعم الله عليه فيبقى عنده تقصير في شكر نعمه يستحق عليه العذاب قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا }[الانشقاق].
قال ابن كثير - رحمه الله-"أي: سهلا بلا تعسير، أي: لا يحقق عليه جَميعُ دقائق أعماله؛ فإن من حوسب كذلك يهلك لا محالة".
عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " . قلت : أو ليس يقول الله : {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} فقال : " إنما ذلك العرض ولكن من نوقش في الحساب يهلك " . متفق عليه.
كتبه أبو معاوية غالب الساقي