تناقضات الأشعرية (1) : قول الرازي بأن الله لا يقبح منه شيء ، وإثباته قبح أن يخاطب الله الناس بما لا يفهمون معناه
قال الفيلسوف المتكلم الأصولي أبو عبد الله محمد بن عمر الرزاي المعروف بابن خطيب الري ، المتوفى سنة 606هـ ، أحد أساطين الأشعرية وعمدة المتأخرين منهم ، رحمه الله تعالى في كتابه المحصول في أصول الفقه (1/385-386) في الفصل الأول : " الباب التاسع : في كيفية الاستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه و سلم على الأحكام .
وفيه مسائل : المسألة الأولى : في أنه لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشيء ولا يعني به شيئاً .
والخلافُ فيه مع الحشويَّةِ .
لنا وجهان : أحدهما : أن التكلم بما لا يفيد شيئاً هذيان ، وهو نقص ، والنقص على الله تعالى محال .
وثانيها : أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبياناً وذلك لا يحصل بما لا يفهم معناه " .
قال مقيده عفا الله عنه : أراد الرازي هنا الرد على أهل السنة المثبتين لصفات الله تعالى ، وسماهم حشوية ، كما هو عادة المبتدعة في التشنيع على أهل السنة ،كما قال الإمام المحدث أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى أحد أئمة أهل الحديث : " علامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية " كما ذكره الذهبي في العلو ص190 .
وما ذكره ابن الخطيب محتجاً عليهم به راجع إلى فهمه مذهبهم ، إذ ظن أن التفويض هو مذهبهم ، إذ هم عنده لا يفهمون من نصوص الصفات شيئاً .
قال شيخ الإسلام علم الأعلام مفتي الفرق تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ، الشهير بابن تيمية وشيخ الإسلام ، رحمه الله تعالى في الفتوى الحموية ضمن مجموع الفتاوى (5/9) : " هؤلاء إنَّمَا أُتُوْا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا : أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ " .
وقد وقع الرازي هنا في غلط وتناقض ، أما الغلط فهو في تصويره المسألة بقوله : " لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشيء ولا يعني به شيئاً " ، قال شيخ الإسلام في الإكليل في المتشابه والتأويل ضمن مجموع الفتاوى (13/286) بعد أن قال : " الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَا قَالَ هَذِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ وَلَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ : إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا وَلَا يَفْهَمُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعُهُمْ ، وَإِنَّمَا قَدْ يَنْفُونَ عِلْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ ، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ .
وَإِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَأَخِّرُو نَ مِنْ الطَّوَائِفِ بِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَلَقَّبُوهَا : " هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ " . وَمَا " تَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَةِ حُرُوفِهِ بِلَا فَهْمٍ " " وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِي نَ مَنْ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ بِلَقَبِ شَنِيعٍ " - وهو يعني به الرازي كما صرح في موضع آخر - ، قال : " وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ مُسْلِمٌ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ؟ وَبَيْنَ نَفْيِ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَنَفْيِ الْفَهْمِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بَوْنٌ عَظِيمٌ " .
أما التناقض – وهو المقصود هنا – فهو في تعليله لمذهبه في نفي ذلك بقوله : " أن التكلم بما لا يفيد شيئاً هذيان ، وهو نقص ، والنقص على الله تعالى محال " ، وهذا يناقض قاعدته في نفي التحسين والتقبيح العقليين .
قال الإمام الأصولي شهاب الدين القرافي رحمه الله تعالى في نفائس الأصول في شرح المحصول (3/ 1044-1045) متعقباً كلام الرازي : " قلنا : مذهب أهل الحق أن الله تعالى لا يجب تعليل أفعاله ولا أحكامه بالأغراض ، ولا يجب على الله تعالى رعاية مصلحة ولا درء مفسدة ، وإنما تصح هذه الدعوى على قاعدة المعتزلة في الحسن والقبح " .
وقال شيخ الإسلام : " احْتَجَّ - أي : الرازي - بِمَا لَا يَجْرِي عَلَى أَصْلِهِ ، وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبُحُ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : الْعَبَثُ صِفَةُ نَقْصٍ فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحُرُوفِ وَهِيَ عِنْدَهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْفِعْلُ عِنْدَهُ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ .
فَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا عَقْلٌ صَرِيحٌ " .
قال مقيده عفا الله عنه : رغم وضوح هذا التناقض ، وتنبيه القرافي وهو إمام من أئمة الأشعرية عليه ، فإن بعض جهلة الأشاعرة من المتأخرين لا يزال يقرر هذا في ترجيح مذهب التأويل على التفويض ، كما في نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الماتريدية والأشعرية في العقائد ص203 معزواً لمشايخ الأشاعرة .