السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ويكون الدين كله لله الشيخ سليمان بن عبدالله الماجد

يكون المرء عبدا لله وحده حين تكون مرضاته وتقديم مراداته نصب عينيه دائما ؛ فإن نام كانت حلمَه ، وإن تعار من الليل كانت فواتحَ ذكره بعد ذكر الله ، وإن خرج من بيته كانت ديدنه وهجيراه ، وإن وضع رأسه مرة أخرى على وسادته كانت تفكيرا وهما ملازمين : قال الله تعالى : "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" . وقال جل شأنه : "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين آلا لله الدين الخالص" . وبقدر تضخم مطالب النفس الأخرى بقدر ما تتضخم مزاحمتها للمراد الأسمى والقصد الأعظم : مرضات الله تعالى وحده . وما وقعت الانحرافات العقدية والمنهجية والسلوكية ، والخروج عن منهج النبوات على مر التاريخ البشري إلا حين قُدمت حظوظ النفس على مقاصد الشريعة . فهاهي بدأت مع إبليس حين نظر إلى حظوظ نفسه ؛ فتكبر عن التزام أمر الله بالسجود لآدم عليه السلام ؛ فكانت عليه لعنة الباري إلى يوم الدين ، مرورا بأكل آدم من الشجرة وقتل قابيل أخاه هابيل ، ثم تتالي المعاصي والآثام التي مردها إلى شهوات النفس . وكانت لذة الألفة ومنافع الرئاسة وشبكة المصالح الاجتماعية هي التي حملت قوم إبراهيم على التمسك بما يعرفون بطلانه ، قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : "وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا" الآية ، أي رضيتم بعبادة غير الله ؛ لأجل دوام المودة وبقاء الألفة . وكان نحو هذا في مشركي العرب ؛ فقد قال الله تعالى : "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك" الآية . وصارت حظوظ النفس فتنة لازمة تعلن أن هذه الدنيا إنما هي دار ابتلاء وامتحان ، ينشأ على محبتها الوليد ، ويهرم عليها الصغير ، وفي الحديث الصحيح : "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين : في حب الدنيا وطول الأمل" . ولهذا قال الحسن بن يسار البصري : (حب الدنيا رأس كل خطيئة) . وصار من أسباب الذل الجاثم على أمتنا هذا الداء الوبيل : غلبة حب الدنيا على محبوبات الله ، قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : "يوشك الأمم أن تداعى عليكم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، و لكنكم غثاء كغثاء السيل ، و لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، و ليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله و ما الوهن ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت" . ها هو الركام الضخم من أخطائنا السلوكية والمنهجية تعوق الحركة ، وتؤخر المسيرة : في مجال المناشط الخيرية : قد يبحث البعض عن الأسهل ، أو الأكثر ذكرا ، وإن لم يكن الأكثر نفعا وثوابا ؛ فيحصل الإثم بالرياء ، ويفوت الأجر بترك الأكثر نفعا . وإذا اختار البعض مجال عمله الخيري تراه إنما ينافس الآخر ويطاوله ؛ كمن يطلب العلم في فن معين ، بينما يعلم أن نفعه للأمة في غيره ، ولكنه اختار هذا لحاجة في نفس يعقوب . وحين يطلب العلم غير الواجب (فرض الكفاية) مع عدم القدرة للتصدي لمهماته ونوازله ، وإنما هي منافسة لقرين أو مطاولة لصديق ، وكان له في مهمات الاحتساب أو الدعوة ما هو أصلح للدين وأنفع للأمة ؛ فإن العلم ما طُلب إلا لإصلاح القلب والمجتمع ؛ فلمَ يقضي البعض عمره في طلب علم غير واجب ويدع مقاصد العلم الكبرى ومرادات الباري العظمى : صلاح القلب وإصلاح الناس ؟ وحين يكرر بعضنا نسخا من أعمال غيره في قناة أو موقع أو مؤسسة لا يجدد فيها ولا يبدع ، ويترك بذلك دربا مهجورا : يمكنه أن يغيث فيه ملهوفا أو يعلم فيه جاهلا .. لا لشيء إلا لأنها الأقرب إلى مكاسب عاجلة لا تضحية فيها : "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم" . وحين يؤلف كتابا لا يقدم فيه جديدا ولا نحقق فيه مفيدا ربما كان ذلك : ليقال ، وربما : ترك فيه ما يحتاج إليه من العلوم ، وفي الظل من الأجور بنشر الكتب المؤلفة وإعادة طباعتها ما يحتاج إلى نفس حازمة تؤثر الباقي على الفاني . وحين تُترك بعض المواضع الملتهبة التي يكون في دخولها وتجليتها الأثر الكبير في إصلاح أحوال الأمة لا يتركها لأمر إلا لأن السلامة (الشخصية) عنده لا يعدلها شيء ، وإذا رأى في الطريق شهيدا للحق ملقى على قارعته مضرجا بدمائه قال : "لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا" ، وإنما فرح بلعاعة من الدنيا استبقاها : "أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" . ولم يقل أقل ما يمكن من النصرة : (أما هذا فقد قضى ما عليه) . وحين يتمسك بالرأي وإن ظهر الحق في خلافه ، أو يدع مراجعة أدلته خوفا من الوصول إلى نتيجة ذات شوكة .. هذا كله تقديمٌ لمحبوبات النفس على محبوب الله ، وهو خوفٌ من جماهير معها حراب تلكز بها كل من راجع قوله عبودية لله حتى يعود إلى ما ألفته . وحين يتحول بعضنا عن قول وإن كان القول المتروك أرجح دليلا وتعليلا من القول الجديد ما تحول إلا طربا لصوت مادح أو أُنْسا بقرع نعل في الأعقاب ، أو ميلا إلى شهرة زائلة فقد فُتن . ولهذا تكون الفتنة في البقاء على القول كما تكون في التحول عنه ولا فرق . ولكن ربما كانت الفتنة في الأول أعظم ؛ لكونها خفية ؛ حيث إن صاحبها في سكون لا تظهر له حركة ، ولا يُدرى عن تغيره ؛ ولأن فتنته في الترك لا في الفعل ، أما الثاني ففتنته حركة وتغيير ؛ فتكون تحت رقابة الحواس الخمس ؛ فحينئذ يسمع منتقدا ويحس مستدركا ويرى ناصحا ؛ فإن كان مخطئا فربما انتفع به بخلاف الثاني . وحين يميل المرء إلى رابطة ترابية من وطن أو قرابة أو قبيلة أو عرق أو إقليم أو حزب ؛ فيكون رضاه وسخطه وحبه وكرهه ونصحه وحدبه ومدحه وقدحه إنما يدور على هذه الرابطة ، أو أن يكون لها مساحة مؤثرة في جوارحه لاسيما عند المشاحة والتعارض فهي بداية انحراف ؛ لأن الدين عنده ليس لله وحده ، وإنما كله أو بعضه لمعنى ترابي وضيع ، ويزداد سقوطا إذا اعتذر عن ذلك بأنه يرى الآخرين يتمسكون بترابيتهم . قال الله تعالى : "قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" . فإن قدمت هذه المحبوبات تأخر النصر ودامت الذلة : قال الله تعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " اللهم اهد قلوبنا إلى مرضاتك واختم لنا بجناتك .

المصدر :
http://www.salmajed.com/node/6808