وقد
ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان
التيمى قال :
بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة .
وكان أول شئ اختصه بن من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها ، فقص
ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد فقالت له : أبشر فو الله لايفعل الله بك
إلا خيرا .
فبينما هو ذات يوم في حراء ، وكان يفر إليه من قومه ، إذ نزل عليه جبريل ،
فدنا منه ، فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة ، فوضع جبريل يده
على صدره ومن خلفه بين كتفيه ، فقال : اللهم احطط وزره ، واشرح صدره ، وطهر
قلبه ، يا محمد أبشر ! فإنك نبى هذه الامة ، اقرا . فقال له نبى الله : وهو خائف يرعد :
ما قرأت كتابا قط ولا أحسنه ، وما أكتب وما أقرأ .
فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه ، ثم قال له : اقرأ . فأعاد عليه مثله .
فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك فرأى فيه من صفائه وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت
وقال له : ( اقرأ باسم ربك الذى خلق ) الآيات ، ثم قال له : لاتخف يا محمد ، إنك
رسول الله .
ثم انصرف ، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه ، فقال : كيف أصنع
وكيف أقول لقومى ؟ !
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف ، فأتاه جبريل من أمامه وهو في
صعرته ( 1 ) ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما ملا صدره ، فقال له جبريل :
لاتخف يا محمد ، جبريل رسول الله ، جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله ، فأيقن بكرامة
الله فإنك رسول الله .
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لايمر على شجر ولا حجر إلا هو ساجد
* ( هامش ) * ( 1 ) أى عظمته . ( * )
ـ408ـ
يقول : السلام عليك يا رسول الله . فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه . فلما انتهى
إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه ، فأفزعها ذلك ، فقامت إليه ،
فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول : لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع
قبل اليوم .
فقال : يا خديجة أرأيت الذى كنت أرى في المنام والصوت الذى كنت أسمع في
اليقظة وأهال منه ؟ فإنه جبريل قد استعلن لى وكلمنى وأقرأنى كلاما فزعت منه ، ثم عاد
إلى فأخبرنى أنى نبى هذه الامة ، فأقبت راجعا فأقبلت على شجر وحجارة فقلن : السلام
عليك يا رسول الله .
فقالت خديجة : أبشر فو الله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا ، وأشهد
أنك نبى هذه الامة الذى تنتظره اليهود
، قد أخبرنى به ناصح غلامى وبحيرى الراهب ،
وأمرنى أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة . فلم تزل برسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى طعم وشرب وضحك .ثم خرجت إلى الراهب وكان قريبا من مكة فلما دنت منه وعرفها ، قال : مالك
يا سيدة نساء قريش ؟ فقالت : أقبلت إليك لتخبرنى عن جبريل .
فقال : سبحان الله ربنا القدوس ! ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد
التى يعبد أهلها الاوثان ؟ ! جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله وهو صاحب
موسى وعيسى .
فعرفت كرامة الله لمحمد .
ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له عداس ، فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها
به الراهب وأزيد ، قال : جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون
وقومه ، وكان معه حين كلمه الله على الطور ، وهو صاحب عيسى بن مريم الذى
أيده الله به .
ثم قامت من عنده فأتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل ، فقال لها مثل ذلك .
ثم سألها : ما الخبر ؟ فأحلفته أن يكتم ما تقول له ، فحلف لها فقالت له : إن ابن عبدالله
ذكرلى ، وهو صادق أحلف بالله ما كذب ولا كذب ، أنه نزل عليه جبريل بحراء ،
وأنه أخبره أنه نبى هذه الامة وأقرأه آيات أرسل بها .
قال : فذعر ورقة لذلك وقال : لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الارض لقد
نزل على خير أهل الارض ، وما نزل إلا على نبى ، وهو صاحب الانبياء والرسل يرسله
الله إليهم ، وقد صدقتك عنه ، فأرسلى إلى ابن عبدالله أسأله وأسمع من قوله وأحدثه ،
فإنى أخاف أن يكون غير جبريل ، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بنى آدم
ويفسدهم ، حتى يصير الرجل بعد العقل الرضى مدلها مجنونا .
فقامت من عنده وهى واثقة بالله أن يفعل بصاحبها إلا خيرا ، فرجعت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة ، فأنزل الله تعالى : ( ن . والقلم
وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) الآيات . فقال لها : كلا والله إنه لجبريل .
فقالت له : أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهيديه .
فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ورقة : هذا الذى جاءك في نور
أو ظلمة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة جبريل وما رآه من عظمته
وما أوحاه إليه .
فقال ورقة : أشهد أن هذا جبريل ، وأن هذا كلام الله ، فقد أمرك بشئ تبلغه
قومك ، وإنه لامر نبوة ، فإن أدرك زمانك أتبعك . ثم قال : أبشر ابن ع بدالمطلب
بما بشرك الله به .
قال : وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشق ذلك على
الملا من قومه .
قال : وفتر الوحى ، فقالوا : لو كان من عند الله لتتابع ولكن الله قلاه . فأنزل الله
( والضحى ) و ( ألم نشرح ) بكمالهما .