هناك رأي يقول:
- لما حقّر المسلمون أمر الدنيا، أهملوها فتأخروا، والغرب لما عظموها، عملوا لأجلها فتقدموا، وسادوا العالم؛ لذا ينبغي على المسلمين أن يرفضوا النظرة السلبية التشاؤمية للدنيا، والتي تؤدي إلى إهمالها، وإهمال القيام بعمارتها، والبحث في أسباب التقدم فيها، فالله تعالى خلقنا لنستعمرها، ونمشي في مناكبها، ونأكل من رزقها، ونحرثها، ونزرعها، ونحصدها.
ومناقشة هذا الرأي يكون من ثلاث جهات: الأصل، والصدق، والشرع.
فمن جهة الأصل، ليس غريبا عن الذين فقدوا الإيمان، أن يعظموا الدنيا، فهي رأس مالهم. وليس غريبا على المؤمنين أن ينزلوا من مرتبة الدنيا؛ لأنهم يعظمون الآخرة، والتعظيمان لا يجتمعان.
ومن جهة صدق هذا الرأي، فإنه لم يصدق في تصوير هذه الأزمة، فهو مفتقر إلى الدقة في وصف الداء الذي أصاب المسلمين؛ ذلك لأنه لا وجود اليوم لمسلمين يهوّنون من شأن الدنيا، ولا قبل اليوم، حتى قرن مضى، إلى قرنين، وثلاثة، وأربعة، وأكثر من ذلك، ليس ظاهرا في المسلمين تعظيم الآخرة، كما عظمه السلف، ولا قريبا من ذلك، إلا قليلا، إلا ما كان من حديث يتحدثون به، يرضون به أنفسهم في ذم الدنيا؛ أنهم تشبهوا بالسلف، دون أن يكون له أثر في الواقع.
الحقيقة: أن المسلمين اليوم وغير المسلمين كلهم سواء، في الإقبال على الدنيا؛ محبة وتعظيما واهتماما بالغاً. وانظر إلى المترفين واللاهثين وراء الدنيا، تعرف ذلك. الفرق بينهما: أن المسلمين في حالة تلقي وقبول لكل ما يغرقهم في الدنيا، ويجعل منهم أمة تابعة، مقلدة لغيرها.. أما الغرب فهو في حالة تصدير وتأثير في العالم وفي المسلمين. هذا هو الفرق الوحيد.
ومن جهة الشرع، فأمر تعظيم الآخرة - والتهوين من الدنيا - في النصوص الشرعية أظهر من الشمس، وقد تقدمت في الكلام على مثال الإصبع في اليم.
وهنا مثال موجود في القرن الأول؛ قرن الصحابة والتابعين، في المائة الأولى.. تمت الفتوحات فيها، فبسط الإسلام سلطانه شرقا إلى الصين، وغربا إلى المحيط الأطلسي، وشمالا إلى أوربا، وجنوبا أفريقيا. في قرن واحد اكتسح الإسلام امبراطوريات كبرى، ذات حضارة مؤثرة وظاهرة، وعظيمة، وذات قوة عسكرية واقتصادية، وثقافة وفكر، وكثافة سكانية، على رأسها فارس والروم. فبأي شيء تقدموا عليهم ؟.
هل كان بحضارة مثيلة، واقتصاد مثيل، أو قوة موازية، أو تقدم مكافئ ؟.
كلا، لم يكن شيء من ذلك أبدا، والتاريخ لا يمكن تزويره، بل كانوا على العكس من ذلك كله، لم يكن لديهم سوى:
- الإيمان العميق بالله واليوم الآخر.
- والعمل الصالح.
- والزهد في الدنيا.
- مع قوة أعدّوها بقدر ما استطاعوا وقدروا.
قال المعترض: هل المعنى ألا نتخذ الأسباب للتقدم الاقتصادي، والصناعي ؟.
والجواب: هذا فهم متعنت. اتخاذ الأسباب في كل شيء مطلوب، وكل ما يحقق للأمة تقدما في: الصناعة، أو الاقتصاد، أو الحرب، أو الحضارة فهو مطلوب.
غير المطلوب، وهو المذموم: محاكاة الذين فقدوا الإيمان - وهم الغرب تحديدا اليوم – في كل ذلك، لنكون صورة مصورة لهم في أنواع التقدم. بما أن ديننا غير دينهم، وكذا شريعتنا، فتبعاً لهما يجب أن تختلف أهدافنا، ووسائلنا، وحدودنا، وضوابطنا.
وأبرز خلاف بيننا وبينهم في التقدم: أن تقدمنا ينبني على تعظيم الآخرة، وتقدمهم ينبني على تعظيم الدنيا. فيتقدمون لأجل الدنيا، ونحن نتقدم لأجل الآخرة. وفارق الهدفين نوعي مؤثر في نوعية التقدم:
في التقدم المبني على تعظيم الدنيا مغالاة وإفراط كبير في اتخاذ المتاع المادي، بما يوصل إلى الترف (لم يأت في القرآن إلا في معرض الذم) والبذخ، والفجور، والعدوان، وسلب الناس أقواتهم وكرامتهم، هو يصل باختصار إلى: عبادة الدنيا. فلا يقف حاجز أمام استحداث كافة أنواع الفجور، والبذخ، والترف، والأدوات الضارة، والإجرامية.
- من شواهق كشواهق عاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، بما يوحي بالخلود.
- والتطفيف في المكيال والميزان، بما يفقر الناس، كما حصل أخيرا في الأزمة المالية العالمية، وإفلاس بنوك ودول وأفراد في العالم، عدا جلبه النظام الرأسمالي منذ نشأ من فقر لأكثر من نصف العالم.
- وإنتاج أسلحة العدوان الآثمة، التي لا تبقي ولا تذر، وما ينفق عليها.
- وملاهي وملاعب لا تقدم للإنسان أي تقدم علمي، ولا اقتصادي، بل ترفيه على حساب الفقر ومعالجة الأمراض ومشاكل أخرى.
وفي التقدم المبني على تعظيم الآخرة حدود لا تتخطى، تقوم لخدمة الإنسان أولاً، بكفايته وأمنه، قبل لهوه وملاعبه، يكفيه مشكلة القوت والسكن، ويصون كرامته عن المسألة، ويقف بالرفاهية والبذخ عند حد، ولا يقبل بما هو محرم وضار، ولا بما يشير إلى نسيان الآخرة، أو يفضي إلى ذلك.
ومن أراد تعظيم الآخرة، من خلال تعظيم الدنيا، فقد أتى بمعادلة محالة، فإن الله تعالى لم يجعل طريق تعظيم الآخرة بتعظيم الدنيا، بل جعله بازدراء الدنيا، فمن رام ذلك فأحد أمرين:
- أما أن يهوّن وينزل من مقام الآخرة، فيكون كمن يجعل الآخرة مطيته إلى الدنيا.
- أو يكتشف بعد لأي وعنت أنها عملية مستحيلة، ويكون حينئذ من أهل الحظ العظيم، أن نجاه الله من فتنة عمياء، كادت تقصف به بعيدا عن طريق الإيمان.
إن الدولة المسلمة تتحمل تنمية اقتصاد الأمة وتكوين ثرواتها، لتكون عونا للمسلمين في حياة كريمة، وقوة على دعوتهم الناس إلى الإيمان بالله تعالى.
وعليها أن تضع الضوابط التي تجعل من قوة الاقتصاد هدفا لتعظيم الآخرة لا الدنيا، أما الدنيا فتخدم بما يحقق كفاية الإنسان وأمنه، فلا تتركه عالة يتكفف الناس.
فعدم تعظيم الدنيا لا يلزم عنه إهمالها. كلا، هذا فهم خاطئ، عدم التعظيم يعني:
عدم المبالغة في العناية بها..
يعني ألا تكون هدفا بذاتها..
ألا تكون في قلوبنا تتصرف بنا، بل بأيدينا نحن نتصرف بها.
- قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) [البخاري/الجهاد/ الحراسة في الغزو في سبيل الله].
هكذا هو وصف معظم الدنيا..
قال القائل: بأي شيء ندعو إلى الإسلام: بتعظيم الآخرة، أم الدنيا ؟.
الجواب: ندعوهم إلى الإسلام بالتزام مبادئ الإسلام، وأخلاق الإسلام، من: صدق، ووفاء، وإخلاص، وإتقان، وعون الملهوف، والنظافة والترتيب، والنظام، واحترام الناس، والشفقة والرحمة بالناس جميعا، مهما اختلفت دياناتهم أو أجناسهم.
ندعوهم بثقتنا بالإسلام، ويقيننا بالإيمان، والعزة والقوة في الحق، والجهر به والصدع.
ندعوهم بالمبادئ الإيمانية والأخلاقية، قبل أن التفوق المادي، فيما لو تفوقنا.
فالتفوق المادي لا يجدي كثيرا في دعوتهم؛ لأن عندهم منه وزيادة، ومهما صنعنا فلن نبلغ تفوقهم؛ لأننا مقيدون، وهم منفلتون، والمنفلت يأتي بما لا يأتي به المقيد.
فكيف نطمع أن نهديهم بشيء، هم فيه أحسن منا، ولا يلزم أن نكون أحسن منهم فيه؛ في الصناعة والاقتصاد، يكفي أن نتقدم فيهما بما يسد حاجتنا، فلا يتركنا محتاجين لغيرنا، بيننا عالة معوزون.
يكفينا من التقدم الصناعي والاقتصادي ما يردع عنا، ويصون ديارنا، وأعراضنا، وأموالنا، هذا يكفينا؛ فلدينا مهمة عظمى، هي بناء الآخرة، بإصلاح أنفسنا، واستصلاح غيرنا، ودعوة العالمين إلى عبادة رب العالمين وحده، فلو استفرغنا جهدنا في بناء الدنيا، فما يبقى للآخرة.
والصحابة دعوا فارس والروم بما ليس عندهم، بالإيمان بالله واليوم الآخر، ولا سبيل لنا إلا ذاك، أن ندعوهم بما هم فقراء فيه، لا بما هم أغنياء فيه. هم فارغون روحيا، علينا أن نملأ أرواحهم بالإيمان.. متخبطون فكريا، علينا أن نهديهم بإذن الله.
ميدان الروح والفكر هما فيهما ضائعون محتارون، ونحن فيهما نملك مصادر الهداية والتوفيق.
وميدان المادة هم فيه أسياد وكهنة، ونحن مهما صنعنا لن نكون كمثلهم، نسخة مطابقة.
فالعقل والمنطق يقول: نعطيهم ما عندنا، مما اختصصنا به.
ومن عدم البصيرة، أن نترك هذه الغنيمة، والطريق المفتوح، لنجتهد في فتح طرق مغلقة، أمامنا فيها عوائق جمة، تعوقنا أن نكون مثلهم في التقدم المادي، لما سبق، أنهم منفلتون، والمنفلت يفعل ما لا يفعل المقيد.
هذا لا يلزم عنه ألا نتقدم، وألا نبني.. فهذا قد فرغنا من تقريره.
استللت هذا الحوار الجميل من بحث للدكتور لطف الله خوجة ,وكانت خريطة بحثه مايلي :
- المقابلة ما بين الدنيا والآخرة.
1- في الكمية. 2- في الكيفية. 3- في الحقيقة.
o نتائج المقابلة.
- مشكلات في المقابلة.
1- حب الدنيا. 2- الرهبانية. 3- .... .
o أساس البناء.
o أساس الدعوة.
- الخاتمة: 1 0,0
وكانت خاتمته جميلة أنصحكم بقراءتها ...