شهدت السنوات الأخيرة امتداداً غير مسِبوق للمد الشيعي، مع تعاظم دور النظام الإيراني في المنطقة والذي تزامن مع خروج المارد الشيعي العراقي من القمقم بسقوط نظام صدام حسين، وانتفاش الجيوب الشيعية في المنطقة العربية ابتداء بحزب الله اللبناني ومروراً بالثورة الحوثية في اليمن، وانتهاء بتنامي مطالبات الأقليات الشيعية في بلدان الخليج بما لا يتناسب مع حجمها.
وقد استشعر هذا الخطر عامة النخب السياسية والثقافية، وهو الأمر الذي دفع ملك الأردن قبل سنوات للتحذير مما اسماه "الهلال الشيعي"، وتبعه الرئيس المصري، الذي صرح بأن مشكلة الأقليات الشيعية في الخليج أن ولاءها لغير بلدانها، وحتى الرموز الإسلامية، المصنفة إعلامياً ضمن رموز الاعتدال، ، والذي اشتهر بحرصه على التقارب مع الشيعة، سارع بالتنديد بالمذابح التي أقامتها الميلشيات الشيعية لأهل السنة في العراق، بل وحذر من حملات شيعية تبشيرية أخذت تدق أسوار أرض الكنانة.
وإذا أردنا أن نرصد آراء مجمل النخب العربية، بما فيها النخب المحلية في الخليج تجاه هذا الانتفاش الشيعي، يمكن أن نلخصه في ثلاث اتجاهات:
ـ الاتجاه الأول: المؤيدون للتوجه الشيعي بوصفه حجر الزاوية فيما اصطلح على تسميته "بجبهة الممانعة" ضد المشاريع الاستعمارية الغربية التي تستهدف المنطقة، وأصحاب هذا التوجه بدأ عددهم في التناقض إزاء مذابح الميلشيات الشيعية ضد أهل السنة في العراق، وانتهاكات حزب الله الأخيرة لبيروت، وضرب المؤسسات التابعة لأهل السنة، ومجاهرة عدد من التيارات الشيعية العربية بالولاء التام لحكومي الملالي، كما فعل حسن نصر الله في لبنان أثناء احتفاليته الأخيرة، بمفاخرته بالانتماء لولاية الفقيه، وقيام عضوين شيعيين من أعضاء مجلس الأمة الكويتي بإقامة تأبين لوفاة الرمز الشيعي "عماد مغنية"، والذي قام في الثمانيات بخطف الطائرة الكويتية "الجابرية" وقتل رجلي أمن كويتيين، وقد عكس هذا الموقف بجلاء طغيان الولاء المذهبي على الولاء الوطني .
ـ الاتجاه الثاني: المعارضون والمحذرون من المذهب الشيعي بكافة توجهاته وتياراته، والذين يعتبرون مذهب الشيعة قائم على الكذب والخيانة للأمة تحت ستار "التقية"، وأن هذا من ضروريات هذا المذهب، مستشهدين بالكثير من الوقائع التاريخية، والنصوص المأثورة عن العلماء السابقين، وما حوته كتب الشيعة المعتمدة من الطعن في أصول الدين وتكفير صفوة البشرية بعد الأنبياء وهم الصحابة رضوان الله عليهم.
ـ الاتجاه الثالث: الذين يفرقون بين "التيار الشيعي الصفوي"، ذي الصبغة الفارسية، بوصفه مهدداً للأمة العربية والإسلامية وبين "التيار الشيعي العروبي"، الذي لا يوافق على خطط الهيمنة الصفوية وينحاز لعروبته وقوميته وهذا التفريق يغلب على الساسة والنخب الفكرية، وأما النخب الشرعية، فتميز بين الفريقين كذلك، ولكن بناء على معيار شرعي، فهي ترى أن ثمة قيادات شيعية معتدلة حتى في آرائها الدينية، كالشيخ الخالصي أو المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله، والذي ينكر القول بكفر الصحابة أو سبهم أو تحريف القرآن أو الاستغاثة بالأموات من أهل البيت، حتى صدرت فتاوى تكفير وتضليل بحقه من قبل بعض المراجع الشيعية الإيرانية، ووصفه أحدهم بأنه "بذرة وهابية في مذهب أهل البيت".
ومع ميلي إلى أصحاب التوجه الثالث، الذين يؤكدون على وجود تيارات شيعية معتدلة، إلا أني أظن أن أصحاب هذا التوجه من فضلاء المفكرين والأشياخ وقعوا في خطأين:
الأول: الخطأ في تقييم القيادات الشيعية المعتدلة: فلا يكفي أن يطلق أحدهم بعض التصريحات الإعلامية لنحكم بعد ذلك باعتداله، فبالرجوع إلى كتب هذه القيادات ونتاجها العلمي أو الرجوع لخلفية المراجع الشيعية التي تقلدها تلك القيادات (لأن طبيعة علاقة الشيعي بمرجعيته وفق الفقه الجعفري علاقة تبعية مطلقة)، أو بمتابعة الأداء الإعلامي لهذه القيادات أمام طائفتها، يتبين لنا مصداقية هذا الاعتدال.
ففي الشأن المحلي، لا أفهم أن يدبج أحد الرموز الشيعية شعارات الوحدة الوطنية والتعايش الأهلي في أحاديثه الإعلامية، ثم يسمح لموقع مقرب له أن ينشر مقالات لشيعي باسم مستعار، يدعو فيها صراحة للاستقواء بالجيوش الغربية للتدخل العسكري في بلده، ومثله أن ينشر مقالات لرجل شيعي متآمر على بلده كعلي الأحمد أو يثني عليه، وكان الواجب الوطني يملي على هذا الشيخ الشيعي أن ينكر أفعال هؤلاء، وألا يسمح بنشر مقالاتهم فعلماء أهل السنة نددوا بالتنظيمات السنية التي هددت أمن البلاد كتنظيم القاعدة والمأمول من الرموز الشيعية اتخاذ مواقف مماثلة، وفي الشأن العربي، رأينا كيف كان الصدر والحكيم يطلقان تصريحات الوئام والسلام وميلشيات بدر والمهدي التابعة لهما تعمل القتل والتنكيل بأهل السنة ومساجدهم.
الثاني: الخطأ في تقييم ثقل القيادات الشيعية المعتدلة، إذ إن الناظر في تفاصيل المشهد الشيعي على المستوى الديني والثقافي والشعبي يدرك وجود تيارات ورموز لديها قدراً كبيراً من الاعتدال إزاء أهل السنة وقضايا الأمة الكبرى وانحيازاً للهوية العربية، ولكن يخطئ أصحاب التوجه الثالث في التعويل عليها في أماكن الصراع المحتدمة في العراق ولبنان والخليج.
وقناعتي الشخصية، والتي توصلت إليها بعد القراءة والإطلاع في كتب الطائفة، ومتابعة أداء مجمل القوى والتيارات الشيعية، وتجربة شخصية دامت لسنوات في التعامل مع الشيعة، وإطلاع متواصل على ردهات مواقع ومنتديات الشيعة، أن النظام الإيراني نجح بكل اقتدار، بسبب سطوته السياسية وقوته الاقتصادية في زرع وتجنيد كافة أبنائه ومريديه من الشيعة الصفويين في أنحاء البلاد العربية، كما نجح كذلك في غفلة العرب وأهل السنة في تهميش كافة الرموز الشيعية المعتدلة، بحيث لم يصبح لديها أي ثقل شعبي أو سياسي في الشارع الشيعي، وهذا يتجلى في الدور الهامشي، سياسياً وشعبياً، للمرجع المعتدل محمد حسين فضل الله على الساحة اللبنانية، مع كونه أحد مؤسسي حزب الله اللبناني، والدور الهامشي سياسياً وشعبياً للمرجع العراقي الخالصي أو المؤيد في الساحة العراقية، وانسياق جماهير الشيعة خلف الشيعة الصفويين أو رجال طهران في لبنان والعراق.
إن التعويل والمراهنة على هذه المراجع المعتدلة شبيه إلى حد كبير بتعويل بعض النخب العربية والإسلامية على عدد من الجمعيات الأهلية في الغرب والمثقفين الغربيين المنصفين لقضايا المسلمين، لكن تأثيرهم على مراكز القرار في دولهم يكاد يكون معدوماً.
إن مشكلة الفرد الشيعي عموماً، أنه لا يعاني من قطيعة مع تاريخ الأمة وأمجادها فحسب، بل يعاني خصومة معه، كما يشير إلى ذلك المفكر الشيعي "حسن العلوي" في كتابه "عمر والتشيع"...فملاحم الأمة الكبرى، كاليرموك والقادسية وعين جالوت وحطين...ورموز الأمة العظام، كالفاروق عمر بن الخطاب والخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز..والقا ئد الفاتح صلاح الدين الأيوبي...وحضارة الإسلام التي شهدت عدل الخلفاء الراشدين ...ثم فتوحات الدولة الأموية ثم النهوض العلمي والحضاري في الدولة العباسية...لا تشكل في ذهنية الفرد الشيعي سوى نقاطاً حالكة السواد...يشيّع ذكرها باللعنات والشتائم والعزم على استئصال كل من يعد نفسه امتداداً لهذه السلسة المظلمة في نظره...فهذه النفسية المنبتة عن تاريخ الأمة المشرق وعصورها الزاهرة تثمر نفوساً ناقمة قابلة للخيانة والتحالف مع أعداء الأمة،وفي تقديري أن هذا هو الغالب على الطائفة الشيعية اليوم مع الأخذ بالاعتبار أن هذا الحكم الأغلبي قد يتخلف بسبب روابط قبلية أو قومية أو مصلحية، ومن الشواهد المعاصرة على ذلك موقف المرجع السيستاني من الاحتلال والذي نص الحاكم بول بريمر في مذكراته على دوره الجوهري في توطيد الاحتلال الأمريكي للعراق، والتاريخ حافل بالشواهد على أمثلة مشابهة.
والخريطة المحلية في بلاد الحرمين للطائفة الشيعية ليست استثناء من هذه الوضعية، فالمتراجعون عن الخط الثوري الذي ظهر في الثمانينات تحولت طائفة منهم إلى التوجه السلمي مستفيدين من حالة الانتفاش الشيعي في المنطقة، والمناخ الإعلامي المفتوح عبر الفضاء.
ولئن نجح هذا التوجه في استمالة بعض المفكرين والإعلاميين من الليبراليين والإسلاميين، إلا أنه فشل في تحقيق اختراق يذكر للمنظومة الدينية بمدارسها وتياراتها المختلفة حتى تلك التيارات والمدارس الشرعية في الحجاز والمنطقة الشرقية التي لها سجل من الخصام التاريخي مع الدعوة الإصلاحية النجدية لم تظهر أي تجاوب يعول عليه مع أصحاب التوجه السلمي، وبقيت طائفة محافظة على تشددها وتطرفها إلا أن المزاج الشعبي العام للطائفة الذي لم يعد يحبذ الصدام لم يسمح بترجمة أفكارها على الواقع.
وطائفة ثالثة من المتراجعين تلمس في نتاجها تحولات فكرية قوية باتجاه الفكرة العلمانية إما عبر طرحها بشكل مباشر أو بلهجة تصالحية مع الإسلام من المنظور الشيعي ولكن هذه النخب كمثيلاتها في الجوار لا تحظى بأي عمق شعبي.
وإن كان ثمة مقترحات أقدمها بين يدي هذه القراءة العابرة لأحبتي من أهل العلم والدعوة والفكر الإسلامي الأصيل في بلاد الحرمين، فيمكنني تخليصها في النقاط التالية:
أولاً: تغيير طبيعة الخطاب الإسلامي المحلي، الذي يعتمد على الأسلوب المباشر في التوجيه والتحذير من الشيعة والتشيع، فإن هذا الأسلوب ما عاد مقنعاً للكثير من أهل السنة فضلاً عن قبوله في الأوساط الإقليمية والدولية، ولا أشكك في وجود خطر شيعي صفوي، ولكن حشر طائفة بهذا العدد وفي هذا المكان الإستراتيجي في زاوية التجريم والتخوين، دائماً يرفع من أسهم التيارات المتطرفة داخل الطائفة، ويؤكد ويعزز "المظلومية" التي يرفعها بعض المشبوهين، كعلي الأحمد، في المحافل الدولية، والذي يتفق مع "توجهات" و"تيارات" غربية تدفع بالملف الطائفي كتذكرة دخول لاحتلال آبار النفط، أو حتى زيادة الضغوط على البلاد بما لا يخدم المصلحة العامة.
ومن المعلوم لدى كافة العقلاء، أن في حفظ أمن بلاد الحرمين حفظ لبيضة أهل السنة في العالم، مهما اختلفنا في كيفية إصلاح مواطن الخلل في هذا الجانب أو ذاك، وفي تسخين ملف الأقلية الشيعية في البلاد خدمة كبرى للمتطرفين في المعسكر الغربي والصفوي.
ثانياً: على الصعيد الشعبي، ينبغي تعميم الهدي النبوي في التعامل مع المخالفين غير المحاربين القائم على الرفق وحسن التعامل والذي شمل برحمته المشركين في مكة، واليهود في المدينة، وينبغي أن يركز في هذا على قطاعات المتدينين من جمعيات ومؤسسات وهيئات وأفراد، سيما في المناطق المختلطة بين السنة والشيعة لأن تأثير التعامل الحسن من المتدين على الشيعي يكون له مدلول دعوي أكثر من غيره، واحتجاج بعض طلبة العلم بقاعدة "هجر المبتدع" على الغلظة والشدة في التعامل في غير محله، إذ إنه من المقرر لدى المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام وغيره، أن الهجر ليس بالأمر التعبدي المحض الذي يفعل بكل حال، بل إنه يدور حيث دارت المصلحة الشرعية، فإن كانت المصلحة الشرعية تقتضي الإحسان إلى المبتدع.
وكان الهجر لا يزيد صاحب البدعة إلا ضلالاً وضرراً على أهل السنة، فهنا لا يشرع الهجر، وأما افتراض التعارض بين عقيدة البراءة من الكفار أو المبتدعة والإحسان إليهم، فلا يصح، فالنبي صلى الله عليه سلم عامل اليهود وعاد مريضهم وحاورهم وجاورهم، والشريعة عموماً أباحت ألواناً من البر في التعامل مع الكفار غير المحاربين فكيف بالطوائف المنتسبة لهذه الأمة، وعامة أهل السنة في بلاد الحرمين بما فيهم بعض مكاتب الدعوة لا يجدون ضيراً من معاملة العمالة الوافدة من النصارى والبوذيين والهندوس معاملة حسنة لترغيبهم في الإسلام، فلم يؤثر هذا على عقيدتهم في الولاء والبراء فلماذا لا نحاول توعية عموم الناس بأهمية هذا الدور تجاه أصحاب المذاهب المنتسبة للأمة كالشيعة.
ثالثاً: على الصعيد الإعلامي، ينبغي على أهل العلم والدعوة الترحيب بكل خطاب شيعي يدفع باتجاه التسامح وتماسك الجبهة الداخلية للبلاد مهما غلب على ظنهم ضعف مصداقية هذا الخطاب، والترحيب لا يلزم منه قبول كافة مضامينه فالواجب على الإسلاميين موافقة كافة التيارات على مبدأ الحوار، وتحقيق العدل، والتعاون على استقرار البلاد وتنميتها وتطويرها ولكن ليكن ذلك على ضوء دستور هذا البلد المعلن وهو الشريعة الإسلامية.
فالمطالب التي تمس حق المواطن أيا كان مذهبه في التعليم والصحة والوظيفة والحياة الكريمة، ينبغي تأييدها ومباركتها، وليُجاب على كافة المطالب ذات الصبغة المذهبية، التي تتيح ممارسات وطقوس غير مشروعة، أنها غير مقبولة، ليس بسبب صدورها من طائفة معينة، بل لأن فيها انتهاكاً لدستور البلد المعلن، وهو الشريعة، فهي مرفوضة من أي طرف أيا كان مذهبه أو إقليمه بسبب مخالفتها للدستور.
رابعاً: على الصعيد الثقافي، يحتاج الإسلاميون لحملات توعوية لكافة النخب المثقفة والعلمية، أيا كان توجه أصحابها مذهبياً كان أو ليبرالياً أو وطنياً، لحقيقة الخطر الصفوي، مستخدمين في هذا لغة القواسم المشتركة كوحدة المصير، وبيان كيد العدو الذي لا يستثني أحداً من أهل السنة، مهما كانت هويتهم الفكرية، وما اغتيال الرئيس رفيق الحريري عنا ببعيد، وينبغي ألا تقعدنا غيبوبة بعض الإسلاميين عن الواقع،عن أخذ زمام المبادرة والدفع نحو صنع بعض الفرص في هذه المسارات.