شركة "امريكا - مافيا " المتحدة للنقل السريع .
الحلقة الأولى :
في الوقت الذي تتعاطى فيه المجتمعات الإنسانية مع المخدرات كآفة وجائحة مدمرة للإنسان والمجتمع والصحة والقيم والاقتصاد الفردي والوطني، فإن الولايات المتحدة تنظر إلى تجارة المخدرات كغنيمة كبرى تدر أرباحاً وفيرة لا تدانيها أرباح أي سلعة أخرى حتى النفط.
و اذا كانت الولايات المتحدة تدَّعي رسميا انها ضد زراعة وتجارة المخدرات، فهذا لا يُنسينا ان المخدرات كانت من العوامل الرئيسية التي بًُنيت عليها ملامح ما يسمَّى بالحضارة الامريكية .
بل إن تجارة المخدرات باتت عاملا مهما في رسم وتوجيه السياسة الداخلية والخارجية الأميركية.
ولا ننسى في هذا السياق خطة هنري كيسنجر المسماة (NSSM200) التي لخصها بالقول: "إن معدلات النمو السكاني في الدول النامية الغنية بالمصادر الخام الإستراتيجية، تشكل مبعث قلق للأمن القومي الأميركي، ويجب أن تحظى بالأولوية القصوى في اهتمامات الولايات المتحدة".
وقد ارتكزت هذه الخطة على تقرير عمل لجنة جون دي روكفلر الرئاسية حول "السكان والمستقبل الأميركي" عام 1972 التي دعت صراحة إلى تجميد تام للنمو السكاني في العالم، وهي عبارة تعني في الواقع برامج لإبادة جماعية منظمة، ولا شك أن المخدرات من أهم أدوات تلك الإبادة.
و قد استخدم الامريكان المخدرات ايضاً في محو ما تبقَّى من وجود الشعوب الامريكية الأصلية "شعوب الهنود الحمر" بعد ابادتهم ميكروبيا بمرض الجدري في اكبر مجزرة في التاريخ راح ضحيتها 113 مليون هندي احمر دفعةً واحدة .
و كذلكم في محو الوجود الحضاري للامريكان الافارقة عن طريق نشر تلك السموم في احيائهم ومجتمعاتهم الفقيرة ممَّا قضى على كل ابداع في تلك الشريحة الاجتماعية وجعلها اسيرةً للفقر و البطالة والامراض الاجتماعية .
الحلف الامريكي المافي :
يرجع تاريخ كلمة المافيا إلى القرن الثالث عشر الميلادي مع الغزو الفرنسي لأراضي صقلية عام 1282م ، حيث تكونت في هذه الجزيرة منظمة سرية لمكافحة الغزاة الفرنسيين .
وكانت بداية المافيا نتيجةً للتمرد والعصيان الذي ظهر بصقلية عقب قيام أحد الغزاة الفرنسيين عام 1282 م بخطف فتاة في ليلة زفافها .,
و أصبحت تلك الجملة الغاضبة التي كانت أم الفتاة ترددها و هي في حالة هستيرية وهي تجري وتبكي في شوارع صقلية : Morte Alla Francia Italia Anelia
و التي تعني (موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا) ، فجاءت كلمة (مافيا MAFIA ) من أول حرف من تلك الجملة شعاراً للمقاومة الايطالية ضد الغزو الفرنسي .
مما أشعل نار الإنتقام في صدور الإيطاليين ،وألهب جذوة الثورة التي امتد لهيبها من مدينة إلى أخرى ، فقاموا بقتل عدد كبير من الفرنسيين في ذلك الوقت إنتقاماً لشرفهم المذبوح .
ـ اذن كانت "مافيا" في بداياتها حركة نضالية ، الا أن القوة البشرية المطلقة عندما تبتعد عن النواميس الالهية و الشرائع الربانية تعود إلى شر مطلق.
إذ ادَّت مشاعر القوة التي اكتسبها اعضاء المنظمة لا سيما فرقة جزيرة صقلية والتي تعتبر من أشهر فرق المافيا و التي تكونت في منتصف القرن التاسع عشر في جزيرة صقلية . وأصبحت بحلول الربع الأخير من القرن التاسع عشر القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المسيطرة في غربي صقلية، أدَّت تكم المشاعر في بادئ الأمر الى انتهاج أعمال الحماية في منطقة بالرمولجني الارباح .
ثم تطور الامر الى الابتزاز في منطقة بالرمو ثم ما حولها من مزارع الليمون والبرتقال ، وضمت بين طياتها بعض من أفراد الارستقراطية الحاكمة ، حيث انقسم المجتمع في بداية الدولة الإيطالية الناشئة إلى الساسة وأصحاب الأراضي ودخلت المافيا بين هذين الفريقين كما كانت المحرك للعديد من أفراد الحكومة ورجال الأعمال ، ويتبع أفرادها شفرة خاصة تسمى أومرتا تمنع إفادة الشرطة بالجريمة.
امريكا في خارطة المافيا :
مع الهجرة الاوربية الى القارة الامريكية "العالم الجديد" تكون فرع واعد لتلك المنظمة الايطالية الاجرامية الشهيرة "مافيا" .
وقد أبلغت الجهات القانونية الرسمية ـ لأول مرة ـ عام 1891 م عن وجود مافيا في أمريكا . ففي ذلك العام قتلت جماهير نيو أورليانز 11 شخصًا من المافيين الاوائل دون محاكمة، وذلك لاتهامهم بارتكاب جرائم قتل . ومنذ صدور قانون الحظر في العشرينيات من القرن العشرين أصبح الأمريكيون الذين ينحدرون من أصل إيطالي يسيطرون على كل الجرائم المنظمة في الولايات المتحدة.
ـ نمت المافيا بالولايات المتحدة الأمريكية في بدايات القرن العشرين بهجرة الصقليين ، حتى قام مكتب التحقيقات الفيدرالي في السبعينات والثمانينات بتقليص نفوذ المافيا إلى حد ما .
وفي إيطاليا في النصف الاول من القرن العشرين ، حارب بينيتو موسوليني المافيا بدون رحمة ، حيث قام بسجن الكثير لمجرد الشك في إنتمائهم للمافيا ، ولم تقوى شوكة المافيا في إيطاليا مرة أخرى حتى استسلامها في الحرب العالمية الثانية.
و خلال تلك الفترة الفاشية ، هرب الكثير من أعضاء المافيا إلى الولايات المتحدة خشية الإضطهاد والسجن ، من بينهم جوزيف بونانو ، الشهير ب (جو باناناز) والذي جاء ليسيطر على فرع المافيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
دور المافيا في اجتياح إيطاليا وصقلية بالحرب العالمية الثانية
ـ تعود بداية الحلف الامريكي المافي الى الحرب العالمية الثانية ، فأثناء تلك الحرب استخدمت أمريكا الاتصالات الايطالية بالفرع الامريكي لمنظمة "مافيا" الاجرامية خلال اجتياح إيطاليا وصقلية في الحرب العالمية الثانية وخلال عملية الإنزال الأميركي في جزيرة صقلية عام 1943 ، فقد قام لاكي لوتشيانو وأعضاء آخرين في المافيا ـ الذين اعتقلوا خلال هذا الوقت بأمريكا بموجب صفقة مع الاستخبارات الأمريكية ـ بتزويد الاستخبارات الأمريكية ـ التي استخدمت نفوذ لوتشيانو لتسهيل الطريق أمام القوات الأمريكية المتقدمة ـ بخرائط وجداول المد والجزر ومواقع وأرصفة الموانئ والمعلومات الاستخبارية والطبوغرافية ذات الصلة بذلك
و خلال صفقة المقايضة التي جرت بين الطرفين تتحصَّل عصابات المافيا في المقابل على اختلاف أسرها على الآتي:
1- تحصل عصابات المافيا مقدماً على 25 مليون دولار
2- تكون للمافيا (حقوق حماية) بعد تحرير إيطاليا، لا تقتصر على مجرد التغاضي عن نشاط هذه العصابات في أميركا وحدها، وإنما تضمن فوق ذلك وزيادة عليه مشاركة فاعلة في النشاط الإيطالي.
3- تتشاور الجهات الأميركية المعنية مع زعماء عائلات المافيا في ترتيب "علاقة عمل" مع أجهزة الأمن الأميركية، تكفل كذلك تغطية نشاط عصاباتها في الولايات المتحدة ذاتها، بما في ذلك أن يكف مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) عن الوقيعة بين عائلاتها وتحريض بعضها على بعض.
وطبقاً لدكتور ألفرد. و. ماكوي ، خبير تجارة المخدرات ، فقد سمح للوتشيانو بإدارة شبكته من زنزانته جزاء مساعداته.
ـ وبعد الحرب تمت مكافأة لوتشيانو بترحيله إلى إيطاليا عام و تحديدا إلى صقلية 1946 حيث عاد هناك لاستئناف نشاطاته و بتوسع اكبر .
و لكن يبدو ان لوتشيانو كان قد رجع الى ايطاليا بأجندة عمل امريكية حيث تحدثت كثير من المصادر الرئيسية خلال تلك الفترة عن علاقات جديدة بين وكالة الاستخبارات الأمريكية و المافيا الكورسيكية ذات التاريخ العريق في عالم المخدرات .
وطبقاً للكتاب الهام الذي صدر عام 1972 بعنوان " The politics of Heroin in South-East Asia" أو "سياسات الهروين في جنوب-شرق أسيا للدكتور ألفرد. و.ماكوي ، خبير مكافحة تجارة المخدراتJkj فقد ذهب لوتشيانو لإبرام اتحاد مع المافيا الكورسيكية ، مما أدى إلى تطور في شبكة التهريب العالمية للهروين ، والذي كان يورد أساساً من آسيا ومقره في مرسيليا - وهو ما يطلق عليه " The French connection" أو " الحلقة الفرنسية "
و عندما توقفت بعض الدول عن انتاج الافيون ، استخدم اتصالاته مع المافيا الكورسيكية ، لفتح حوار مع رجال المافيا الكورسيكية بالمهجر في جنوب فيتنام ، فقد استغلوا الأوضاع الفوضوية في الحرب الفيتنامية لتأمين مورد لا ينضب وقاعدة توزيع في " المثلث الذهبي " والذي بعد فترة قصيرة بدأ في ضخ كميات كبيرة من الهيرويين الأسيوي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وبلدان أخرى عبر العسكرية الأمريكية.
وقد أماطت اللثام عن دور المخابرات الامريكية في صناعة اسواق المخدرات الآسيوية الصحفية الأميركية إلين شانون و ذلك عام 1988 من خلال مقابلات أجرتها مع عشرات من عملاء وكالة مكافحة المخدرات وثقتها في كتاب بعنوان "المتهورون"، أكدت فيه أن العملاء أبلغوها أن مهربي المخدرات من جنوبي شرق آسيا ووكالة الاستخبارات المركزية "حلفاء طبيعيون".
كما كتبت "إن عملاء مكافحة المخدرات الذين كانوا يقومون بالخدمة في جنوب شرق آسيا في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين ذكروا أنهم اكتشفوا مرارا أنهم كانوا يقتفون أثر مهربي المخدرات الذين كانت أسماؤهم مدرجة ضمن كشوف رواتب CIA".
و في الثمانينيات والتسعينيات ، أدت سلسلة من حروب العصابات في ايطاليا فيما بينهم إلى إغتيال الكثير من أعضاء المافيا البارزين ، ليظهر جيل جديد من رجال المافيا الذين جمعوا بين العمل الاجرامي و الشنط السياسية .
و لذلك فقد قامت الصحافة الإيطالية باستحداث عبارة " La Cosa Nuova" أو " الشيء الجديد" ، بدلا من العبارة القديمة التي كان يطلقها المافيا الإيطالية على نفسها وهي " La Cosa Nostra " في إشارة إلى التجديدات الجديدة التي طرأت على المنظمة .
و لعل هذا يفسِّر مثول الرئيس الايطالي سلفيو برلسكوني امام القضاء لتبرير علاقته برئيس المافيا منذ سبعينات القرن الماضي ، وتورط بعض مساعديه في عمليات مخدرات و تهريب وغسيل اموال ، مما اضطر برلسكوني أن يمنح نفسه حق الحصانة العليا.
ويرى الكاتب الفرنسي المتخصص في مجال الاستخبارات غوردون توماس في كتابه “الكتاب الأسود للمخابرات الأمريكية” أن الاستخبارات الأمريكية ساهمت في نشر الهيروين والمخدرات في مارسيليا وفرنسا ثم من خلالهما في العالم”.