كنت في مجلس مبارك مع بعض المشايخ المتميزين فأثار أحد فضلائهم التناقض العجيب
عند الحنفية من توسعهم في التكفير مع كونهم مرجئة في باب الإيمان في غالبهم أعني متأخريهم لكونهم ماتريدية
مما استحث ذهني لتفسير هذا التضارب
ويبدو والله أعلم أنه يمكن تلفيق الجواب بتحليل سبب توسعهم في التكفير على حدة
وبيان سبب وقوعهم في الإرجاء..
أما انتشار التكفير في مصنفاتهم فسببه أنهم أكثر أتباع المذاهب تعصبا
ولتعصبهم أسباب منها ما تعود جذوره التاريخية لعهد الإمام أبي حنيفة..
حيث كان مذهبه معتمدا في الدولة العباسية مع كونه فارسيا..وهم قرشيون فذلك آية لتميزه عند الكثير إذ كيف يفضل الفارسي على العربي إلا أن يكون لا أفضل منه في الساحة
ولما كان مذهب الإرجاء في حقيقته شيئا نظريا لا تقبله الفطر الواقعية والبداهة العقلية..
إذ هو مسخ لشريعة الإسلام..ومسح لحقيقة الإيمان..
كان من السهل عند التطبيق أن يتفوق التعصب على التنظير المكتوب
حيث إن الغالي في شيء يعمي عينيه عن الحق المحض إذا خالف هذا الشيء..
فكيف حين يكون هذا المخالَف ليس حقا..بل من قبيل الباطل والمحال؟
ثم هنا أمر آخر
وهو أن التكفير متعلقه ارتكاب ناقض
وهذا الناقض قد يكون عمليا خارجيا أو قوليا أو قلبيا أعني عند أهل السنة والجماعة
فإذا قيل بأنه لا يصدر في الخارج إلا ما كان ينضحه القلب
فيكون تكفيرهم لمن ارتكب شيئا مكفرا -في نظرهم- قرينة على ما في قلب هذا المكفَّر
وحينئذ يكون تكفيرهم لمن قال -مثلا- "مصيحف" عن المصحف, قرينة عندهم على أنه يزدري كتاب الله تعالى
فآلت المسألة لجحود القلب بالتلازم
فإذا ما ثبت لدى أحدهم أن هذه الكلمة لم تصدر عن ازدراء..بل غايتها أن المراد:مصحف أوراقه صغيرة..فإنه لا يتصور أنهم يكفرونه..والحالة هذه
وأما وقوعهم في الإرجاء فتفسيره أسهل من وقوع أتباع المذاهب الأخرى فيه لأن إمامهم الأكبر-رحمه الله تعالى-..له في الإيمان كلام معروف..وهو ما يسمى بإرجاء الفقهاء على الاختلاف في تأويله أهو خلاف لفظي أم حقيقي..والراجح الثاني..والله أعلم
ومعلوم أنه حين يزل الإمام المتبع في شيء..فإن الأتباع يزيدون على زلته زلات..توسعا منهم في تقليده فأشبه ما يكون بالشرح للمتن.
وأختم باعتراف أحد محققي المذهب وهوكمال الدين بن الهمام..يقول: "يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، ولكنه ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء"
ففي كلمته تبرئة للكبار المجتهدين مما يدل على ما تقدم من كون التعصب الطاغي هو السر في ذلك..وذلك واضح في الإزراء بالمذاهب الأخرى وتحريم الصلاة خلف غير الحنفية..في عصور الانحطاط والجمود..بل زعم بعضهم أن المهدي إذا خرج فبمذهب الحنفية سيحكم!
والله أعلم