أهمية الإيمان بالغيبيات
عبد الله بن سليمان الغفيلي
علم الغيبيات من الأمور التي استأثر الله تعالى بها ، واختص بها نفسه جل وعلا ، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل ، وهو يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء ، وبذلك جاءت الآيات والأحاديث ، قال سبحانه وتعالى : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ } (1) .
وقال تعالى : { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ } (2) .
وقال عز وجل : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (3) . وقال سبحانه : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } (4) . وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } (5) ، يقول الإمام الطبري (6) - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : " قل لهؤلاء المنكرين نبوتك : لست أقول لكم إني الرب الذي له خزائن السماوات والأرض ، فأعلم غيوب الأشياء الخفية ، التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء ، فتكذبوني فيما أقول من ذلك ؛ لأنه لا ينبغي أن يكون ربا إلا من له ملك كل شيء ، وبيده كل شيء ، ومن لا يخفى عليه خافية ، وذلك هو الله الذي لا إله غيره " (7) .
ومن الآيات في هذا المعنى قوله عز وجل : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (8) . يقول الإمام القرطبي في تفسيرها : " فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه وتعالى شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ، ثم يكون له في ذلك شريك ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } وقوله تعالى : { لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } (9) ، فكان هذا كله مما استأثر الله بعلمه لا يشركه فيه غيره " (10) .
ومن أصرح الآيات دلالة قوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (11) الآية ، وتفسيرها في سورة لقمان ، قال تبارك وتعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (12) ، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير آية سورة لقمان : هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها ، فعلم وقت الساعة لا يعلمه إلا الله ، ولكن إذا أمر به علم الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه ، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا ، علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه ، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان ، لا علم لأحد بذلك ، وهذه - أي الآية- شبيهة بقوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } ، وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس : مفاتيح الغيب (13) .
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله » (14) .
فالآيات والأحاديث المذكورة وغيرها مما لم أذكره ، تدل دلالة قاطعه على اختصاصه سبحانه وتعالى بعلم الغيب دون سواه من الأنبياء والرسل والملائكة والأولياء .
والإيمان بأشراط الساعة جزء من الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان . والإيمان بالغيب هو أساس الإيمان كله ؛ لأن أركان الإيمان كلها من الأمور الغيبية ، وقد بين الله عز وجل في كتابه المبين أن الإيمان بالغيب من صفات المؤمنين المتقين فقال عز وجل : { الم }{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (15) .
ومعلوم - من الدين بالضرورة - أن علم الغيب من خصائص الله وحده - كما سبق بيان ذلك - ولقد شاء الله تبارك وتعالى أن يجعل علم الساعة غيبا من جملة علم الغيب الذي استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه لا نبيا مرسلا ، ولا ملكا مقربا ، وذلك ليبقى الناس من الساعة على حذر دائم ، وتوقع مستمر واستعداد كامل لاتخاذ الزاد المناسب لها ، فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل ، والإيمان بذلك من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر . والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أفضل الخلق وأحبهم إلى الله عز وجل ، وقد خصهم الله بمزايا كثيرة وأكرمهم بمعجزات عديدة لم يدع أحد منهم علم الغيب ، بل جميعهم كانوا يتبرؤون من ذلك ، ويردون علم الغيب إلى الله سبحانه وتعالى ، فنوح عليه السلام قال لقومه : { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } (16) .
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الرسل والأنبياء أجمعين ، ينفي عن نفسه معرفة العيب ، فقد قال الله في كتابه : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } (17) ، وقال تعالى : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (18) .
وعن مسروق قال : « كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية (19) ، وذكرت منها : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ }» (20) (21) .
وعلى الرغم من هذه الأدلة القاطعة الواضحة ، عن عدم علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالغيب ، نجد من ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة الغيب ويستدلون على ذلك بالاستثناء الوارد في قوله عز وجل : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا }{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } . (22) وليس في ذلك حجة لأحد ؛ لأن المراد بالغيب هنا ما يتعلق بالوحي خاصة .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : فإن بعض من لم يرسخ في الإيمان ، كان يظن ذلك ، حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات ، كما وقع في المغازي لابن إسحاق (23) : أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ، فقال زيد بن لصيت (24) يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن رجلا يقول كذا وكذا ، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا ، قد حبستها شجرة » ، فذهبوا فجاءوه بها . فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله ، وهو مطابق لقوله تعالى : { فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا }{ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } (25) .
فهذا الرجل - زيد بن لصيت - عندما قال هذا كان مشركا ، وكان يعتقد أن النبوة لا تصح إلا إذا كان النبي يعلم الغيب . ولكن ما بال بعض المسلمين اليوم ، وما عذرهم بعد هذا البيان الشافي من الرسول صلى الله عليه وسلم مع وضوح الأدلة في هذه المسألة ، وأما ما ثبت بالقرآن أن عيسى عليه السلام كان يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، كما في قوله تعالى : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (26) وأن يوسف عليه السلام كان ينبئهم بتأويل الطعام قبل أن يأتي إليهم . والذي حدث لرسولنا صلى الله عليه وسلم منه الكثير ، مثل ما مر علينا قبل قليل من خبر الناقة وغيره كل ذلك من باب المعجزات ، فكما جاء في الآية السابقة على لسان عيسى عليه السلام نفسه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فالآية هي المعجزة .
وبهذا تظهر لنا أهمية الإيمان بالغيب ومكانته في الإسلام ، فهو صفة المؤمنين المتقين ، وكل من يدعي علما بشيء من الغيب من تلقاء نفسه ، يكون ضالا ومكذبا لخبر الله عز وجل . ونصوص الكتاب والسنة تبين أن علم الغيب من خصائص المولى تبارك وتعالى ، وهذا يبين لنا حكم الذين يزعمون أنهم يخبرون عما سيقع في المستقبل من حوادث ، أو يزعمون علم ما في نفس الإنسان ، وغير ذلك من كذب ودجل وشعوذة ، مما نجد له صورا في بعض الصحف والمجلات التي تحتوي على زاوية لقراءة حظ الإنسان ، أو معرفة ما يقع له في المستقبل خلال معرفة الأبراج والكواكب ، نسأل الله السلامة والعافية .
_________
(1) سورة هود ، الآية : 123 .
(2) سورة يونس ، الآية : 20 .
(3) سورة الكهف ، الآية : 26 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 179 .
(5) سورة الأنعام ، الآية : 50 .
(6) هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري الإمام البارع المفسر المؤرخ ، قال الذهبي عنه : أكثر الترحال ، ولقي نبلاء الرجال ، وكان من أفراد الدهر علما وذكاء وكثرة تصانيف ، من مصنفاته : جامع البيان في تفسير القرآن ، توفي ببغداد سنة 310 هـ . تاريخ بغداد ( 2 / 162 - 169 ) ، سير أعلام النبلاء ( 14 / 267 - 282 ) .
(7) تفسير القرطبي : ( 11 / 371 ) .
(8) سورة النمل ، الآية : 65 .
(9) سورة الأعراف ، الآية : 187 .
(10) تفسير القرطبي ( 4 / 17 ) .
(11) سورة الأنعام ، الآية : 59 .
(12) سورة لقمان ، الآية : 34 .
(13) تفسير ابن كثير ( 3 / 453 ) .
(14) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب التوحيد ( 8 / 166 ) . وانظر مزيدا من الأحاديث في تفسير ابن كثير آخر سورة لقمان .
(15) سورة البقرة، الآيات : 1 - 5 .
(16) سورة هود ، الآية : 31 .
(17) سورة الأحقاف ، الآية : 9 .
(18) سورة الأعراف ، الآية : 188 .
(19) الفرية : الكذب ، يقال فرى الشيء يفريه فريا ، وافتراه يفتريه افتراء إذا اختلقه ، وجمع الفرية فرىً . لسان العرب ( 15 / 154 ) .
(20) سورة النمل ، الآية : 65 .
(21) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ( 1 / 159 ) .
(22) سورة الجن ، الآيتان : 26 - 27 .
(24) هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار القرشي المطلبي مولاهم ، العلامة الحافظ الأخباري صاحب السيرة النبوية ، قال ابن سعد : كان ثقة ، ومنهم من يتكلم فيه . وقال الشافعي - رحمه الله - : من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق . توفي سنة 150 هـ ، وقيل : غير ذلك . طبقات ابن سعد ( 7 / 321 ) ، سير أعلام النبلاء ( 7 / 33 ) .
(25) زيد بن لصيت بصاد مهملة وآخره مثناة وزن عظيم ، هكذا ضبطه ابن حجر في الفتح ( 13 / 346 ) ، وذكره في الإصابة ( 4 / 33 ) من الصحابة من القسم الأول ، وكذا ابن الأثير في أسد الغابة ( 2 / 298 ) ، وقال ابن هشام في السيرة النبوية ( 1 / 527 ) قال ابن إسحاق : « وكان ممن تعوذ بالإسلام ، ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق ، من أحبار يهود من بني قينقاع : سعد بن حنيف ، وزيد بن لصيت . . . » . وقال الذهبي في تاريخ الإسلام ص ( 39 ، 40 ) قسم المغازي : وممن أظهر الإيمان من اليهود ونافق بعد . . . ، وذكر منهم زيد بن لصيت .
(3) فتح الباري ( 13 / 364 ) ، وقد عزا هده القصة لابن إسحاق في المغازي ، وقد أخرج هذه القصة كاملة الواقدي في المغازي ( 2 / 423 - 425 ) ، والطبري في تاريخه ( 3 / 105 ، 106 ) ، والبيهقي في دلائل النبوة ( 4 / 59 ، 60 ) ، و ( 5 / 231 ، 232 ) .
(26) سورة آل عمران ، الآية : 49 .