أسس الأمن الفكري
في السنة النبوية
د. جمال أحمد بادي - باحث رئيس ([·])
د. إبراهيم آدم أحمد شوقار - باحث مشارك [*]
ملخص البحث:
لقد أصبح الأمن الفكري ضرورة من ضروريات المحافظة على أسس ومبادئ وقيم الثقافة الإسلامية الحضارية في مواجهة مخاطر التحديات المعاصرة، التي في مقدمتها العولمة. وتحاول هذه الورقة أن تقدم رؤية إسلامية تؤصل لأسس الأمن الفكري بمفهومه الشمولي ودلالته الواسعة، انطلاقا من سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بتوظيف ما ورد فيها من أصول وتطبيقات، تصلح أن تكون نبراسا هاديا لأجيال أمتنا الصاعدة، تحافظ باتباع هديها على هويتها وقيمها ومبادئها، وتتعرف بوضوح من خلالها على دروب الريادة والحضارة.
تحاول هذه الورقة الإجابة على التساؤلات التالية:
- ما المقصود بالأمن الفكري من المنظور الإسلامي؟ وما أهميته؟
- ما أهم الأسس الواردة في السنة النبوية لتحقيق الأمن الفكري ؟
- ما النماذج التطبيقية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لدعم وتفعيل تلك الأسس؟
- ما أقوال أهل العلم في بيان تلك الأسس وتوضيحها؟
وقد سلك البحث المنهج الاستقرائي لجمع أسس الأمن الفكري من كتب السنة والسيرة النبوية، مع المنهج التحليلي لتحويل تلك الأسس إلى وسائل عملية تهدف إلى تحقيق الأمن الفكري في زماننا المعاصر.
المقدمة:
يعد مصطلح "الأمن الفكري " من المصطلحات المعاصرة. وقد عرفه بعض العلماء على أنه: "طمأنينة الفرد والمجتمع على معتقداته ومبادئه التي يؤمن بها والحرية في ممارستها وحمايتها والحديث عنها ". ([1])
وقد برز هذا المصطلح، مؤخرا في المنابر الثقافية المختلفة في مواجهة تحديات العولمة باعتبارها " الامتداد الثقافي والفكري والإيديولوجي ([2]) للنموذج والثقافة والمعرفة والإنجاز الحضاري الغربي المعاصر " ([3]).
إن موضوع الأمن الفكري في السنه النبوية، لم يكن مؤسسا بالتنصيص النظري فحسب، بل كان منهجا ومبادئ عملية تجلت في مواقف صاحب الرسالة الخالدة – صلى الله عليه وسلم -وفي تعاملاته الحكيمة مع مكونات المجتمع ([4])، ثم في سيرة أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. فالمسلمون في هذا العصر في حاجة ماسة للعودة إلى المنهج النبوي، أكثر من أي وقت مضى، لالتماس الحلول ورسم الاسترتيجيات لمواجهة قضايا هذا العصر الشائكة. وقد جاءت السنة النبوية الشريفة، وهي التطبيق العملي للقرآن الكريم، لتحقيق المنهج القرآني على الواقع من خلال وضع دعائم الأمن الفكري وترسيخها في المجتمع المسلم. فتأمل في المنهج النبوي في تعامله صلى الله عليه وسلم مع القطاعات المختلفة في المجتمع، وبخاصة مع قطاع الشباب وما يحملونه من أفكار شاذة أحيانا ([5]) ! وتأمل في ردود أفعاله صلى الله عليه وسلم، من مواقف أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، في الأحداث اليومية المختلفة فيما بينهم أنفسهم أو فيما بينهم وبين غيرهم!
بل تأمل في ما جاء في دستور المدينة، المعروف بـــــ "وثيقة المدينة " ([6])، وهي أهم وثيقة كتبت بعد الهجرة، وربما في التاريخ، لتقنين العلاقة والترابط الداخلي للمجتمع الواحد، في ظل تباين عرقي وثقافي وديني، من أجل تحقيق الأمن الفكري والاجتماعي للجميع!
ستجد في ذلك كله: التوجيهات الهادية، والنصائح الهادفة، والضوابط المرشدة. التي يمكن اعتبارها قواعد وأصول منظمة، غايتها حماية القيم والأخلاق والعقائد التي أسس لها الوحي الآلهي، مع ضمان ممارستها بالشكل الصحيح الذي يشكل صمام الأمان الفكري.
أهم أسس الأمن الفكري في السنة النبوية
بعد دراسة وتأمل في سيرته صلى الله عليه وسلم ومنهجه في تربية المجتمع، وبعد النظر الدقيق فيما ورد عنه من أحاديث صحيحة، يمكن تلخيص أهم أسس الأمن الفكري في السنة النبوية في الآتي:
1-التوحيد أساس الأمن:
توحيد الله تعالى - كما هو أساس الدين والاعتقاد - هو أساس كل خير وفلاح دنيوي وأخروي. ومن ذلك أنه أساس الأمن في الدنيا والآخرة. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات: إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ([7]) وفي رواية الإمام أحمد: (إحفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا). وهو موافق لقول الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
فالتوحيد عاصم لصاحبه من أن ينزلق في مهاوي الغزو الفكري الذي يدير دفة مركبه أعداء الأمة، يرومون بذلك إعادة توجيه عقول وسلوك المسلمين لصالح مخططاتهم، بله الانسياق إلى الارتماء في أحضانهم ببيع المسلم نفسه لهم وخيانة أمته أو وطنه أو الانسلاخ من مبادئه وقيمه.
وهذه مسألة يجب إبرازها لطلابنا في كتب المقررات الدراسية، سواء أكانت الدينية أم التربية الوطنية؛ كإجراء استباقي يرمي لتحصين عقول شبابنا، وتثبيت قلوبهم، وتوجيه عقولهم وسلوكهم.
ومن أسس هذا التحصين لعقول المسلمين: تجانس المنهج المعرفي لدى المسلمين المهتدين بهدي الوحي قرآنا وسنة. يقول الدكتور النجار: " إن عقيدة التوحيد تجمع المسلمين على تصور موحد للوجود والكون والمصير. وهذه العقيدة الموحدة للمسلمين أيديولوجيا هي الموحدة -أيضا – لعقولهم بتشكيلها على خصال منهجية في النظر المعرفي متجانسة، وأصبحوا بها يفكرون بالطريقة ذاتها، فيتوصلون إلى رؤى وحلول متجانسة في تدبير الحياة " ([8]).
ومن المميزات التي ينفرد بها التوحيد في هذا المجال: ضبطه لسلوك معتنقيه، لا من خلال أنظمته وحدوده فحسب، بل من خلال إيجاد رقيب داخلي في كل فرد من أفراد المجتمع يتبع به تلك الأنظمة التي قررها، ويقف عند الحدود التي رسمها.
يقول أحد الباحثين في تقرير هذه الميزة: "إذا استبعدنا الجرائم ذات العلاقة بالأفكار، فإن المجتمع المسلم ينفرد أو يكاد، عن غيره من المجتمعات بوجود أنواع من الروادع غير تلك المألوفة عند غيره من قوة نظام وقانون وعقوبات ودقة في تنفيذها، لذا فإنه من السهل جدا إدارته أمنيا، إذا ما تحقق تحكيم الإسلام فيه والتزام أفراده بتطبيقه على وجهه الصحيح ". إلى أن يقول: " ولعل ما نشاهده من مظاهر البعد عن الالتزام بالإسلام في أرصفة وطرقات وبيوت المجتمعات الإسلامية في هذا الزمن أوجد مظاهر متعددة للجريمة وأشكالا مختلفة لما يخل بالأمن ويكدر صفو الحياة. الأمر الذي يقضي بأن تتجه الجهات المسؤولة عن الأمن في البلاد الإسلامية إلى تنمية الوازع الديني لدى الأفراد؛ لأن مهمة الإدارة الأمنية الخارجية لدى الحكومات تسهل كلما نمت الإدارة الأمنية الذاتية أو الداخلية لدى الشعوب " ([9]).
إذا تقرر ذلك فإن أهم ما يهدد هذا الأصل هو:
أ -ترويج الفساد الأخلاقي، مع غياب أو ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لذا جاء الأمر بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر بين المؤمنين.
ب -ضعف الوازع الديني وانتشار المعاصي والاستهانة بها. وهو أمر قد يكون ناتجا عن سابقه. ولا عجب أن ينص علماؤنا على أن المعاصي تقدح في كمال التوحيد.
ج -الالتقاء مع أهداف المخالف أو العدو، كما حصل من الكتاب العرب الذين وجدت كتاباتهم في النيل من الإسلام وحملته، أثناء حرب الإبادة التي شنها اليهود على مسلمي غزة رواجا عند قادة اليهود؛ فأوصوا بمنح بعض أولئك الكتبة وسام دولتهم وبنشر مقالاتهم على مواقعهم. وهو أمر يحصل لأول مرة في تاريخ المسلمين الحديث.
2 -تعظيم الحق والانفتاح عليه وتشجيع حبه وقبوله والانقياد له:
هذا الأساس هو أصل الأمن الفكري بشكل عام، وفيه تجاوز للتقاليد والإمعية والتعصب والتقليد الأعمى. ومن ذلك: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للصحابيين الذين اختلفا في قراءتهما بقوله صلى الله عليه وسلم: (كلاكما محسن). ([10]) وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة في شأن ما قاله له الشيطان: " إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح." فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقك وهو كذوب ذاك شيطان" ([11]). ومن ذلك: إقرار النبي بأن شعر لبيد كان أصدق كلمة قالها الشاعر على الرغم من أنه غير مسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد، ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم " ([12]).
ومن ذلك: إجازة النبي صلى الله عليه وسلم الرواية عن بني إسرائيل التي لا تتعارض مع ما جاء به المصطفى؛ باعتبار أن ما روي عنهم ليس كله كذب. عن أبي سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، حدثوا عني ولا تكذبوا. قال: ومن كذب علي-قال همام: أحسبه قال متعمدا -فليتبوأ مقعده من النار". ([13])
وهناك أسباب قد تحول دون تقبل الحق، منها: الجهل والحسد، وقد بوب ابن قيم الجوزية في كتابه " هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى " بابا عن الأسباب المانعة عن قبول الحق قال فيه: " والاسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا، فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس فإن من جهل شيئا عاداه وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى فإن انضاف إلى ذلك ألفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوى المانع فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوي المانع من القبول جدا فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ازادد المانع من قبول الحق قوة..." إلى أن قال: " ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد فإنه داء كامن في النفس ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه" ([14]).
ومن الأسباب الصادة عن الحق: التعصب:" إن التحيزات المعرفية المنظمة تصاحب غالبا عملية تكوين الانطباعات عن الأشخاص الآخرين. فحينما تقوم مجموعة من الأشخاص بتكوين انطباع محدد عن شخص آخر، يغلب أن يؤدي ذلك إلى حدوث التشويهات في الإدراكات، مما يجعلهم يستجيبون غالبا لمعظم المنبهات السائدة، باستجابات مفرطة. وتؤدي هذه المحاولات نفسها إلى حدوث التعصب " ([15]). ويقول أندريه هاينال في شرح أثر هذه الظاهرة: (إننا مضطرون للملاحظة بأن الشبان ينجذبون إلى تجمعات وتكتلات دينية أو علمانية، حسب البلدان، لكنها تجمعات تعصبية أيضا. ويمكننا التساؤل عن الحاجة التي تدفعهم نحو ذلك. فقد رأينا أن التعصب يمنح الأمان المعرفي وتوطيد النرجسية، غير أننا لا نستطيع تفسيره إلا إذا أحطنا باللحظة الثقافية للحضارة. اللحظة التي يزدهر فيها التعصب) ([16]).
3 - الأمر بالوحدة والألفة والدخول في سلك الجماعة ونبذ الفرقة والاختلاف والتشرذم :
وهي ركيزة عظيمة في هذا الباب. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ضرورة أن يكونوا أمة واحدة تربطهم أواصر الأخوة والمحبة، حيث قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " لا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا"([17]). وفي رواية مسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ها هنا-ويشير إلى صدره ثلاث مرات -بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" ([18]). في رواية البخاري: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً" ([19]).
كما دلت الأحادث النبوية على وجوب تعاون المسلمين، من ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" ([20]). ومنها: حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى" ([21]).
وقد بين الرسول أن البركة وعون الله مع الجماعة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يد الله مع الجماعة ([22]). وأن يحب المسلم لأخيه المسلم مثل ما أحبه لنفسه، فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه – أو قال لجاره – ما يحب لنفسه" ([23]) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والاخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والاخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ([24]).
والاجتماع والوحدة والألفة كما قررتها السنة النبوية قررها القرآن الكريم في مواضع عديدة كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ([25])، وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ([26]). وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ([27]). وقوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ([28]).
فالوحدة هي أساس الأمن الاجتماعي والفكري، وأمر الوحدة والألفة والاجتماع متقرر معلوم، إلا أنه يحتاج إلي تأكيد وتكرار وغرس في عقول وقلوب أجيالنا الصاعدة، مع التحذير مما يخالفه ويهدده من تحديات، ومن أهمها:
أ.التحزب الديني:
ومن التعصب الذي ينبغي أن نحذر منه: التعصب للفئة أو الحزب أو للجماعة التي ينتسب إليها المسلم، تعصباً يجعله ينتصر لها بالحق وبالباطل. ومن التعصب للجماعة أو الحزب، أن يضفى عليها من الصفات ما يشبه القداسة أو العصمة، فكل ما تقوله فهو حق، وكل ما تفعله فهو جميل، وكل ما يصدر عنها فهو صواب، وكل تاريخها أمجاد، وكل رجالها ملائكة !" ثم عدد أهم مظاهر هذا التعصب كالتالي:
1 - أن لا يذكر لجماعته أو لحزبه ، إلا المزايا والحسنات ، ولا يذكر للجماعات الأخرى إلا العيوب والسيئات ، وأن يعظم رجال مجموعته مهما يكن فيهم من تقصير أو قصور، ويحقر رجال الآخرين مهما يكن فيهم من سمو في العلم والعمل.
2 - أن يفرح بأخطاء الآخرين ، وقد يشنع بها، ويضرب بها الطبل ، في حين يتعامى عن أخطاء فئته وجماعته ، واذا اعترف بها حاول أن يهون منها، ويعتذر لها، ويدافع عنها.
3 - المبالغة في المحافظة على الأشكال التنظيمية للحزب أو للجماعة ، كأنها أمور تعبدية ، حتى يضحي في بعض الأحيان - بمصلحة الدعوة الإسلامية ، والأمة الإسلامية ، كيلا تخدش الصورة التنظيمية.. ومن هذه الأخلاقيات : " أن ينظر إلى القول لا إلى قائله ، وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات ، والاعتراف بالخطأ، والترحيب بالنقد من الآخرين ، وطلب النصح والتقويم منهم ، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة ، والثناء على المخالف فيما أحسن فيه، والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل، أو تطاول عليه أحد بغير حق " ([29])
ب - الضرب على وتيرة الطائفية:
يشير بعض المفكرين المعاصرين إلى وجود فرق بين التعصب والطائفية بقوله : "إن هناك فرقا كبيرا بين التعصب والطائفية كحالة فكرية أو سلوكية أو نفسية سلبية تتسم بها بعض الجماعات ، وبين المذاهب الفقهية والكلامية والاتجاهات الإسلامية المختلفة التي ولدت ضمن عوامل وتطورات فكرية وتاريخية مختلفة ، ربما لا تكون العصبية الطائفية من سماتها" . إلى أن يقول : فالقبلية والنسب وأمثالهما: أمور نسبية ، قد تكون طبيعية في حدود معقولة.
أما الخطر كله فيكمن في ما لو حاول الانسان أن يصعد بهذه الأمور إلى مستوى الأمور المطلقة والمعايير العامة، فحينئذ تكون الكارثة، وعندئذ تكون الطائفية قد تجلت بأبشع صورها وأخس اشكالها، وحينئذ يتحول النسبي النافع إلى قيد على الذهن الانساني " فيمنعه من الانطلاق الحضاري البناء، باعتبار أن هذا النسبي يرتبط بظروفه الموضوعية، فاذا جعل مطلقا لم يعد يمكن لانسان أن يتخطى هذه الظروف، وحينئذ فالجمود والانحطاط المقيت" ([30]).
ج -التشرذم الاثني والعرقي:
وهو انقسام المجتمع المسلم بسبب الاختلاف العرقي، فهذا عربي وذاك كردي، والآخر أمازيغي والرابع طاجيكي وغيره فارسي، وقس على ذلك. والمشكلة تكمن في استغلال الأعداء لهذا الأمر لاسيما في البلاد الإسلامية التي تعرضت للاحتلال، كالعراق وأفغانستان. كما أن بعض الشخصيات والمؤسسات المعادية للاسلام صرحت بضرورة توظيف هذه الثغرة في مواجهتها لأمة الإسلام.
4 - التوسط والاعتدال ونبذ الغلو في الفكر والعمل:
فلا أمان مع غلو وتطرف، ووقوف النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الخوارج، ثم وقوع فتنتهم بعد ذلك وقتالهم للمسلمين بسبب غلوهم دليل على خطورة الغلو. وقد تمظهرت دعوة السنة النبوية إلى القصد والاعتدال والتوسط في التدين في الأمور التالية:
- ضرورة المقاربة في الدين ([31])
أي التوسط في العمل والعبادة وعدم التشدد فيها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" ([32]).
وقد جاء تقرير يسر الإسلام وتوسطه في أحاديث كثيرة منها كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" ([33]).
ومن وصايا الرسول ترك الغلو في الدين: ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم – غداة العقبة وهو على راحلته - : هات القط لي، فلقطت له حصيات، هن حصي الخذف، فلموضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" ([34]).
- تطبيقه صلى الله عليه وسلم لما أمر به أمته من الاعتدال والتوسط في أداء العبادات
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه ما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا! أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ([35]).
-أمره صلى الله عليه وسلم صحابته بالتخفيف في إمامة الناس بالصلاة
كما في قصته – عليه الصلاة والسلام – مع معاذ بن جبل – رضي الله عنه – فقد جاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم يرجع فيؤمن قومه، فصلى ليلة مع النبي – صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم أتى قومه فأمهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل، فسلم، ثم صلى وحده، وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلأخبرنه، فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، إنا أصحاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلي معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –على معاذ فقال: "يا معاذ، أفتان أنت! اقرأ بكذا، واقرأ بكذا". وفي رواية: "يا معاذ، أفتان أنت – ثلاثاً ! اقرأ" والشمس وضحاها" و"سبح اسم ربك الأعلى، ونحوهما". وفي رواية: "فتان، فتان، فتان" ثلاث مرار، أو قال: "فاتناً، فاتناً، فاتناً" ([36]).
5 - الثبات على المبادئ :
وردت في السيرة النبوية أحداث كثيرة ومتنوعة بينت ثباته صلى الله عليه وسلم وعدم تنازله عن ما جاء به من الحق رغم تعدد الاغراءات التي عرضها عليه صناديد قريش.
والثبات على الحق يمثل أرضية صلبة لمواجهة طوفان الغزو الفكري وتشكيك المسلمين في دينهم ومبادئهم ونبيهم اليوم، وهو المتمثل في الهجمة الحاقدة على دين الإسلام وتشويه صورته الناصعة من قبل أعدائه.
وقد مدح القرآن الثابتين على عقيدتهم فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ([37]). وقد حث النبي أصحابه على الثبات علي المبدأ، فعن خباب بن الأرت قال: "شكونا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر، حتي يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" ([38]).
وضرب صلى الله عليه وسلم لصحابته مثالاً عملياً فيما حثهم عليه من الثبات على المبادئ بعدم قبوله الشفاعة في الحدود. فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت. فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله! ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ([39]).
ومما يهدد سلامة هذا الأصل:
أ.تحديات العولمة : يشير أحد الباحثين المتخصصين في مجالات دراسات العولمة إلى أن إشكالات العولمة لا تكمن فقط في كونها عملية تحاول إلغاء تأثير الحدود الجغرافية بين المجتمعات والدول، والتقليص من الحواجز والاجراءات القانونية لانتقال الأفراد والسلع والأفكار والرسائل والوسائل والرموز فيما بين المجتمعات على المستوى العالمي، ولكن تتعداها لتفكيك الأطر الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وجعلها أكثر ارتباطا بعوامل خارجية، ليصعب التحكم فيها، هدفها النشر والتعميم لمفاهيم الصراع والهيمنة والسيطرة ، وما يدعونه من حقوق الانسان والديمقراطية والرأسمالية العالمية والاقتصاد الحر والخصخصة وأنماط الحياة الغربية وقيمها ([40]).
ب.تحديات التقنية:
يصف أحد الباحثين ذلك النوع من التحديات بالصورة التالية: "ومن الحقائق الثابتة الآن على الصعيد الثقافي، أن النظام الثقافي: المسيطر على الواقع العالمي: هو النظام السمعي البصري، فالصورة اليوم هي المادة الثقافية التي يجري تسويقها على أوسع نطاق، وهي في زماننا هذا مصدر إنتاج القيم وتشكيل الوعي والوجدان والذوق. وهناك الآف الشركات التي تتنافس في مجال تقديم ثقافة أشبه ما تكون بالسلع الاستهلاكية، كما أن هناك مئات الأقمار الصناعية التي ترسل عبر شاشات الملايين من أجهزة التلفاز، رسائل ثقافية تستهدف تغريب المواطنين في عالمنا العربي و الإسلامي عن مجتمعاتهم ، وأصبحت صناعة الثقافة في عصرنا هذا من الصناعات العملاقة التي تستهدف حياة البشر في جوانبها المختلفة ، وتعمد إلى تسطيح الأفكار والمشاعر والى تزييف أو تغييب الوعي" ([41]).
6. المرونة في الأمور الاجتهادية المبنية على ترجح المصلحة:
هنالك الكثير من الوقائع التاريخية في سيرته، صلي الله عليه وسلم، التي تؤكد هذا المبدأ وتشير إلى إمكان تغيير القناعات في المسائل الاجتهادية في إطار تحقيق المصالح ودفع المفاسد، مثل صلح الحديبية، والأمر بالاجتهاد في قصة إرسال معاذ إلى اليمن وإقراره صلى الله عليه وسلم لاجتهاد معاذ. وبهذا الإقرار أكد النبي صلى الله عليه وسلم على
خصيصة عظيمة لهذا الدين، ألا وهي صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان لكونه يعطي للعقل البشري مجالا للاجتهاد في ضوء الشرع فيما لا نص فيه. فعندما أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يبعث معاذاً إلي اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله – صلي الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا في كتاب الله؟ قال اجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) ([42]).
ومن مظاهر مرونة الفكر الإسلامي: أنه يراعي طبيعة البشر فعن حنظلة الأسيدي – وكان من كتاب رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قال – لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول! قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً. قال: أبو بكر فوالله إنا لنلقي مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلي الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة ثلاث مرات" ([43]). وعن عروة أنه حدثه أن عائشة حدثته أن أبا بكر الصديق دخل عليها وعندها جاريتان تضربان بالدف وتغنيان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُسجى بثوبه، وقال مرة أخرى: مُتسج ثوبه، فكشف عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر، إنها أيام عيد وهن أيام مني، ورسول الله صلي الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة ([44]).
ومن مظاهر مرونة الإسلام: إعطاؤه الرخصة لأصحاب الأعذار فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلي جنب" ([45]). ومن الصور العملية الرائعة التي سطرتها لنا السيرة النبوية: مرونة النبي صلى الله عليه وسلم مع عامله: قال أنس: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت والله لا أذهب. وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله – صلى الله عليه وسلم – فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد قبض بقفاي من ورائي – قال – فنظرت إليه وهو يضحك فقال: "يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله ([46]). قال أنس والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟ ([47]).
7 - تغيير زوايا النظر بالتخلص من قيود الإطار الفكري ([48]):
لقد جاء الإسلام ليؤصل العقائد الصحيحة، ويصحح العقائد الباطلة القائمة في اي مجتمع. ومن موانع الاستجابة للحق والهدي الرباني: وجود إطار فكري قبلي تمنع قيوده صاحبه من قبول الحق والامتثال له. فالاطار الفكري - بشكله العام - هو الناظم لمجموعة القيم والمعتقدات لأي فئة أو طائفة أو فرقة. وهو الأساس الذي تقوم عليه المسارات الذهنية المتشكلة عبر الزمن والمتكررة مع مرور الأيام والسنين، والتي من خلالها يتم ترتيب المعلومات وتكوين المفاهيم والآراء، وصياغة الأفكار والرؤى، ويتم ترسيخ المعتقدات والقيم حقا كانت أم باطلا.
وهو مرتكز الاجتهادات، وأساس اتخاذ القرارات والمواقف، وفي ضوئه يتم حل المشكلات والتعامل مع التحديات. وتتدخل عوامل كثيرة في تشكله منها: البيئة والمجتمع، ومنها: التعليم والثقافة وغيرها. ويتم تشكله في العقل الباطن أو اللا شعور" لذا يصعب التفطن إليه ، ومن باب أولى تخطيه وتجاوزه .
والاطار الفكري وفق هذا التعريف هو السبب في تحويل الصواب إلى خطأ والخطأ إلى صواب ، والبدعة إلى سنة، والسنة إلى بدعة ، والظن إلى يقين، واليقين إلى ظن، والمتهم إلى بريء، والبريء إلى متهم ، والأوهام إلى حقائق، والخرافات إلى معتقدات ، والأباطيل والأراجيف إلى تاريخ ، والحق إلى باطل، والباطل إلى حق. وهي أمور محيرة يحتاج المؤمن إلى مجاهدة مستمرة واتصال بالله تعالى واللجوء إليه " طلبا لعونه في تجاوز كل هذه المفاوز.
وهذا قد يفسر الدعاء الماثور الجامع : " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه" . وهذا قد يقدم - أيضا تفسيرا – لصعوبة توبة المبتدع " وذلك لصعوبة رجوعه عن رأيه لشدة تمسكه به واعتقاده أنه حق.
ومعظم الناس - إلا من شاء الله له السلامة - لا يرون العالم كما هو، بل كما يدركونه هم من خلال الأطر والقوالب التي يشكلونها عبر الخبرة والتجربة الذاتية المتأثرة ببيئة وثقافة معينة.
والحال كما وصف فإن الانسان عند تعامله مع ما حوله ومن حوله لا يحس بأن نظرته للأمور مقيدة بذلك الاطار وإن ادعى أنه حر في تفكيره . وعجبا لكثير من الناس ممن يحيا ما كتب له من عمر طال أو قصر، ولم ينعم قط بطعم الحقيقة، ولم يسمح لنفسه أن يعيش الحياة كما هي في واقع الأمر، وانما عاشها كما هي في ذهنه ومساراته المتشكلة حسب ما أدركه وفق أطر معينة أعمته عن رؤية الحقيقة.
وقد يكون هذا الغبش في الرؤية جزئياً، وفي بعض المسائل المحددة أو في اجتهاد في مجال من المجالات ، وقد يكون انحرافا عاما عن بنيات الطريق تصغر أو تكبر زاويته . ولهذا الغبش في الرؤية أسباب متمثلة في عوائق تحجب التفكير السليم ومن أهمها:
أ - العوائق الإدراكية : نحو الاعتماد على الظن ، وفساد التصور، والشبهات، والفهم الجزئي ، والفشل في تعدد زوايا النظر، أو استعمال كافة الحواس.
ب - العوائق النفسية : كالخوف ، والهوى وما يتبعه ، كالاعجاب، والاغترار، والغضب ، والحب ، والبغض ، والتكبر، وحظوظ النفس ، والتعصب.
ج - والعوائق الثقافية : كالتقليد الأعمى ، ومجاراة الآخرين.
د - والعوائق البيئية : عندما تكون البيئة على النهج ذاته والسلوك ذاته ، ولا يسمح فيها بتجاوز المتعارف عليه من الآليات ، ولا يشجع التطوير ولا مجال فيها للابداع .
هـ- العوائق التعليمية (التربوية): نحو اعتماد منهج التلقين والاكتفاء به، وعدم السماح بالسؤال ، ولا بالتعبير عن الرأي ، بله السماح بالنقد البناء ووجهة النظر المغايرة.
وهنا تبرز أهمية المقدرة على رؤية الأمور من زوايا نظر مختلفة، وتخطي العوائق المتنوعة . وهو أسلوب نبوي دعوي يشهد له حديث مسند الامام أحمد وفيه قصة الفتى ([49]) الذي طلب فيه الإذن بالزنا من النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الغضب وكونه عائقا عن التفكير السليم فقد أشارت إليه جملة من الأحاديث ، منها: حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) ([50]).
ومنها: حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كتب أبو بكرة إلى ابنه – وكان بسجستان – بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) ([51]).
ومنها: حديث أبي مجلز رضي الله عنه قال: صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: أما إني قد دعوت فيهما بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مُضرة من فتنة مُضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين ([52]).
يتبع