تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)

    قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)


    د. حامد يعقوب يوسف الفريح ([*])




    ملخص البحث :


    هذا البحث يتناول موضوعاً في غاية الأهمية، وهو قيم النهضة في القرآن (دراسة وتطبيق) وذلك من خلال بيان المراد بالقيم من حيث اللغة والاصطلاح، وكذلك بيان المراد بالنهضة لفة واصطلاحا، ثم تحديد مفهوم قيم النهضة كمصطلح، كما يتناول البحث مجموعة من القيم التي وردت في القرآن الكريم وبيان أثرها في نهضة الأمة، وفي الجانب التطبيقي يتناول البحث قصة ذي القرنين كنموذج عملي تحققت على يديه نهضة تمثلت في مجموعة من القيم التي استنبطت من خلال مسيرة ذلك الملك الصالح في رحلاته الثلاث التي ذكرت في سورة الكهف.
    المقدمة


    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهدية وسار على منهجه إلى يوم الدين، وبعد:
    لقد تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، وتلاه حق تلاوته، وتمثله في حياته عقيدة وعبادة وأخلاقاً وسلوكاً، واتخذه دستورا يحتكم إليه في كل شؤونه، ومنهجا يسير عليه في حياته، فاستطاع بذلك هو وأصحابه - رضوان الله عليهم - أن يقيموا دولة ومجتمعا وينشئوا حضارة ونهضة، عاشت الأمة الإسلامية في ظلالها زمنا طويلا، وهي لا ترى أمة أخرى تدانيها في حضارتها ونهضتها وقوتها وعزتها، هذه النهضة استمدت مبادئها وقيمها من هدي القرآن الكريم.
    وظلت الأمة الإسلامية تنعم بهذه النهضة، وتتفيأ ظلالها الوارفة قرونا طويلة، على تفاوت في مستوى هذه النهضة قوة وضعفا، بحسب قربها أو بعدها عن منهج القرآن الكريم، إلى أن حلت النكبة بهذه الأمة وذلك بسقوط الخلافة الإسلامية في أخر عهد الدولة العثمانية، وتمزق بلاد المسلمين ووقوعها تحت الغزو الاستعماري العسكري، وما رافقه من غزو فكري وحضاري، وضاعت هوية المسلمين بعد سقوط كيانهم المادي والمعنوي، وانطبق عليهم - إلى حد ما - حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة» وكراهية الموت" [1]
    وهكذا أصبحت هذه الأمة تعيش حالة من الانحطاط والضعف والهوان بكل ما تحمل هذه الكلمات من أبعاد، وبدأت أطروحات النهضة والتغير والإصلاح تشغل أذهان المفكرين والمثقفين من كل الاتجاهات، ومن الواضح: أن التأثير الحضاري والثقافي الذي أحدثه الغزو الفكري والسياسي للعالم الإسلامي كان له أثر كبير في توجيه هذه الأطروحات، ولذلك جاءت- في معظمها- بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام وروح القرآن.
    ومن هنا كان لزاماً على المصلحين والدعاة الذين تربوا على مائدة القرآن، ونهلوا من معينه أن يتصدوا لهذه المهمة الخطيرة، ويقودوا زمام المبادرة في تقديم الحلول الناجحة لنهضة هذه الأمة التي تنطلق من دراسة القرآن بتأمل وتدبر والرجوع إلى فهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، واستنباط القيم التي أقام عليها ذلك الجيل الأول نهضته وحضارته، ولا شك أن المؤسسات التربوية التي تعنى بالقرآن الكريم هي أولى من يتصدى لهذه المهمة العظيمة، ويسعى إلى تطبيقها في أرض الواقع.
    ولما كان لي شرف الانتماء ‏إلى إحدى هذه المؤسسات التربوية التي تعنى بالقرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً [2].
    وان من أوجه التدبر: استنباط دلالات القرآن وهداياته في جميع مجالات الحياة، خصوصاً فيما يتعلق بنهضة المسلمين ورقيهم، وحيث إني أحببت أن يكون لي إسهام في الكتابة في هذا المجال، كانت هذه الدراسة حول موضوع قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)، ويهدف هذا البحث إلى الأمور التالة:
    تعريف المسلمين وارشادهم إلى الكنوز الثمينة والمنابع الفياضة في القرآن الكريم، والتي تتضمن المبادئ العامة والمنطلقات الأساسية التي من شأنها أن تنهض بالأمة وترتقي بها.
    دلالة غير المسلمين على مكانة هذا القرآن العظيم، وما حواه من قيم حضارية كفيلة بنهضة البشرية واخراجها مما هي فيه من التيه والتخبط.
    إظهار وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وبيان أنه صالح لكل زمان ومكان.
    إبراز جانب من جوانب التفسير، وهو التفسير الموضوعي، وذلك من خلال تناول موضوع قيم النهضة في القرآن الكريم.
    بيان أن هذه القيم ليست مجرد جوانب نظرية وذهنية، وإنما هي جوانب عملية يمكن تنزيلها على واقع الناس، وذلك من خلال إيراد نموذج تطبيقي وهو قصة ذي القرنين.
    وسوف ينتظم هذا البحث بإذن الله في تمهيد ومحورين وخاتمة:

    التمهيد: ويتضمن مفهوم قيم النهضة، ويشتمل على عنصرين:
    الأول: تعريف القيم لغة واصطلاحا
    الثاني: تعريف النهضة لغة واصطلاحا المحور الأول: قيم النهضة في القرآن الكريم.
    المحور الثاني: ويتضمن التطبيق العملي لهذه القيم من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
    الخاتمة: وتشتمل على أهم نتائج البحث والتوصيات.
    هذا وأسأل الله العلي القدير أن يأخذ بيدي ويوفقني للكتابة في هذا الموضوع، وأن يعينني على تدبر القرآن الكريم والوقوف على أسراره وعجائبه؟ لكي استنبط منه هذه القيم، وأشارك ولو بشيء يسير في تقديم ما ينفع هذه الأمة ويسهم في رفعتها وعلو شأنها، والله وحده هو المسؤول وعليه المعتمد ومنه العون والتوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
    التمهيد

    مفهوم قيم النهضة
    قبل البدء في الحديث عن قيم النهضة، لابد من بيان معنى القيم، وكذلك بيان المراد بالنهضة من حيث اللغة والاصطلاح، وهل هذه المصطلحات وردت في القرآن بذات اللفظ أو بالمعنى؟ ولذلك سوف يتضمن هذا المحور عنصرين وهما:
    الأول- تعريف القيم لغةً واصطلاحا

    القيم لفظ مشتق من "قوم" وهو أصل يدل على انتصاب أو عزم، فقولهم: قام قياماً إذا انتصب، ويكون "قام" بمعنى العزيمة، كما يقال: قام بهذا الأمر إذا اعتنقه، ومن الباب: هذا قوام الدين والحق، أي به يقوم [3].
    وفي اللسان: قوام الأمر: نظامه وعماده، والرجل قوام أهل بيته وقيام أهل بيته، وهو الذي يقيم شأنهم، ويقال: هذا قوام الأمر وملاكه الذي يقوم به [4].
    وفي مفردات الراغب: القيام والقوام: اسم لما يقوم الشيء به، أي: يثبت، كالعماد والسناد: لما يُعمد ويسند به، كقوله تعالى:(لاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ( (النساء: 5‏، أي: جعلها مما يمسككم، وقوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ َ) (‏المائدة:97 ‏، أي: قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، وقوله: (دِينًا قِيَمًا) الأنعام 161‏، أي ثابتا مقوما لأمور معاشهم ومعادهم ([5]).
    من خلال المعاني السابقة التي وردت يمكن أن نقول: إن القيم: هي مجموعة الركائز والأسس التي يقوم عليها أمر ما من الأمور، فهي نظامه وعماده الذي يستند إليه ويعتمد عليه.
    الثاني- تعريف النهضة لغة واصطلاحا

    ليس صحيحاً ما ذكره بعض الباحثين من أن التعريف اللغوي للنهضة جاء بمصطلحات غامضة [6]. فنحن إذا رجعنا إلى المعاجم وكتب اللغة وجدنا أن "النهضة" لفظة عربية مشتقة من الفعل "نهض" بمعنى قام.
    قال ابن فارس: النون والهاء والضاد أصل يدل على حركة في علو، ونهض من مكانه: قام، وماله ناهضة، أي قوم ينهضون في أمره ويقومون به، ونهض النبت إذا استوى، والناهض: الطائر الذي وفر جناحاه وتهيأ للنهوض والطيران [7].
    وفي اللسان: النهوض: البراح من الموضع والقيام عنه، والنهضة: الطاقة والقوة، وناهضته أي قاومته، وأنهضه بالشيء: قواه على النهوض به [8].
    مما سبق يظهر لنا أن الاستعمال اللغوي للفظة "النهضة" يدور حول معاني القوة والطاقة والاستواء والارتفاع إلى الأعلى بعد التغلب على الموانع التي تعيق هذا الصعود والارتقاء.
    هذا ولم يرد لفظ "النهضة" في القرآن، وانما وردت ألفاظ أخرى تدل على بعض المعاني الموجودة في لفظ "النهضة" وهي:
    التمكين: وهو القدرة على التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) الكهف: 84‏، وقال تعالى: (لَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ) ‏الحج:41
    ‏2- الاستخلاف: مشتق من الخلافة، وهي النيابة عن غيره إما لغيبة المنوب عنه؛ واما لموته؛ واما لعجزه؛ واما لتشريف المستخلف، وعلى الوجه ‏الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض، قال تعالى(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) الأنعام: 165
    3_ الإعمار: يقال: أعمره المكان واستعمره فيه: جعله يعمره، وفي التنزيل (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فيها) (هود: 61؛ أي أذن لكم في عمارتها واستخراج قويكم منها، وجعلكم عمارها ([9]).
    4-الإصلاح: وهو نقيض الإفساد، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه، وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت [10] وفي التنزيل، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) هود: 88 ‏.
    5 ‏- التغيير: ويأتي على وجهين: أحدهما: تغيير صورة الشيء دون ذاته، والثاني: تبديله بغيره [11]، نحو قوله تعالى الرعد:.
    والمعاني السابقة ذات صلة وثيقة بمشروع النهضة، فلا يمكن أن تحصل نهضة في الأمة الآمن خلال اعمار الأرض واستخراج مكنوناتها، وتسخير كل ذلك في رقيها وتقدمها العمراني، تم انه لا يتصور أن تحدت نهضة دون تغيير متعامل على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، وانما ينطلق ذلك كله من اصلاح جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، فتكون النتيجة الطبيعية لذلك كله أن تتأهل الأمة للاستخلاف والتمكين في الأرض الذي وعد الله عباده المؤمنين بقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَزمنا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ (النور: 55 ‏.)
    أما النهضة كمصطلح يدل على واقع معين، فلم يسبق للعرب أن استخدموه لهذا المعنى الذي أطلقت عليه في العصر الحديث، وعلى الرغم من شيوع هذا المصطلح في الأدبيات الفكرية، فإننا لا نكاد نعثر على تحديد دقيق يقع الاتفاق عليه بين الباحثين والمفكرين [12] حول مصطلح النهضة؛ ولذلك سوف أعرض لبعض التعريفات وأعلق عليها، ثم اذكر التعريف الذي أرتضيه.
    ‏جاء في المعجم الفلسفي: "نهضة renaissance المصطلح الإفرنجي سكه ميشيليه، ولكنه لم يصبح مصطلحا تاريخياً إلا بفضل بوركهارت، ويُطلق على القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو يدور على إعلاء الفردية واحياء التراث اليوناني، واكتشاف العالم والإنسان على نحو معاير لما حدث في العصر الوسيط، فنشأ المذهب الإنساني، وظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية بفضل الاكتشافات، وانفصلت الفلسفة عن الدين [13].
    ‏وهذا التعريف خاص بالنهضة الأوروبية التي حصلت في عصر محدد، وهي نهضة لا تنظر في الاعتبار إلا إلى الجانب المادي، وتقوم على مبدأ فصل الدين عن الحياة، وحتمية الصراع بين العلم والدين.
    ‏وعرف الدكتور نور الدين حاطوم "النهضة" بقوله: تفتح عجيب للحياة بأشكالها المختلفة، بلغت مظاهره الكبرى بين 1490‏و 1560 ‏وهو بالمعنى العام الواسع: تدفق من الحيوية أثار البشرية الأوروبية؛ فتبدلت على أثره حضارة أوروبا بكاملها، وهو بالمعنى الضيق نزوة حياتية في أعمال الفكر [14].
    ‏وهذا التعريف كسابقه مرتبط بالنهضة الأوروبية، التي تنطلق من منطلق العداء بين الدين والعلم، ولا يعبر عن مفهوم الإسلام للنهضة الذي يعد العلم أساساً من أسس النهضة.
    أما الدكتور النيفر: فقد وصف النهضة بأنها: "رفض الواقع والخروج عنه إلى سياق مغاير" [15].
    وهنا سؤال يطرح وهو: هل يستلزم أن تتخلى الأمة عن واقعها الذي تعيشه حتى يتسنى لها النهوض؟ ثم ما حقيقة السياق المغاير الذي تخرج إليه؟
    نقول: ما كان فاسدا من هذا الواقع يجب تغييره، وأما الصالح فيبنى عليه ليتم الانتقال إلى مستوى يمكن الأمة من أداء رسالتها التي كلفها الله بها في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران: 110 ‏.
    وقال الدكتور جاسم سلطان في معنى النهضة: إنها حركة فكرية عامة حية منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء القرن، وتطرح الجديد دون قطيعة الماضي [16].
    ‏ويؤخذ على هذا التعريف أنه قصر حركة النهضة على الجانب الفكري دون الجوانب الأخرى، وأيضاً ما هو طبيعة الجديد الذي تطرحه هذه الحركة؟
    ‏وبعد استعراض جملة من التعريفات يمكن أن اجتهد- على قدر وسعي- في صياغة تعريف مناسب للنهضة فأقول: هي حركة شاملة تنطلق من واقع أمة أو شعب، مستثمرة كل طاقاتها ومواردها؟ لترتقي بها ماديا ومعنويا، على هدي من عقيدتها وشريعتها وأخلاقها.

    ‏يمكن على ضوء هذا التعريف أن نحاد مواصفات هذه الحركة:

    أن تكون شاملة لمجالات العلم والسياسية والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
    أن تنطلق من واقع الأمة ولا تأتي من الخارج، أو تفرض عليها من الأعداء.
    أن تستثمر كل الطاقات والموارد البشرية والطبيعية.
    أن تكون نهضة مادية ومعنوية؟ أي أنها تجمع بين الأخذ بالأسباب المادية التي تجري وفق السنن الإلهية، وبين العناية بالبناء الإيماني للإنسان.
    أن تكون على هدي من عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه.
    ‏وعلى ضوء التعريف السابق لكل من مصطلحي القيم والنهضة، يمكن أن نصوغ تعريفاً لقيم النهضة فنقول هي: مجموعة الأسس والمرتكزات التي تعتمد عليها النهضة، والتي هي عمادها الذي تستند إليه ونظامها الذي لا تقوم إلا به.

    المحور الأول

    ‏قيم النهضة في القرآن
    توطئة:
    إن من أهم ما يشغل عقل المسلم اليوم: هو قضية نهضة المسلمين، وكيف يمكن انتشالهم من حال الضعف والانحطاط والتخلف التي وصلوا إليها.
    ولسنا في هذه الدراسة بصدد تشخيص هذه المشكلة والبحث في أسبابها، وانما نؤد الإشارة إلى أن كثيرا من المصلحين والباحثين الذين كتبوا في مشكلات النهضة اختلفوا اختلافاً كبيراً فيما بينهم في تحديد الأسباب التي أدت إلى هذه الحال، فبينما يرى بعضهم أن المشكلة سياسية يتمثل حلها بوسائل سياسية، نجد بعضاً آخر يرى أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ، في حين يرى فريق ثالث أن الحل يكمن في إصلاح الجانب الاقتصادي والقضاء على الفقر والجوع [17].
    ‏والسبب- والله أعلم- في هذا الاختلاف أنهم ركزوا على أعراض المرض، ولم يعالجوا المرض نفسه والأسباب التي أدت إلى ظهوره، وهذا إنما يتم بالرجوع إلى القرآن الكريم، الذي أنزل على قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فساروا على هديه وارتسموا منهجه، فاستطاعوا خلال زمن قصير- في حساب التاريخ - أن يقيموا نهضة ظلت قرونا طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى الرقي والتقدم.
    ‏هذه النهضة التي أوجدها القرآن في الأمة الإسلامية لا شك أنها تقوم على أسس ودعائم راسخة، يمكن استجلاؤها من خلال الاستقراء لكتاب الله، وهي كثيرة، سننكر منها في هذا المحور بإذن الله بعض ما تيسر.

    أولاً- التكريم:

    وهو من أهم القيم التي بينها القرآن الكريم، فمن الثابت يقيناً: أن الله فضل الإنسان على كثير من المخلوقات،
    قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّزمنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الاسراء: 70 ‏، ‏وأمر الله ملائكته بالسجود لآدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ) (‏البقرة: 34 ‏، بل على وأي كثير من أهل العلم [18] يفضل صالحو البشر على الملائكة.
    ومن آثار هذا التفضيل أنواع كثيرة من التكريم أنعم الله بها على الإنسان، من أهمها وأشرفها أن الله تعالى جعله خليفة في الأرض، وكلفه بالعمل على تطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه التي شرعها في حق عباده، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: 30 ‏.
    ولما كان الإنسان هو العنصر الأول والأساس في عملية النهضة كما يرى مالك بن نبي [19]، وبما أن الله خصه بهذا التكريم وهذا التفضيل، فلا يتصور أن تتحقق نهضة لأمة أو شعب دون أن تعطى للإنسان مكانته، وأن تحفظ له كرامته.
    ‏وقد قص علينا القرآن أن بني اسرائيل لقا كانوا تحت سلطة فرعون، كيف كان يستذلهم ويستضعفهم (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ) (‏القصص: 4، فأنقذهم الله من فرعون، وأخرجهم الى سيناء بقيادة موسى عليه السلام، ومنحهم الكرامة، وأنعم عليهم بالتمكين والنصر، ودخول الأرض المقدسة (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا العلمين (المائدة: 20)
    ‏إن تكريم الإنسان حقيقة دينية أصيلة في القرآن الكريم، وهي الخطوة الأولى التي يحس فيها الإنسان بذاته، ويشعر بتأثيره ومكانته في تحريك أمته لينطلق منها إلى بناء النهضة. إن ضياع التكريم من قاموس الأمة انعكس على سلوك الأفراد والجماعات، فأصبح الإنسان غير امن على نفسه وماله وولده، وترتب على ذلك كثير من الاثار النفسية لا سيما في حياة العلماء والمفكرين، وبذلك تلاشى أول عامل من عوامل النهضة وهو الاستقرار النفسي والاطمئنان القلبي.
    ثانياً- الحرية:

    إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن أقرب مفهوم للحرية هو مبدأ ‏الاختيار والإرادة كشرط جعله الله في تكليف الإنسان، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) (البقرة: 256 ‏، وفي الآية الأخرى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ‏الكهف: 29 ‏.
    وعلى الرغم من أن لفظة "الحرية" لم ترد في القرآن الكريم [20]، إلا أن ‏آياته تضمنت دلالات معاني الحرية في مجالات مختلفة، منها على سبيل المثال ‏ما ورد من الآيات التي تناولت مفهوم الطاعة وتحرير الإنسان من سلطة الأهواء والشهوات والشيطان والآباء والطاغوت، قال تعالى في مقام ذم طاعة قوم فرعون له(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (الزخرف: 54‏، وفي شأن طاعة السادة والكبراء الذين يضلون الناس (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (الأحزاب:67 ‏، وغيرها من الآيات القرآنية التي تدل على هذه المعاني [21].
    ولقد تمثل المسلمون الأوائل معاني الحرية هذه في حياتهم، فكانت قولة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في قصته المشهورة مع عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً [22]
    وعلى طريقة القرآن في ضرب الأمثال من واقع الناس لتوضيح المفاهيم ‏الأساسية، ذكر الله مثلا يعنى عن أهميه الحرية في حياة الناس فقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ زمنا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: 75‏. فلا يمكن بحال أن يتساوى العبد المملوك ‏العاجز الذي سلب حريته، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، بل لا يقدر حتى على التعبير عن أفكاره وآرائه، فضلاً عن أن يكون له إسهام في نهضة أمته ومجتمعه، لا يستوي هذا العبد مع السيد المالك المتصرف في كل أموره وشؤونه.
    ‏لقد اهتم القرآن ببناء مجتمع حر كريم، وجعل الحريه سمه بارزة من ‏سماته، وأصلاً من أصوله، وهذه الحريه هي التي تخلق في الأمه روح النهضه، ‏وهي التي تمد أفرادها بطاقات خلاقة قادرة بإذن الله على بناء النهضة.
    ثالثاً- العدل:

    يعد العدل من القيم الأساسية التي حث عليها القرآن وكررها في العديد من الآيات [23]، وقد فرض الله العدل على المسلمين ليشمل كل حياتهم، ابتداء من العدل في الحكم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة:42 ‏، وانتهاء بالعدل مع الأعداء والخصوم (لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ( ‏المائدة:8 ‏، بل إن القرآن جعل العدل هدفاً لجميع الرسالات السماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)
    لقد أمر الله الإنسان بالخلافة العامة وهي عمارة الأرض (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا) ( هود:61 ‏، وعهد إليه بالخلافة الخاصة وهي القيام ‏بالحكم العادل، كما قال الله (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (ص: 26 ‏، وهذا يدل على الترابط بينهما، فالعدل هو أساس العمران [24]، وهذا المعنى رسمه علماؤنا السابقون في العبارة الشهيرة (العدل أساس الملك) [25]، فإذا فقد العدل فلا يمكن أن تنتظم الحياة بأي حال من الأحوال؛ لأن الإنسان إذا كان يشعر بالظلم والقهر، واذا كان يعمل وينتج ولا يعطى حقه، وفي المقابل يرى البطالين القاعدين يكافؤون، فسوف يصيبه الإحباط واليأس ويترك العمل، هذا على مستوى الفرد، فكيف إذا كان هذا الظلم على مستوى الشعب والأمة بأكملها، فلا يتصور في أمة يفقد فيها العدل ويسود فيها الظلم، أن تنهض وتتقدم وأن تنتصر على أعدائها، ولهذا يروى (إن الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة على الدولة الظالمة وان كانت مؤمنه) [26].
    وبهذا يتبين أن العدل قيمة أساس من قيم النهضة، فأساس بقاء الإنسان ورقيه، وأمنه الفكري والنفسي والجسدي، وعطائه وانتاجه، لا يمكن أن يتحقق إلا بالعدل الذي قامت عليه السموات والأرض.
    رابعاً- إعلاء شأن العقل وضرورة إعماله:

    إن من مظاهر تكريم الله للإنسان: أن وهبه العقل، الذي هو الركيزة الأساس التي جعلت الإنسان مؤهلا لأداء الوظائف التي كلف بها؟ باعتباره خليفة لله في هذا الكون؟ لإعماره وحسن تسخيره، لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، كما أنه الركيزة الأساس في التكليف الشرعي بفعل ما أمر به واجتناب ما نهي عنه، ومن هذا المنطلق: جاء اهتمام القرآن بالعقل والإنسان العاقل وتأثيره في إصلاح المجتمع وحراسته وبناء نهضته.
    فلو تأملنا في حديث القرآن عن العقل وأهميته [27]، لرأينا أنه يتمثل في جانبين:
    توجيه العتاب واللوم والوعيد لكل من لم يحسن استخدام عقله في النظر في آيات الكتاب المسطور وتدبرها؛ ليصل من خلال ذلك الى الايمان بالخالق المدبر لهذا الكون (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) ( ‏البقرة: 44 ‏.)
    توظيف العقل في النظر في الكتاب المنظور- وهو الكون- والوقوف على سنن الله والعمل على توظيفها في اعمار الأرض وتسخيرها من أجل نهضة البشرية وارتقائها، قال تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20 ‏، وقال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ق: 6 ‏- 7 ‏.
    وكما أن المسلم مطالب بالنظر في آيات الكتاب المسطور وفهمها والعمل بها، فهو كذلك مأمور في التأمل في آيات الكتاب المنظور، ومعرفة سنن الله في هذا الكون وكيفية التعامل معها، وذلك من خلال ادراك- العلاقات السببية بين الظواهر الكونية واكتشاف العلوم التي يتم بها تسخير هذا الكون لتحقيق مصالح الانسان، وهذه هي وظيفة العقل المسلم التي يمتلك بها مفاتيح النهضة، وسر التقدم والحضارة.
    خامساً- إعلاء قيمة العمل المتقن:

    الإتقان صفة وصف الله بها هذا الكون وما فيه من المخلوقات، قال تعالى (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88 ‏، أي: أتي به على وجه الحكمة والصواب [28] وقال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة:7 ‏. وكذلك يريد الله لعباده إتقان العمل حين أمرهم بالإحسان [29] فى أعمالهم، قال تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (‏البقرة:195 ‏، وهذا الإحسان هو الإتقان والإحكام في العمل، وقيمة كل فرد في هذه الحياة من خلال ما يقدم من العمل المتقن الجاد الذي هو من شروط الاستخلاف في الأرض (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105 ‏، والصالحون لفظ عام يشمل كل المجالات ومنها: أنهم صالحون لعمارة ‏الأرض وبنانها وتسخير ما فيها من الثروات والخيرات لتحقيق النهضة المطلوبة.
    ‏لقد ربط الرسول- صلى الله عليه وسلم- بين الإحسان والإتقان [30] كما في الحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، واذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليجد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) [31] والإحسان والإتقان في مفهوم الإسلام لا يراد منهما أن يكونا سلوكاً للأفراد فحسب، بل يجب أن يكونا ظاهرة حضارية تشمل كل مناحي الحياة كي تؤدي إلى نهضة الأمة ورقيها.
    إن انتشار الصفات المناقضة للإتقان كالفوضى والتسيب والإهمال والكسل ‏واللامبالاة في أفراد الأمة، لاشك أنه ينعكس بشكل سلبي على المسلمين، فيولد حالاً من اليأس والإحباط تفقدهم الثقة في نهضة أمتهم.
    ‏وفى هذا العصر تسعى الأمم بمختلف أديانها وتوجهاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية إلى الوصول إلى ما يسمى بمفهوم الجودة [32] ويعدونه شرطاً أساساً من شروط النهضة، وهو من المطالب الشرعية التي جاء الإسلام لتكيدها والحث عليها في كثير من الآيات والأحاديث، منها: قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (التوبة: 105 ‏، وقال- صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [33].
    سادساً- إعلاء قيمة الوقت:

    ليس هناك تعبير للوقت أدق من أنه هو الحياة، إنه كالنهر المتدفق الذي يمر بأمة فيمدها بالطاقة المتدفقة فيحييها، ويمر على أخرى فلا تحس به فتخلد في سباتها، إنه ثروة لا تقدر بثمن، إذ لا يمكن لأمة أن تنهض وتسابق ركب الحضارة، إلا إذا تتحقق في أفرادها الوعي الحقيقي بأهمية الزمن، فوظفوه فيما ينفع أمتهم.
    ‏لقد أشار القرآن إلى أهمية الزمن من خلال الاستعمال المتعدد للألفاظ الدالة عليه [34]، وأيضاً من خلال القسم المتكرر في أيات كثيرة [35]، فهو عمر الإنسان، وميدان جهاده وحياته، وهو مزرعة الأخرة، ومجال الكدح والعمل، ‏وعندما يدرك ذلك لا يفرط فيه ولا يضيعه فيما لا ينفع (يأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (الانشقاق: 6 ‏.
    ‏لم يتعامل القرآن مع الوقت من الزاوية الحسابية فحسب، بل جعل منه قيمة حركية حية يتفاعل معها الإنسان في حياته كلها، لقد ربط القرآن بين عمل الإنسان وبين حركة الزمن (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (‏الإسراء: 12‏، هذه الآية فيها إشارة إلى أهمية الوقت في حياة الإنسان، فتعاقب الليل والنهار من أحل العمل والنشاط في الدنيا لابتغاء الفضل من الله: ولكي يقيس الزمن بالسنين، وبذلك يستطيع أن يخطط لمشاريعه النهضوية.
    ‏إن تحقيق الزيادة والتقدم والتحكم في التاريخ مرتبط بإدراك قيمة الوقت وامتلاكه بما ينجز فيه من أعمال وابداعات في جميع جوانب المعرفة [36].
    سابعاً- إعلاء قيمة العمل الجماعي.

    إن العمل على نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين من أهم فروض الكفايات الغائبة في هذا العصر، وهذه الفريضة لا يمكن أن يقوم به الفرد وحده؟ لأن طاقته محدودة وعمره قصير، فلابد - إذا- من تضافر الجهود ومشد الطاقات للقيام بهذه المهمة العظمة، وهذا يتطلب وجوب العمل الجماعي: لأن القاعدة الأصولية تنص على أنه: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [37]، وقد تظافرت النصوص القرآنية للتدليل على هذا الأمر، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2
    وهذه الآية قاعدة عظيمة من قواعد المجتمع البشري بعامة والمسلم ‏بخاصة في التعاون على البر، والبر: كلمة جامعة لكل معاني الخير والصلاح، وأعظم ما يتحقق من الخير ما يكون في مصلحة الأمة ونهضتها، وتمكين المسلمين ورفعة شأنهم قال ابن تيمية (وكل بني أدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الأخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم) [38].
    ‏إن نهضة الأمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالعمل الجماعي الذي هو القوة الحقيقية التي يعتمد عليها في الاستخدام الأمثل للطاقات، وتنظيم الجهود، والتنسيق بينها، وتوجيهها لخدمة الهدف المقصود.
    ثامنا- الأخذ بالأسباب المادية مع التوكل عل الله

    إن سنة الآخذ بالأسباب من- من أهم السنن الربانية التي لها علاقة قوية بمسالة النهضة، ولقد وجه الله المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية والآخروية، والنصوص في القرآن التى تحث المسلمين على الآخذ بالأسباب كثيرة متضافرة، منها: قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (‏التوبة: 105 ‏، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مناكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15 ‏، بل إن النصوص تشير إلى أن الآمر قد يكون مكتوباً في الصحف، ثم يتغير [39] لسبب من الأسباب: كالدعاء وصلة الرحم [40]، قال تعالى (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (‏الرعد:39 ‏، ولقد أوحى الله إلى مريم- عليها السلام- وهي في المخاض- أن تهز بجذع النخلة ليسقط الرطب، ومن المعلوم: أن المرأة أشد ما تكون ضعفا وهي على هذا الحال، ومع هذا أمرها الله بذلك، وهذا يؤكد ضرورة الآخذ بالأسباب في كل الأحوال والظروف بقدر الاستطاعة.
    والله سبحانه قادر على أن ينصر المؤمنين في قتالهم للكافرين ويلحق الهزيمة بأعدائهم، ومع هذا أمرهم بأعداد العدة والأخذ بالأسباب، فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (الأنفال:60 ‏، وقال تعالى (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ) ‏محمد:4 ‏، بل حتى الأنبياء المؤيدون بالوحي من السماء، مأمورون بالأخذ بهذه السنة الربانية، فهذا موسى- عليه السلام- أمره الله أن يضرب بعصاه البحر، وماذا عساها أن تفعل هذه العصا الصغيرة بهذا البحر المتلاطم الأمواج، ولكنها الأسباب، فاذا البحر فرقان، كل فرق كالطود العظيم، ولو شاء الله لجعله كذلك من دون ضرب، ولكنه سبحانه أراد أن يعلم عباده المؤمنين الأخذ بالأسباب (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الشعراء: 63‏.
    تاسعاً- قيمة الجزاء من جنس العمل:

    إن الله قد أودع هذا الكون سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ينسج على منوالها نظام هذه الحياة، فالمسلم العاقل من يساير هذه السنن ولايصادمها، ومن هذه السنن: سنة "الجزاء من جنس العمل" فالعامل إنما يجزى من جنس ‏عمله إن خيرا فخير، وان شرا فشر (جَزَاءً وِفَاقًا) النبأ: 26‏، وقد وردت أدلة ‏كثيرة في القرآن تدل على هذه القاعدة، قال تعالى (ليْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) النساء:123,وقال تعالي (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: 5‏، وقال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ) (يونس: 26‏، قال ابن تيمية- رحمه الله- "الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض" [41]
    ‏هذه قاعدة العدل في دين الله، والتي قامت عليها السموات والأرض، وهي ‏التي تدفع الإنسان إلى العمل والبذل من أجل تحقيق الخير وازالة الشر، وهل هناك خير أعظم من السعي في سبيل نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين، وأي فساد أشد من تخلف المسلمين وذلهم وهوانهم على أعدائهم.
    ‏إذا أردنا نهضة الأمة، فلابد من إشاعة هذا المفهوم، مكافأة المحسن مادياً ومعنوياً على إحسانه؛ لكي يستمر في عطائه وبذله (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن: 60‏، وأيضاً معاقبة المقصر على تفريطه وتقصيره من أجل أن يعتبر ولا يقع منه التقصير في المستقبل، ويكون عبرة لغيره (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشورى: 40.

    عاشراً- الوحدة بين المسلمين: ‏

    إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يركز على مفهوم الوحدة، من خلال استخدام الخطاب الجماعي في معظم التوجيهات القرآنية، سواء ما يتعلق بموضوعات العقيدة أو العبادات أو المعاملات، وهذا يدل على اهتمام القرآن بشأن الاجتماع والترابط والتآلف بين المسلمين، ونلاحظ أن الخطاب القرآني الموجه للمسلمين يزداد مع زيادة متطلبات حياتهم الاجتماعية ومتطلبات وحدة كيانهم، حيث نرى هذا الخطاب في المدينة أكثر وضوحا ودلالة على الوحدة، إما من خلال:
    الحديث المباشر عن هذه الوحدة، كالأمر بها في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏ال عمران:104 ‏، وهذا أمر من الله بتكوين الأمة، والأمة هي الجماعة التي يتحقق فيها معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم كأنهم شخص واحد [42]، وهذه الجماعة هي التي تأخذ على عاتقها مهمة التغيير في الأمة والعمل على نهضتها، ‏وقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) ال عمران: 103 ‏، وهو أمر ‏لهم بالاستمساك بعهد الله أو القرآن مجتمعين، وقوله (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون:52 ‏.
    أو من خلال النهي عما يضاد الوحدة، وهو التفرق والاختلاف كما في قوله تعالى (ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ عمران:105 ‏، وقوله (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46 ‏.
    أو أن يكون الخطاب القرآني في الدعوة الى الوحدة بين المسلمين بشكل غير مباشر، مثل قوله تعالى (فَمَا لَكُمْ فِي الْمنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) النساء:88 ‏، ففيه حث على الوحدة حتي على مستوى النقاش والكلام واتخاذ المواقف، وقال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ التوبة:107 ‏، حيث جعل التفريق بين المؤمنين مقابل الكفر والإرصاد اشارة الى أهمية الوحدة وخطورة التفرق والتشتت.
    ‏إن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض من واقعها وتفير من حالها وهي متفرقة متنازعة، ولكن هذه الوحدة لابد أن تقوم على أسس واضحة ومتينة.
    وبعد فهذه عشر قيم رئيسة أرى- والله اعلم- أن النهضة لا يمكن أن تقوم بدونها وهي قيم كما نلاحظ جاء القرآن لترسيخها والتأكيد عليها، وهي شاملة لكل مجالات الحياة سواء فيما يتعلق بالجانب الديني أو الدنيوي [43]، وهي ليست قيما نظرية ولكنها قابلة للتطبيق في واقع الحياة، وقد ذكر القرآن نماذج حية تمثلت هذه القيم واقعاً عملياً، وهذا ما سنعرض له في المحور التالي بإذن الله من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)

    قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)


    د. حامد يعقوب يوسف الفريح ([*])


    المحور الثاني

    نموذج تطبيقي لقيم النهضة (قضة ذي القرنين)
    توطئة:
    إن مما يزيد من قناعة المرء بالقيم والمبادئ هو أن يراها متمثلة في نماذج حية في واقع الحياة، وإلا فسوف تبقى هذه القيم مجرد أفكار نظرية تراود حلم الإنسان، لاسيّما إذا كانت هذه القيم تتعلق بأمر عظيم كقضية النهضة التي تحتاج إلى جهود كبيرة لتحقيقها في الواقع، وهي ليست أمراً مستحيلا أو خارقاً للعادة، ولكنها تتطلب سعياً حثيثاً من أجل الوصول إلى ذلك المقصود، ويسهل هذا الأمر حين تنكر نماذج عملية تمثلت فيها النهضة واقعاً ملموساً، ولذلك أورد الله في القرآن قصصاً من أجل تدبرها والاستفادة مما فيها من الدروس والعظات والعبر (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) يوسف: 111، ومن القصص التي أوردها القرآن قصة ذي القرنين في سورة الكهف، وهي التي سوف تكون بإذن الله النموذج التطبيقي الذي تحققت في النهضة من خلال القيم التي تمثلت في هذه القصة.
    قيم النهضة من خلال قصة ذي القرنين:

    إن الهدف من عرض هذه القصة العجيبة: هو التركيز على موضوع القيم، ولذلك سوف نعرض عن الخوض في الروايات المختلفة والمضطربة، والتي وردت في تحديد شخصية ذي القرنين، ولماذا سمّي بذلك، ومتى ظهر والأمكنة التي وصل إليها وتعيين الأقوام الذين تعامل معهم [44]؛ لأنه ليس هناك مستند ‏من القرآن أو من الأحاديث الصحيحة لهذه الأقوال، ولأن المقصود من القصة هو العبرة المستفادة، وهي تتحقق دون الحاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان [45].
    لقد أخبر القرآن بأن الله مكن لذي القرنين (إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) الكهف: 84‏، واعترف هو بتمكين الله له وقال ما (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) الكهف:95 ‏، والآيات هنا لم تحدد ماهية التمكين، ولكنها أشارت إلى مظاهر هذا التمكين بعبارة موجزة (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) الكهف:84 ‏، فينصرف الذهن إلى كل وجوه التمكين في الأرض [46]، التي تمكن من خلالها من أن يقيم نهضة تعد *في ذلك الزمن- قمة في الحضارة والتقدم، أقامها على أسس راسخة يمكن أن نستمدها، من هذه القصة، وهذه القيم هي:
    أولاً- الاخذ بالأسباب:

    وهذه أول القيم التي تبرز في هذه القصة، فهذا الملك الصالح العادل الذي مكن الله له في الأرض وهيأ له الأسباب والوسائل لتحقيق النهضة، يخبر القرآن أنه قد استفاد مما منحه الله إياه من طرق وأسباب ووسائل، وأنه أحسن استغلالها وتوظيفها والتعامل معها (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) ‏الكهف:85 ‏، فأخذ بهذه الأسباب والوسائل، مع أن الذي مكنه هو رب السموات والأرض الخالق المدبر المتصرف في شؤون هذا الكون كيف يشاء (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏) النحل:40 ‏، فالنهضة والتمكين في الأرض على الوجه الصحيح لا يمكن أن يتحقق إلا بالجمع بين:
    ‏*الأسباب المادية [47] الظاهرة التي يمكن من خلالها التصرف وفق سنن الله في هذا الكون من أجل تسخيرها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.
    الأسباب الغيبية من الإيمان بالله والتوكل عليه، والاسترشاد بالوحي الإلهي والسير على ضوء الهدايات المستمدة منه.
    إن فقدان أحد هذين الجانبين سوف يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، وهذا ما حصل للنهضة اليونانية والرومانية سابقا، وللنهضة الغربية- في الوقت المعاصر- التي اعتمدت على الأسباب المادية فقط، فسبب لها الشقاء، بينما اعتمدت الحضارة النصرانية على الجانب الروحي فقط، فأصابها العجز والفشل.
    ‏لقد جمع ذو القرنين بين الاعتماد على الله، وبين الأخذ بالأسباب [48] المادية، وضرب في الأرض في رحلاته الثلاث إلى مغرب الشمس ومطلعها وشمالها، حتى تمكن من تحقيق مقصوده في إقامة نهضة إيمانية وعمرانية.
    ثانياً- إقامة العدل والجزاء بالمثل:

    لما انطلق ذو القرنين ووصل إلى مغرب الشمس [49]، وجد هناك قوماً، فخيره الله بعد أن مكنه منهم بين أن يعزبهم وبين أن يعاملهم بالحسنى [50]، وكان بإمكانه - وهو الذي ملك القوة والسلطان وهم القوم المغلوبون- أن يبادر إلى استئصالهم والتخلص منهم، لكنه أعلن دستوره في معاملة البلاد التي فتحها واستولى عليها، (فقال أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً 87 وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) الكهف: 87 ‏-88 ‏.
    ‏إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الأرض، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم [51]، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء، وحين يجد المحسن في المجتمع جزاء إحسانه جزاء حسناً، ومكاناً كريماً وعوناً، وتيسيراً، ويجد المعتدي الظالم جزاء إفساده عقوبة واهانة، حينها يجد الناس ما يدفعهم إلى العمل، ويحفزهم إلى الصلاح والإنتاج، أما إذا اختل ميزان العدل فأصبح المعتدون الظالمون مقربين مكومين عند الحاكم، والعاملون المخلصون مبعدين منبوذين، فعند ذلك يسود الظلم وتنتشر الفوضى ويعم الفساد [52].
    إن ذا القرنين يقدم منهجاً واضحا لكل من يتصدى لأمر النهضة، هذا المنهج يقوم على سياسية العدل بين الناس ويطبق على الجميع دون استثناء، ويعطى كل ذي حق حقه، يكافئ المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وبهذا تستقيم الأمور، ويفيء الناس إلى ظلال العدل الوارفة [53].
    ثالثاً- تحقيق الأمن:

    من القيم التي حرص ذو القرنين على إيجادها وتحقيقها من خلال مسيرته الإصلاحية في رحلاته الثلاث قيمة الأمن، وهي بلا شك مطلب أساس لا يمكن أن تقوم نهضة وتدوم دون توافر الأمن بجميع مجالاته؛ الداخلي والخارجي، وأيضاً الأمن الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
    ولاشك أن تحقيق الأمن ثمرة من ثمار سياسية العدل التي سار عليها ذو القرنين، إلا أننا- على ضوء رحلاته- يمكن أن نتلمس جوانب تحقيق هذا الأمن، وهي:
    ‏*في رحلته الأولى إلى مغرب الشمس، حيث اتخذ مبدأ مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء، وهذا من أعظم أسباب الأمن؟؛ لأن الإنسان إذا علم بأن حقوقه محفوظة، لا يتعدى عليها أحد، وأنه مطالب بأن يؤدي حقوق الآخرين كاملة من غير نقصان، يستوي في ذلك الجميع، شعر بالأمن والأمان النفسي والبدني، وانطلق إلى البذل والعطاء.
    في رحلته إلى مطلع الشمس [54]، حيث (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) الكهف: 90‏، بمعنى أنه لا يوجد ما يسترهم عن الشمس [55]، وهي حالة تدل على مستوى من التخلف الحضاري والعمراني الذي يعيشونه، وهو بلا ريب من أسباب انعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي، والسياق لم يذكر ما صنعه ذو القرنين مع هؤلاء القوم، لكنه أشار بقوله (كذلك) ومعناه: فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب [56]، ‏وهو الدستور الذي أعلنه في الشعوب الذي تمكن منها: الإصلاح واقامة العدل، ورفع الظلم وحماية المستضعفين، وهي كفيلة بتحقيق الأمن والرخاء.
    ‏*في رحلته الثالثة إلى ما بين السدين، حيث طلب منه القوم المستضعفون [57] أن يحصيهم من هجوم الأعداء المفسدين عليهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) الكهف:94 ‏، فقام ببناء السد للدفاع عنهم، وبذلك حقق لهم الأمن الخارجي، وهو في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن أن تحصل نهضة في الداخل إذا كان أمن البلاد مهدداً من الخارج "ففرض على الحاكم أو من يتولى شأن نهضة المسلمين أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، واصلاح ثغرهم" [58].
    رابعاً- إعلاء شأن العمل الجماعي:

    وهذه القيمة تبدو جلية في قصة ذي القرنين، وذلك من خلال الخطاب الجماعي المتكرر الذي كان يوجهه ذو القرنين إلى القوم الذين وجدهم دون السدين [59]، في قوله (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) الكهف 95، فهو يطلب منهم المساعدة والمظاهرة في بناء السد، فمنهم القوة البشرية والجهد العضلي وتوفير المواد الأولية، ومنه الدعم المالي والإشراف العام، وتعد هذه العبارة القرآنية الموجزة (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) معلماً قراًنيا بارزاً في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى [60]، وأيضا في قوله (اءتوني زبر الحديد) الكهف: 96 ‏ وهو أمر لهم بأن يناولوه القطع الكبيرة من الحديد، فنضدها وبناها، حتى ساواها ‏بقمتي الجبلين، ثم أمرهم بإيقاد النار تحت هذا الحديد المنضود (قَالَ انْفُخُوا) ‏الكهف:96 ‏، ثم أمرهم بأن يُحضروا النحاس المذُاب ليصبه على الحديد المصهور (قَالَ آتُونِي ([61]) أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) الكهف:9 ‏.
    ‏وهكذا نرى أن هذا الإنجاز العظيم وهذه النهضة العمرانية الضخمة ما كانت لتتم إلا بفضل من الله، ثم بالعمل الجماعي الذي تكاتفت فيه الجهود [62]، وحشدت فيه القوى البشرية، واستثمرت بواسطته الطاقات والقدرات، فعلى القيادة الواعية في هذه الأمة أن تستفيد من تجربة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون وأن ترفع شعار (‏فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ)‏.
    خامسا - العمل المتقن:

    القرآن في الأساس كتاب هداية ودعوة، ولكن هذا لا يمنع أن يستفاد منه في الجوانب العلمية والحياتية الأخرى، ومن ذلك: تجربة ذي القرنين في بناد السد، والعمل المتقن الذي تمكن من خلاله من إقامة هذا البناء الشامخ المتماسك. لقد استطاع ذو القرنين بفضل تمكين الله له، ثم بفضل ذكائه وفطنته من الاهتداء إلى هذه الطريقة العجيبة في بناد هذا السد، وهي الجمع بين الحديد والنحاس والتي تعد سبقاً علمياً متقدًما، : وقد استخدمت هذه الطريقة في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقاً للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله [63]. ‏
    وقد توصلت الباحثة المصرية المهندسة ليلى عبد المنعم عبد العزيز ‏الخبيرة بإحدى الموسوعات الأمريكية إلى تركيبة جديدة من "الخرسانة المسلحة" تقول عنها إنها استخدمت فيها نفس المواد التي اعتمد عليها ذو القرنين في إقامة الحاجز الذي يفصل بيننا وبين يأجوج ومأجوج، هذه الخرسانة تتكون من أحد منتجات البترول مضافاً إليه الحديد المنصهر مع الإسفلت، فتنتج خلطة شديدة التماسك، لها قدرة على مقاومة الزلازل وعوامل التعرية وغيرها من القوى المؤثرة على المباني مهما بلغت شدتها، واستلهمت الباحثة دراستها من قوله تعالى (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) الكهف: 96 ‏.
    ‏توقفت الباحثة أمام هاتين الآيتين وتدبرتهما، وبعد عدة تجارب توصلت إلى هذه التركيبة.
    ‏يقول د. زغلول النجار: إن ما توصلت إليه الباحثة هو لمحة من لمحات الإعجاز القرآني في العلم الذي يتكشف لنا يوماً بعد يوم، وأضاف: إن الباحثة استمدت سر تركيبتها من قصة ذي القرنين الذي ألهمه الله استخدام مادة القطران التي اختلف العلماء حول تعريفها، فقال عنها بعضهم: إنها من النحاس المذاب [64]، بينما عرفها آخرون بأنها إحدى مشتقات البترول [65]، وأضاف عليها ذو القرنين قطع الحديد المنصهر؛ لتكوين مادة صلبة يستحيل طرقها، ثم بنى فوقها السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج [66].
    ‏ولم يكتف ذو القرنين بإتقان بناء السد، وانما وضع معياراً لجودة الأداء [67] ‏واختبار متانة هذا السد واتقان بنائه، وهذا المعيار هو أن يأجوج ومأجوج حاولوا أن يظهروا ويتسلقوا عليه، فلم يستطيعوا؛ لارتفاعه وشذة ملاسته، وحاولوا- أيضاً- أن يهدموه وينقضوه فلم يتمكنوا؛ لصلابته وسماكته (فَمَا اسْطَـعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) الكهف: 97 ‏.
    سادساً- إعلاء قيمة الوقت:

    بينا في المحور السابق أهمية الوقت كقيمة أساسية من قيم النهضة، وقد تمثلت هذه القيمة بشكل واضح في قصة ذي القرنين من خلال ما قام به من إنجازات عظيمة في وقت قصير جداً بحساب زمن النهضات.
    ‏هذا الإنجاز حققه من خلال رحلاته الثلاث، فبمجرد ما حصل له التمكين وتهيأت له الأسباب والوسائل، لم يتوان ولم يسوف [68]، بل اغتنم الفرصة وأحسن استغلال المناسبة، فأتبع الأسباب التي أتاه الله إياها بأسباب أخرى من عنده [69] وانطلق في رحلته إلى أقصى الأرض غرباً، يقيم حضارة ونهضة هناك من خلال دستور العدل والإصلاح الذي أعلنه.
    ‏ولم تقف همة هذا الملك المجاهد عند هذا الحد، بل شمر عن ساعد الجدَّ وركب البحر واجتاز القفر، وأخذ بالأسباب؛ حتى بلغ أقصى الأرض شرقاً [70]، وقام بتطبيق المنهج الذي خطه ورسمه في رحلته الأولى.
    ‏ولم تنته آمال هذا الحاكم العادل عند هذا الطموح، وانما أخذ يسابق ‏الزمن؛ لأن حركة النهضة لا تنتظر الكسالى والفاترين، وانطلق إلى مهمة أخرى تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض ونوعية البشر، وقام بعمل عمراني هامل بمقياس ذلك الزمن، والسياق القرآني يسير إلى أهمية عامل الوقت والاستخدام الأمثل له فى بناء السد من خلال إشارات لطيفة، فبعد أن ‏عرض فكرته عليهم سرع مباسرة في التنفيذ (ءآتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ثم اتبع ‏هذه المرحلة فورا بمرحلة أخرى؛ استثمارا للوقت (حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قال انفخوا) ثم تلتها مرحلة ثالثة دون توان أو تأخير (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًاً) والذي يظهر أنه كون فرق عمل ووضع برنامجاً زمنياً؛ استثمارا للوقت ولإنهاء هذه المهمة الجسيمة في الوقت المحدد.
    ‏إن رواد النهضة اليوم يجب أن يستفيدوا من تجربة ذي القرنين في استثماره للوقت، وكيف تمكن خلال فترة وجيزة- هي عمره القصير- أن يحقق هذا الإنجاز، ولو أنا حللنا تجربة هذا الملك، لوجدنا أن هناك عوامل كثيرة أثرت في إنجازاته، لكن يبقى العامل المهم هو الزمن.

    سابعاً - وحدة الكلمة:

    إن ذا القرنين في رحلاته الثلاث التي ذكرت في سورة الكهف، تمكن أن يخضع كثيراً من الأقاليم والأمم ويضمها إلى سلطانه، ولا شك أن هذه الأمم والشعوب متباينة في لغاتها وفي طباعها، وفي مستواها الفكري والحضاري، ولكن ذا القرنين استطاع بما أتاه الله من التمكين في سياسة النفوس أفراداً وجماعات، وبما يملك من الفطنة والذكاء، أن يوحد كلمة هذه الشعوب، ويمزج بين هذه الأمم المختلفة، ويقوي أواصر العلاقة بين الناس، ويزيل ما بين النفوس من تقاطع وتدابر وذلك من خلال المبادئ والقيم التي سار عليها [71].
    ‏إن شعار توحيد الكلمة واضح في الخطاب الذي كان يوجهه ذو القرنين إلى ‏الشعوب التي كان يقودها، فهو يعبر بكلامه عن الأمة بمجموعها، إنه يقول: (نعذبه) فلم يقل: أعذبه، وأيضاً قال: (وسنقول) ولم يقل: وسأقول، فلكأنه يقول لهم: هذا هو حكمكم أنتم وليس هو حكمي فقط، وهذا قولكم أنتم وليس هو قولي فقط. وأيضاً هذا الأسلوب يمكن أن نلاحظه في خطابه إلى القوم الذين وجدهم دون السد، هذا الخطاب واضح فيه حرصه على جمع الكلمة وتوحيد الصف، يمكن أن نلمح ذلك في الصيغة الجماعية وفي التوجيه، لاحظ العبارات التي وردت في الآية (‏فأعينونى) (ءآتُونِي) (انفخوا) ‏ ‏(ءآتُونِي) فإنها تدل على المعنى الذي ذكرنا، وهو توحيد الكلمة ورص الصفوف والمزج بين الآراء المختلفة والتنسيق بينها، للخروج برأي واحد يخدم الهدف الأساس، وهو نهضة الأمة.

    ثامنا- المشاركة بين الراعي والرعية:

    على الرغم من أن ذا القرنين كان ملكاُ، وأن الله قد مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، وأنه قد امتدّ سلطانه إلى مغرب الأرض ومشرقها وشمالها، ودانت له أمم وشعوب كثيرة، إلا أنه كان مثالاً حيا وأنموذجاً عمليا في التواضع، فهو لم يجلس في برج عال ويأمر وينهى ويعطي التوجيهات للناس، وانما نزل إلى الميدان وخالط الناس، وشارك مع العمال والصناع في بناء السد، فكان منهم الجهد البشري من الطاقة العمالية والمواد الأولية، ومنه الخبرة والإشراف ‏والإدارة والدعم المالي، وهذه المشاركه من هذا الحاكم نواها واضحه جليه من ‏خلال الآيات القرآنية الكريمة، فلم يتركهم يعملون وحدهم في تشييد هذا السد، وانما كان معهم بجسده وعقله وروحه في كل خطوة وفي كل مرحلة من مراحل البناء، في بداية الأمر استمع إلى شكواهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ‏‏على الرغم من ضعف قدراتهم عن التعبير عما يريدون أو عن فهم ما يقال لهم، كما وصفهم القرآن (لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ [72] قَوْلاً) وفي هذا دلالة على ضرورة استماع القائد أو الحاكم إلى مشاكل الناس؛ للتعرف على ‏أحوالهم ومعاناتهم؛ ولكي يتمكن من وضع الحلول المناسبة، ثم حاول أن يعلمنهم ويهدى من خوفهم ورعبهم (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ‏الكهف: 95‏، ثم طلب منهم العون والمساعدة بكل ما أوتوا من قوة (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) ‏وأطلعهم على المهمة المطلوب تنفيذها، فأوضح لهم الهدف وحدده؛ لكي يشاركوا في التنفيذ (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) ثم كلفهم بأن يأتوه بقطع الحديد (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) وأمرهم أن يضعوها بين الجبلين، ثم جاء دور خبرته وذكائه في جعل مستوى قطع الحديد مساوياً لمستوى الصدفين [73] (حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ثم أمرهم بالنفغ لا يقاد النار لتسخين الحديد (قَالَ انْفُخُوا) حتى اذا جعله نارا لشدة احمراره وتوهجه، طلب منهم أن يؤتوه بالنحاس المذاب، ثم جاء دور ذي القرنين في وضع اللمسات الفنية الاخيرة على هذا المشروع الضخم (قَالَ ءآتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)
    ‏وهكذا نرى هذا التلاحم بين الحاكم والمحكوم، بين القيادة والجماهير، ونلاحظ هذه المشاركة من أول خطوة في هذا المشروع إلى أن وصل إلى صورته النهائية، ليست مشاركة صورية، وانما مشاركة حقيقية في كل شيء، وهكذا النهضة لا يمكن أن تقوم في هذه الأمة إلا من خلال هذه المشاركة بين قيادة الأمة وبين شعوبها.
    تاسعاً- الأمانة:

    تعد الأمانة من أهم القيم الأساسية في نهضة الأمة ,ولا يمكن لأمة أن تنهض وتسود الإ إذا كانت
    الأمانة روحاً تسري في جسدها قيادة وشعباً، وليست مجرد شعار يرفع ويردد باللسان، قال تعالي (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص: 26‏، فإذا كانت الأمانة مطلوبة ‏في شأن استئجار شخص، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بقضية تهم الأمة بأكملها وهو شأن نهضتها ورقيها؟
    ‏إن الأمانة قيمة من القيم التي نادى بها ذو القرنين، وجعلها مبدأ يسير عليه، وطبقها على نفسه قبل أن يطالب بها غيره. لقد كان أميناً في التعامل والتصرف مع القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس، فمع أنه خير في التصرف بهم؛ إلا أنه عاملهم بالعدل والمساواة، فكافأ المحسن وعاقب المسيء.
    كان أميناً على ثروات القوم الذين لقيهم دون السد، لما عرضوا عليه أن يعطوه مالاً لكي يبني لهم سداً يحميهم من أعدائهم، لم يطمع في أموالهم ولم يستغل حاجتهم وخوفهم، ولم يتخذ الملك وسيلة للمغنم [74]، وانما قال: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) ‏الكهف: 95‏.
    ‏*كان أميناً على ما في باطن الأرض من ثروات ومعادن نفيسة، كان بإمكانه- وهو الذي معه الجيوش- أن يستولي على هذه الثروة الكبيرة، وأن يسرقها هو وجنوده ويحرم الشعب من أن يستفيد منها [75]، لكنه كان أميناً عفيفاً، فوجه هذه الثروة لبناء المشاريع التي يحتاجها الناس في هذه المنطقة.
    ‏*كان أمينأ على أرواحهم، فلما شكوا له جور الأعداء عليهم قام ببناء السد حفاظا على أرواحهم ودمائهم؟ لأنه يشعر بالمسؤولية عن الأرواح.
    ان أميناً بتبليغ الرسالة لهم، فلما انتهى من بناء السدّ بيّن لهم أن السد ‏سيكون مانعاً لصد القوم المفسدين إلى أجل محدد وهو مجيء وعد الله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) الكهف:98 ‏‏.
    عاشراً وأخيراً- الإيمان بالله وربط الأعمال كلها به:

    وهذه القيمة هي رأس الأمر وعماده، وإنما أخّرنا ذكرها لتكون مسك الختام. إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه جميع الأعمال؛ وذلك لأن المسلم إنما يستمد قوته من الله وحده (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) ‏يونس: 9.
    إن قضية الإيمان بالله وربط الأعمال به كان أمراً جليا في قصة ذي القرنين، فانطلاقته الأولى كانت منبعثة من إيمانه بالله واستمداد العون منه (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْض) الكهف:84 ‏، فالله سبحانه وتعالى هو الذي مكن له في الأرض وأمدّه بالأسباب، والتمكين لا يتحقق إلا بعد استيفاء شروطه التي ذكرها الله في القران، وهي الإيمان بالله والعمل الصالح (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ ّ لَهُمْ دينهم الذى ارتضي لهم ) النور: 55 ‏، فالإيمان بالله إذا هو أساس التمكين، وهو الركيزة الأولى التي تنطلق منها النهضة، وليس الأيمان بالمبادئ الأرضية التي أثبتت فشلها في نهضة الأمة على مر العقود [76].
    ‏لقد كان ذو القرنين مؤمنا بالله موحداً له، يربط أعماله التي يقوم بها بالله *عز وجل- فهو حينها أعلن دستوره العادل في الحكم بين الناس، لم ينس أن يذكر بفناء هذه الدنيا، وأن المرجع والمآل إلى الله في الأخرة حيث العدل المطلق والجزاء الحقيقي (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا) الكهف:87 ‏.
    ‏‏ولما عُرض عليه المال مقابل ما يقوم به من بناء السد، كان جوابه بأن ما مكّنه الله فيه من الإيمان والعمل الصالح والأسباب الدنيوية الأخرى، خير له مما عرض عليه من متاع الحياة الدنيا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) الكهف:95 ‏.
    ‏ولما أنجز ذو القرنين هذا المشروع الضخم الرائع، لم تأخذه نشوة البطر والكبرياء، ولم تسكره لذة الملك والانتصار، وانما أرجع النعمة والفضل إلى المنعم المتفضل، وربط الأعمال كلها بالله، وقال بلسان المؤمن المعترف بفضل الله عليه وتوفيقه وامتنانه (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) الكهف:98 ‏.
    ‏وأخيراً وقف ذو القرنين أمام هذا البناء الشامخ وهذه النهضة العمرانية العظيمة، وتذكر المصير الذي ستؤول إليه هذه الأرض ومن عليها من الجبال والحواجز والسدود من الدك والتدمير قبل يوم القيامة، وانطلقت منه المشاعر الإيمانية تجاه الخالق المتصرف في هذا الكون الذي بيده مقاليد السموات والأرض (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) الكهف: 98‏.
    ‏وهكذا نرى كيف أن الإيمان كان مصاحباً لذي القرنين في كل حركاته وسكناته، فهو قد انطلق من ايمانه بالله وختم مسيرته بالإيمان بالله واليوم الاخر، وخلال مسيره كان أعماله وانجازاته موصولة بالله.
    ‏وبعد فهذه عشر قيم حاولت- حسب اجتهادي- استنباطها من قصة ذي القرنين، وأراها قيماً أساسية قامت عليها النهضة التي أشادها ذو القرنين في ذلك الزمن الذي عاش فيه، وربما تكون هناك قيم أخرى غيرها، لكنها تدخل ضمن هذه القيم الرئيسة، فما كان فيها من توفيق فمن الله وحده، وما كان فيها من خطأ وتقصير فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله وأتوب إليه.


    ا لخاتمة


    الحمد لله الذي لا تعد نعمه ولا تحصى، والصلاة والسلام على خير من استمسك بالعروة الوثقى، وعلى أصحابه أولى النهى والتقى، وبعد:

    ‏فها نحن قد وصلنا إلى نهاية المطاف بعد هذه الجولة السريعة في رحاب القرآن، ومع موضوع من أهم الموضوعات التي ترى أن الإسلامية في أمس الحاجة إليه، وهو (قيم النهضة في القرآن) وقبل أن يجف مداد قلمي وتتوقف حروفي، أحب أن أسطر أهم ما توصلت إليه من نتائج في هذه الدراسة، وهي:
    أولاً: ما آلت إليه حال الأمة الإسلامية من ضعف وتخلف عن ركب الأمم كان بسبب فقدانهم أسس ومقومات النهضة.
    ثانياً: إن فشل تجارب النهضة التي مرت بالأمة العربية كان بسبب استعداد مقومات النهضة من مصادر شرقية أو غربية بعيدة عن هدي القرآن الكريم.
    ثالثاً: إن رجوع الأمة الإسلامية إلى القرآن الكريم تلاوة وتدبراً وفهماً وتطبيقاً هو السبيل الوحيد لإنقاذ الأمة مما وصلت إليه.
    رابعاً: إن القرآن الكريم ذكر الأسس والمقومات التي من شأنها أن ترقى بالأمة الإسلامية لتصبح في مقدمة الأمم الأخرى.
    خامساً: إن هذه الأسس والمقومات التي ذكرها القرآن الكريم ليست جانباً نظرياً فقط، وانما ذكر القرآن نماذج عملية تحققت فيها النهضة بشكل واقع حي، ومن هذه النماذج: قصة ذي القرنين في سورة الكهف.


    التوصيات:


    وأخيراً أرى لزاماً علتي أن أختم بذكر بعض التوصيات، وهي:
    أولاً: لابد من دراسة القرآن الكريم دراسة تأمل وتدبر، واستنباط ما فيه ‏من القيم التي أقام عليها المسلمون الأوائل نهضتهم وحضارتهم، وكيف نستفيد من هذه القيم في استرجاع هذه النهضة المفقودة.

    ثانياً: دراسة النماذج التي ذكرت في القرآن، التي تحققت فيها النهضة بشكل عملي، وهي على سبيل المثال:

    نموذج نبي الله داود عليه السلام.
    نموذج نبي الله سليمان عليه السلام.
    ثالثاً: إقامة مركز علمي يلتقي فيه علماء من تخصصات علمية مختلفة إضافة إلى علماء شريعة، يقوم هذا المركز بعمل دراسات وأبحاث علمية ومؤتمرات تخدم قضية النهضة، مثل:

    التمكين في الأرض (أسبابه ومجالاته وعوائقه)
    التميز والإبداع في العلوم التقنية (طرائقه وفنونه)
    التقدم التقني والصناعي (أسبابه وعوائقه)
    وأخيراً أسأل الله العلي القدير أن يكشف الغمة عن بلاد المسلمين، وأن يهيئ لهم من الحكام والعلماء من يقودهم إلى الخير والفلاح، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى أله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
    المصادر والمراجع


    اتجاهات النهضة والتغيير في العالم الإسلامي، عباس حسني محمد، مكتبة السلام العالمية، القاهرة، ط1، 1400 هـ.
    أحكام القرآن، أبو بكر محمد بن عبدالله ابن العربي، تحقيق علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ط3، 1392 ‏.
    استراتيجية الإدراك للحراك "من الصحرة الى اليقظة"، جاسم محمد سلطان، مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع، مصر، ط 3‏،1428 ‏.
    أسس النهضة الراشدة، أحمد القصص، من منشورات رابطة الوعي الثقافية، بيروت، ط1، 1416ه.
    إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن القيم الجوزية، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار النور الإسلامية، بيروت.
    البحر المحيط، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الفكر، بيروت، ط1 ‏،1412 ‏ه
    التاريخ الإسلامي (الخلفاء الراشدون)، محمود محمد شاكر، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3 ‏، 1403 ‏ه
    التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس،1984 ‏م.
    تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل ابن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم ومحمد عاشور ومحمد البنا، مكتبة دار السلام.
    تفسبر المنار، محمد رشيد رضا، مطبعة المنار، مصر، ط 2 ‏، 1350 ‏ه
    ‏تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الزمنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار الذخائر، الدمام، ط 1‏، 1414 ‏ه
    ‏جامع البيان عن تأويل أي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جريي الطبري، دار الفكر، بيروت،1408 ‏ه
    ‏الجامع الصحيح، للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر، بيروت،1403 ‏ ه.
    ‏الجامع الصحيح، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق كمال الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1‏، 1408 ‏ ه.
    ‏الدر المنثور، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمة، بيروت، ط1 ‏، 1411 ‏ ه.
    ‏ذو القرنين, محمد خير رمضان يوسف، دار القلم، بيروت، ط1 ‏، 1986 ‏م.
    ‏زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، المكتب الإسلام، بيروت، ط1 ‏، 138 ‏.
    ‏سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3‏، 1403 ‏ ه.
    شرح نظم الورقات في أصول الفقه، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الدمام، ط1،‏1425 ‏ه.
    شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، لبنان، 1399 ‏ه.
    صحيح الجامع وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3 ‏، 1408 ‏ه.
    صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1 ‏، 1408 ‏ه.
    ‏العقيدة الطحاوية، علي بن علي بن محمد ابن أبي العز الدمشقي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، ط1 ‏،1401 ‏ ه.
    ‏فى ظلال القرآن، سمد قطب، دار الشروق، بيروت، ط 8 ‏، 1399 ‏ه.
    القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفير وزأبادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1412 ‏ه.
    ‏القراءات، عبد الرحمن بن محمد بن زنجله، تحقيق سعيد الأفغاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5 ‏، 1418 ه
    ‏كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار الرائد العربي، بيروت، ط5، ‏ 1402 ه
    ‏الكشاف، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، دار المعرفة، بيروت.
    الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق محي الدين رمضان، مجمع اللفة العربية، دمشق، 1394 ‏ ه.
    ‏لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، دار الفكر، بيروت، ط1 ‏،1410 ‏ ه.
    ‏لماذا أخفقت النهضة العربية، احميدة النيفر، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط2 ‏،2001 ‏م.
    ‏مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى محمد مسلم، دار القلم، دمشق، ط1 ‏،1410 ‏ ه
    مجلة تكنولوجيا النقل البحري، العدد رقم (5‏)، السنة العاشرة، عدد يوليو، عام1994 ‏م.
    مجموع الفتاوى، أحمد عبد الحليم ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن ابن قاسم، مكتبة ابن تيمية، ط1،1403 ‏ ه
    ‏محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر، بيروت، ط2 ‏، 1398 ‏ ه
    ‏المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب ابن عطية، تحقيق المجلس العلمي بفاس، ط1‏، 1413 ‏ ه.
    ‏المستدرك على الصحيحين، للإمام أبي عبدالله الحاكم النيسابوري، ‏تحقق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط ا،1411 ‏ ه.
    ‏المسند، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1‏، 1412 ‏ ه.
    مسند أبي يعلى، للإمام أبي يعلى أحمد بن علي الموصلي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ط1 ‏، 1408 ‏ ه.
    المعجم الفلسفي، مراد وهبه، دار قباء الحديثة، القاهرة، ط1 ‏، 2007 ‏م.
    ‏المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب المصرية، القاهرة، الكريم، 1364 ‏ ه.
    معجم مقاييس اللغة، لابن فارس أحمد بن زكريا، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1 ‏،1411 ‏ ه.
    مع قصص السابقين في القرآن، صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1 ‏،1409 ‏ ه.
    ‏مفردات ألفاظ القرآن، الحسين بن محمد الشهير بالراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط1‏، 1412 ه
    يسالونك عن زي القرنين، أبو الكلام أزاد، دار الشعب، القاهرة،1972 ‏م.

    [*])) أستاذ بقسم الدراسات القرآنية، كلية التربية، جامعة الدمام، المملكة العربية السعودية

    [1]() رواه مسلم في مسنده من حديث ثوبان. انظر: المسند (6: 375)

    [2]() وهو قسم الدراسات القرانية بكلية التربية بجامعة الدمام.

    [3]() انظر: معجم مقاييس اللغة (435).

    [4]() انظر: لسان العرب (499:12‏)، وانظر أيضاً: القاموس المحيط (4‏: 238‏).

    [5]() انظر مفردات الراغب (ص 690 ‏- 691 ‏).

    [6]() انظر: استراتيجية الإدراك للحراك، للدكتور جاسم سلطان (ص13 ‏).

    [7]() انظر: معجم المقاييس (5‏: 363‏).

    [8]() انظر: لسان العرب (245:7‏).

    [9]() انظر: التحرير والتنوير، للطاهر ابن عاشور (138:7‏).

    [10]() انظر: مفردات الراغب (ص 294‏).

    [11]() انظر: لسان العرب (604:4‏).

    [12]() انظر: مفردات الراغب (ص 517‏).

    [13]() انظر: المرجع السابق (ص619 ).

    [14]() انظر: لماذا أخفقت النهضة العربية، للدكتور احميدة النيفر (ص29 ‏)، وأسس النهضة الراشدة، لأحمد القصص (ص19 ‏).

    [15]() انظر: المعجم الفلسفي، لمراد وهبه (ص657 ‏).

    [16]() انظر: تاريح عصر النهضة الأوروبية، نقلاً عن استراتيجية الإدراك للحراك (ص13 ‏).

    [17]() انظر: شروط النهضة، مالك بن نبي (ص 4‏).

    [18]() انظر: العقيدة الطحاوية (ص275 ‏).

    [19]() انظر: شروط النهضة (ص 45).

    [20]() وردت ألفاظ قريبة منها مثل: تحرير (النساء: 92 ‏) ، ومحرراً (آل عمران: 35 ‏)، والحر (البقرة:178 ‏).

    [21]() راجع: الأنقام (12‏)، العنكبوت (8‏)، آل عمران (149).

    [22]() راجع: القصة بكاملها في التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر (ص207 ‏).

    [23]() وردت لفظة "العدل" بمشتقاتها في القرآن في كثر من ثلاثين موضعا، ومثلها ‏لفظة "القسط".

    [24]() راجع: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي.

    [25]() المراد بالعمران هنا المعنى العام الذي يشمل كل جوانب الحضارة من زراعة وصناعة وتجارة وغيرها.

    [26]() انظر: مقدمة ابن خلدون (ص286 ‏).

    [27]() وردت لفظة "العقل" بمشتقاتها 49 ‏مرة في القرآن الكريم (راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن).

    [28]() انظر: الكشاف للزمخشري (3:154 ‏).

    [29]() وردت لفظة "إحسان" في القرآن 12‏مرة، و"المحسنين" 33 ‏مرة، و"أحسن" 53 ‏مرة، وهذا يدل على أهمية الإحسان الذي فسره النبي- صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل (أن تعبد الله كأنك تراه) إشارة إلى المراقبة وحسن الطاعة، فإن من راقب الله أحسن عمله.انظر: لسان العرب (13: 117‏).

    [30]() وجه الارتباط بين الإحسان والإتقان ظاهر، حيث إن الإتقان يتعلق بالمهارات، والإحسان قوة داخلية تسري في كيان المسلم، فالإتقان ثمرة الإحسان.

    [31]() انظر: صحيح مسلم كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح (3: 1548)

    [32]() الجودة مصطلح معاصر لم يرد في الشريعة، لكن وردت ألفاظ تدل على المعنى وزيادة مثل: الإتقان، والإحسان، والإحكام، قال تعالى: (هود: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ 1؛ أي: أتقنت وأحسنت. انظر: تفسير السعدي (351:2‏).

    [33]() أخرجه أبو يعلى في مسنده (4‏: 253‏) من حديث عائشة- رضي الله عنها - وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ح 1113‏).

    [34]() استخدم القرآن ألفاظ (الدهر، الحين، السنة ، الشهر، اليوم، الساعة) وهذا التنوع في الاستعمال يدل على أهمية الوقت).

    [35]() هذا القسم يدل على أهمية الوقت؟ لأن الله لا يقسم إلأ بأمر عظيم.

    [36]() استطاعت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية والقضاء على كل مقومات النهضة فيها، أن تبعث الحياة في شعبها وتنشي، خلال عشر سنوات صناعات ضخمة تشارك بها في معرض ألمانيا بالقاهرة سنة 1957 ‏، وهذا زمن ضئيل جداً في عمر الحضارات (انظر, شروط النهضة ص14 ‏.

    [37]() انظر: شرح نظم الورقات في أصول الفقه، للشخ ابن عثيمين (ص87 ‏).

    [38]() انظر: مجموع الفتاوى (28‏: 62‏).

    [39]() المحو إنما يكون من الصحف التي عند الملائكة لا من اللوح المحفوظ، وأما علم الله فإنه لا يمكن أن يقع فيه اختلاف

    [40]() جاء في الحديث (لا يرد الفضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) رواه التر مذي في سننه (4‏: 390‏) عن سلمان، وحسنه الألباني. انظر: صحيح سنن التر مذي للالباني (2‏:225 ‏).

    [41]() انظر: مجموع الفتاوى (28‏: 119).

    [42]() انظر: تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا (4‏:38 ‏).

    [43]() المراد هنا مجرد التقسيم، وإلا فكل عمل دنيوي فالإسلام يعده عبادة لله، إذا توفر فيه شرط الإخلاص لله.

    [44]() انظر: تفسير ابن كثير (5‏:185 ‏)، تفسير الطبري (16‏: 8 ‏)، الدر المنثور (4‏:435 ‏)، زاد المسير (5: 183).
    وراجع أيضاً: ويسألونك عن ذي القرنين لأبي الكلام آزاد ص (8- 85), ذو القرنين لمحمد خير رمضان (ص248 ‏).

    [45]() انظر: في ظلال القرآن (4: 2289‏).

    [46]() فسر ابن عباس وتلامذته السبب الذي أوتيه ذو القرنين بالعلم الذي مكنه من الفتح والنصر والملك.
    انظر: تفسير الطبري (9: 16)
    ولفظة "سبباً: في الآية عامة، فتحمل على كل ما من شأنه أن يكون وسيلة للتمكين من العلوم والمعارف، والقدرة على سياسية النفوس، وأسباب القوة العسكرية والاقتصادية، ومما يدل على سعة هذا التمكين المؤكدات في الآية (إن المفيدة للتوكيد، وضمير العظمة، والتخصيص في "له" والعموم المستفاد من قوله "من كل شيء").

    [47]() تكرر قوله تعالى "اتبع سبباً" في هذه القصة ثلاث مرات، وهذا يدل على أهمية الأخذ بالأسباب، وعلى حرصه الشديد عليها.

    [48]() وردت قراءاتان في قوله تعالى (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) ‏الأولى بوصل الألف وتشديد التاء بمعنى: سلك وسار، والثانية بهمز الألف وتخفيف التاء، بمعنى: لحق سببا. انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي (2‏:72 ‏)، وحجة القراءات لابن زنجله (ص428 ‏).

    [49]() المراد: أنه وصل إلى أقصى الأرض من جهة المغرب، واختلفوا في تحديد المكان الذي وصله، ويتعذر علينا ذلك؟ لأن النص لم يحدده.

    [50]() اختلف العلماء في ذي القرنين: هل هو نبي، أو عبد صالح؟ واستدل كل فريق بأدلة. انظر: تفسير الرازي (2‏:140 ‏). تفسير القاسمي (2‏:94 ‏). ونحن تنوقف في نبؤته، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم حين قال (ما أدري أتبع كان لعينأ أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا؟ أخرجه الحاكم في مستدركه (2‏: 488 ‏) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5‏:251 ‏).

    [51]() استخدم ذو القرنين أسلوب التحفيز المادي (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) ‏وأسلوب التحفيز المعنوي (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)

    [52]() انظر: في ظلال القرآن (4‏:2291 ‏).

    [53]() لم تذكر الآيات من هم القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين سياسة العدل هذه، ولا المدة التي مكث فيها معهم، وما أثمرت عنه هذه السياسية، وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة والمبادئ السامية نهضة ربانية، وتقدما وسعادة وطمأنينة؟ لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها.انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم (ص305 ‏).

    [54]() المراد: أنه وصل إلى أقصى الأرض من جهة الشرق، واختلفوا في تعيين المكان الذي وصله، ويتعذر ذلك؛ لأن النص لم يحدده.

    [55]() إما لعدم وجود حواجز طبيعية، أو أنهم لامساكن لهم، أو أنهم عراة لا يملكون مايسترو ن به أجسادهم، والظاهر من لفظ الآية أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم وفعلها لقدرة الله تعالى فيهم. انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (10‏: 446‏).

    [56]() انظر: المرجع السابق (10‏: 447‏).

    [57]() بالرغم من وصفهم في الآية بآنهم (لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ) ‏ ‏الكهف: 93 ‏، إلأ أن ذلك لم يمنع ذو القرنين من الاستجابة لمطلبهم في تحقيق الأمن لهم.

    [58]() انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3‏: 1248‏) بتصرف

    [59]() اختلفت أقوال العلماء في تعيين المنطقة التي يقع فيها السدان، وكذلك تحديد القوم الذين وجدهم هناك

    [60]() انظر: مع قصص السابقين في القرآن، للدكتور صلاح الخالدي (ص34 ‏، ومباحث في التفسير الموضوعي (ص307 ‏).

    [61]() وفي قراءة سبعية (ائتوني) على أنه أمر من الإتيان؛ أي: أمرهم أن يحضروا للعمل. انظر: التحرير لابن عاشور (16‏:38 ‏).

    [62]() الذي يظهر أن ذا القرنين قام بتشكيل فرق عمل مختلفة تعمل في وقت واحد؛ فريق لتجهيز قطع الحديد، وأخر لإعداد النحاس المذاب، وثالث للنفخ في الحديد، وفرق أخرى أيضاً للمساندة، ويبدو كذلك أنه كان يستخدم أسلوب التفويض في إدارة العمل؛ لأن هذا المشروع الضخم لا يمكن أن ينجز بإدارة مركزية.

    [63]() انظر: في ظلال القرآن (4‏: 2293‏).

    [64]() وهو قول ابن عباس وقتادة. انظر: تفسير الطبري (13‏:256 ‏).

    [65]() قال الحسن وابن زيد: القطران ما يهنأ به الإبل. المرجع السابق (13‏:255 ‏).

    [66]() وهو دهن من تركيب كيماوي قديم عند البشر، يصنعونه من علي شجر الأرز وشجر الأبهل، تقطع أخشابه وتحرق، ثم تكتف الأبخرة المتصاعدة، ويتجمع منها سائل أسود، يستعمل للتداوي من الجرب للإبل، وهو سريع الاشتعال، وقد يستسرج به. انظر: التحرير لابن عاشور (13‏:253 ‏)، والبحر المحيط لأبي حيان (6‏:458 ‏).

    [67]() انظر: تأملات تربوية في قصة ذي القرنين، للدكتور عثمان قدري مكانسي، مقال منشور في موقع صيد الفوائد.

    [68]() جاء العطف بحرف الفاء فاتبع سبباً الذي يدل على التعقيب المباشر للفعل، وفيه إشارة إلى اهتمامه بالوقت كقيمة أساسية للنهضة.

    [69]() وهذا على قراءة القطع والتخفيف، أي: لحق سبباً.انظر: حجة القراءات (ص 428 ‏).

    [70]() جاء العطف ثم اتبع سببا ‏التي تدل على التراخي؛ وذلك لأن الانتقال من غرب الأرض إلى شرقها يحتاج إلى وقت ويتطلب استعداداً ومكانات مادية وبشرية، والسياق لم يذكر ما صنعه ذو القرنين بن الرحلتين، لكن من خلال سيرته وما عرف عنه من أنه كان رجلاً صالحاً موحداً، وكان يفزر عباد الأصنام، ودأبه على توطيد الأمن وإثابته للمحسنين وتأديبه للظالمين، والإحسان إلى الناس جميعاً, فلابد أنه قام بأعمال جليلة في البلدان التي يمر بها.انظر: إغاثة اللهفان (2‏:260 ‏)، تفسير القاسمي (1: 90)

    [71]() يحكى أن ذا الفرنين كان يجيش من كل أمة استولى عليها جيشاً عرمرماً، يضيفه إلى جيشه، ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم؛ لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغضاء والشحناء.انظر: تفسير القاسمي (1‏: 98 ‏).

    [72]() قرأت بضم الياء، أي: لا يفقهون غيرهم إذا كلهوهم، وبفتحها؛ أي:لا يفهمون ما يقال لهم انظر: حجة القراءات (ص432 )

    [73]() هذه إحدي التقنيات المستخدمة حديثاً في توصيل معدنين مختلفين السمك, فحتي نتجنب حدوث الشروخ فإننا نقوم بعمل ما يسمي منطقة التمهيد الأنفية "soft nosing" وفيها يتم مساواة حافة اللوحين في منطقة الاتصال، ويتم ذلك عن طرمق حدوث ميل حسابي هندسي للمعدن في سطح المعدن عالي السمك حتى يصبح السمكين متجانسين في منطقة التوصيل.
    انظر: مجلة تكنولوجيا النقل البحري، العدد رقم (5‏)، السنة العاشرة، عدد يوليو عام 1994 ‏، ص (37‏).

    [74]() ذكر ابن لحير أثناء حديثه عن ذي القرنين موقف سليمان- عليه السلام- من هدية ملكة سبأ, حينما أرسلت المال إلى سليمان، فكان جوابه (فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) ‏النمل: 36‏. انظر: تفسير ابن كثير (5‏:192 ‏).

    [75]() كما هو حاصل اليوم - والله المستعان - في بعض البلاد الإسلامية التي ثتسرق ثرواتها وتنهب خيراتها من قبل من نصب نفسه حاكماً عليها، فكيف يمكن أن تقوم نهضة وقد ضيعت الأمانة ممن يفترض فيه أن يحفظ الأمانة.

    [76]() كانت هناك تجارب مريرة للأمة العربية لاستيراد مناهج من الشرق والغرب (الفكر الماركسي الملحد، والفكر المادي الغربي) وتطبيقها في البلدان الإسلامية من أجل النهضة، لكنها لم تنجح؛ لأنها لم تكن نابعة من عقيدة الأمة، ولم تستند على الإيمان بالله واليوم الأخر. راجع: اتجاهات النهضة في العالم الإسلامي، للدكتور عباس حسني (ص6 ‏) وما بعدها، أسس النهضة الراشدة، أحمد القصص (ص44 ‏)



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •