الابتلاءات تصنعنـــا


فتحية السيد

نعيش جميعاً في رحى الحياة كعابري سبيل ، ولكل منا طوقٌ، حياة ذات طابع مختلف ، هذا سعيد وذاك شقي ، وآخر فقير وغيره غني ، لكن دوام الحال من المحال ، ولا مفر من تقلبات الحياة على كل إنسان منا ، وعلينا أن نعي ذلك.
إن الدنيا دار اختبار وامتحان لكل بني آدم ؛ بُنيت على ابتلاء كل منا لترى من يتحمل ويتجرع الصبر ويحمد ربه ، ومن لا يصبر ويقنط من رحمة خالقه.
من يستطيع الثبات والإصرار على تعدي الأزمة ، ومن سريعاً ما يستسلم ويقع في براثن اليأس والخسارة .
كثيرة هي الابتلاءات التي تصيبنا والتي نتعرض لها في حياتنا ، سواء كانت في الأبدان أو الأموال أو الأولاد ، فهذا مريض مرضا مزمناً ، أو فقد عضواً من أعضاء جسده أو حاسة من حواسه ، وهذا خسر كل ما يمتلك . وتلك خسرت فلذة كبدها أو زوجها ، وأخرى فاتها سن زواجها .
حتى الأنبياء والرسل لم يسلموا من الابتلاءات ؛ فقد ابتلاهم الله -عز وجل - لاختبار مدى صبرهم وثباتهم وقوة إيمانهم ، فهذا نوح - عليه السلام - ابتلاه الله في عصيان ابنه . وهذا ابتلاء أيوب- عليه السلام- حيث صبر على الألم والعذاب الجسدي ،وسيدنا يوسف عليه السلام الذي تميز بالابتلاء بالجمال الأخاذ الذي عَرضه لفتنة الشهوة من امراة العزيز ، ورسولنا الكريم محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - ذاق كل أنواع الابتلاءات من تعذيب قومه له وسخريتهم له ، وفقدان أولاده وأحبابه وأصدقاءه.
ابتلاءات مؤلمة موجعة تنزف لها القلوب ، ولكنها تأتينا محملة برسائل ربانية عظيمة ، لا يدركها إلا المؤمن بقضاء الله وقدره ،الذي يدرك أن أمره كله بيد الله وحده .
لولا الابتلاء والفشل ما كان هناك عظماء و ناجحين مشهورين ، أصبحوا نماذج مشرفة تبعث إلينا برسائل إيجابية ، فالأنبياء لولا ابتلاءاتهم ما كانت تصل رسالاتهم للناس ولا آمن بهم الناس ، وهذا طه حسين الكفيف الذي تغلب على ابتلائه في فقدان بصره أصبح عميد الأدب العربي ووزيرا للمعارف .
دكتورنا العظيم ابراهيم الفقي أيضا ؛ بدأ بالعمل كغاسل أطباق، حارس مطعم ثم حمّال مقاعد و طاولات في فندق بسيط ، استطاع أن يقضي على فقره ، حتي أصبح خبيراً مصرياً للتنمية البشرية و البرمجة اللغوية العصبية.
وهاهو إينشتاين ؛ لم يكن يستطيع التحدث حتى سن الرابعة، و أحد مدرسيه قال أنه سيظل شخص عديم القيمة طوال حياته ، فقد أصبح عالم فيزياء، و حاز على جائزة نوبل.
أمثلة ونماذج كثيرة مشرّفة ، لو درسناها حق الدراسة ، وتمعنا في حياتهم وأفكارهم ، ثم طبقنا منها ما يناسب حياتنا ؛ لأصبحت أسماؤنا موجودة جانب أسمائهم ، لخُططت في قائمة أسماء الناجحين المتميزين.
ومع ذلك يجب الانتباه بأن الابتلاء ما يقع إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة ، يقول الله تعالى { {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} } الشورى 30 .
ومن نعمة الله على عباده أنه جعل تلك الابتلاءات كلها كمنبهات تأتي إلينا محملة برسائل معينة تختلف باختلاف صاحبها ، وأهمها أن يوقظ الإنسان من غفلته عن ربه ؛ ومن هنا يُعرَف الإنسان المؤمن من العاصي.
اعلم أيها القارئ الكريم ؛ أيها المبتلى العزيز أن الله ما ابتلاك حتى لو بالقليل إلا لحكمة أو موعظة عظيمة ، ما أنزل عليك بلاءه إلا لحبه لك ، فالابتلاءات كفارة للذنوب ورافعة للدرجات ؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة ، أوحط عنه بها خطيئة» )).
جميعنا ننظر للابتلاء على أنه محنة ، ولكنه في الحقيقة منحة من الله عز وجل ، نعمة ورزق من عند الله منحنا إياه كي يكون فرصة للتفكير في عيوبنا أو أخطاءنا ، والرجوع عنها.
وقت الابتلاء فرصة لمعرفة معادن الناس ؛ فهو يكشف النقاب لمعرفة من هو الصديق الحقيقي الذي يقف بجوار صديقه ويسانده ويشجعه على الصبر الثبات ، ومن هو الصديق المزيف المخادع وصاحب المصلحة ، فالناس لا يعرف معادنهم حقاً إلا وقت الشدة.
الابتلاء منحة من الله كي نصنع حياتنا من جديدة ،بثوب منسوج من خيوط الرضا والتسليم ، حياة ترضي الله عز وجل خالية من المعاصي والذنوب ، حياة يملأها الرضا بقضاء الله وقدره ، يغمرها التفاؤل وحسن الظن بالله
لينظر كل منا لحياته ، ويدرس ما بها من ابتلاءات ، ويفهم ما تحويه من رسائل ، دعونا نجدد حياتنا ونعيشها بأفضل ما يكون ، بصورة منيرة بشعاع الرضا وحسن الظن بالله ، وترضي الله أولاً وأخيراً.