السياق التاريخي للنوازل الأصولية

أ.د.أحمد بن عبد الله الضويحي*

لا يمكن دراسة موضوع النوازل الأصولية من دون إلقاء الضوء على السياق التاريخي لتطور مادة علم الأصول، وذلك لأن تقبل فكرة النوازل الأصولية لا يكون إلا من خلال تصور كيفية نشوء هذا العلم وتطور مادته وموضوعاته.
وفي هذا الإطار يمكن القول بأن من الحقائق التاريخية الثابتة أن علم أصول الفقه لم يعرف كفن مستقل في العهد النبوي، ولا في عهد الصحابة، ولا حتى في عهد التابعين، وإنما بدأت مادته تتشكل تبعاً لعوامل متعددة في القرنين الأول والثاني[1]، ولم تظهر المصنفات المستقلة فيه إلا في أواخر القرن الثاني تقريباً.
ففي العهد النبوي كانت مصادر التشريع محصورة في الوحي المتلو، وهو الكتاب، والوحي غير المتلو، وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية، والفعلية، والتقريرية[2]، وكانت وظيفة السنة النبوية بيان القرآن الكريم، وتخصيص عمومه، وتقييد مطلقه، وتفسير مشكله، بل ونسخه في بعض الأحيان، وقد تستقل بأحكام جديدة لم ترد فيه، كاستقلالها ببيان ميراث الجدة، وزكاة الفطر، وصلاة الوتر، وغيرها[3].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في بعض النوازل التي لم ينزل عليه بشأنها شيء[4] وربما استعمل بعض الأساليب القياسية في بيانه للأحكام[5] في إشارة منه إلى صحة الاستدلال بهذا الطريق، ومن ذلك : قياسه دين الله على ديون الآدميين، وقبلة الصائم على المضمضة، وبيع الرطب بالتمر على بيع التمر بالتمر، وغير ذلك[6].
وإضافة إلى استعمال النبي صلى الله عليه وسلم للاجتهاد والقياس فإنه – وفي سبيل ترسيخ هذا الأصل- سوغ لكثير من الصحابة الاجتهاد في عصره وأثناء حياته، بل وفي حضوره، كتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريضة[7]، واستشارته لأصحابه في أسرى بدر[8] ، ونحو ذلك.
ففي هذا العهد كان النبي صلى الله عليه وسلم المرجع الأول والمفتي الوحيد الذي تجسدت فيه متطلبات هذا العلم وغاياته.
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم شهد عصر الصحابة ظهور أدلة جديدة أضيفت إلى المصدرين الأساسيين للتشريع، وأهم هذه الأدلة ما يلي :-
1 – الإجماع .
وكانت بداية ظهور هذا الأصل كمصدر من مصادر التشريع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، حيث كان منهج الصحابة رضوان الله عليهم قائماً على التشاور وتبادل الرأي في النوازل والحوادث المستجدة بهدف الوصول إلى حكم تتفق عليه آراؤهم[9].
ومن أبرز أمثلة الإجماع في عصرهم ما يلي:
أ – إجماعهم على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه[10].
ب – إجماعهم على جمع المصحف[11].
جـ – إجماعهم على قتال مانعي الزكاة[12].
د – إجماعهم على جعل حد الشرب ثمانين جلدة[13].
2 – القياس .
فقد ظهر هذا الدليل بشكل أكثر وضوحاً في عصر الصحابة ، حيث كان منهجهم في النوازل قائماً على البحث عن أشباهها ونظائرها في الكتاب والسنة، ومن ثم قياس النظير على نظيره[14].
3 - قول الصحابي .
فقد ظهرت بوادر الاحتجاج به في عصر الصحابة، وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على وجه التحديد، حيث روي عنه أنه كان إذا أعياه أن يجد الحكم في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به[15].
وهذا المنهج يدل على أن عمر كان يرى صحة الاحتجاج بهذا الدليل.
وإضافة إلى ذلك فقد اشتهر عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يبحثون عن أقضية أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر فيأخذون بها[16].
4 – المصلحة المرسلة .
وهي من الأدلة التي ظهرت في عصر الصحابة، حيث أثر عنهم أنهم كانوا يستندون إليها في بعض الأحكام ، ولعل من أشهر الأحكام التي أثبتها الصحابة بناءً على هذا الدليل : جمع المصحف، واستخلاف أبي بكر لعمر قبل وفاته، وتدوين عمر للدواوين، واتخاذ السجون، وسك النقود، وغيرها[17].
5 - سد الذرائع، أو قاعدة الحكم بالمآل .
فهـذه القاعـدة وإن كانت أصولها ثابتة في الكتاب والسنة إلا أن ظهورها –كدليل يمكن للمجتهد أن يستند إليه في استنباط الحكم- بدأ في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ويمكن للمستقريء لأقضيتهم وأحكامهم أن يظفر بشيء من هذا، ولعل من أبرز الأمثلة عليه ما يلي:
أ – ما روي عن علي رضي الله عنه أنه حكم بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة، وسوى بينـه وبيـن القاذف في الحد[18] سداً للذريعة، ومما يؤكد ذلك أن الدافع إلى الحكم ما لمسه عمر رضي الله عنه من تهاون الناس في عقوبة الخمر، فكانت العقوبة الجديدة من باب الذريعة.
ب – ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نفى نصر بن حجاج عن مكة – وكان شاباً جميلاً- حينما سمع تشبيب النساء به، ولاشك أن هذا الحكم مستند إلى سد الذريعة، لكونه خشي الفتنة من بقائه[19].
وكان عصر التابعين امتداداً لعصر الصحابة فيما يتعلق بالقضايا الأصولية فبقيت مادة هذا العلم على ما هي عليه، ولم يشهد هذا العصر ظهور أدلة جديدة عدا مذهب الصحابي الذي بدأ يأخذ شكله الاصطلاحي، فكان مجتهدو التابعين يحتجون في كثير من الأحكام التي لم يرد بشأنها نص من كتاب أو سنة بأقوال آحاد الصحابة أو أفعالهم، بل ويرى بعضهم أن مذهبهم أولى من الرأي والقياس[20].
لكن أبرز ملامح هذا العصر توسع دائرة الاجتهاد والقياس وظهور ما يعرف بمدرسة الرأي، وهي المدرسة التي تقوم على النظر في المعاني والعلل على اعتبار أن أكثر الأحكام الشرعية معقولة المعنى، وأنها لم تشرع إلا لمصالح العباد[21].
وكان زعيم هذه الطريقة إبراهيم النخعي ت96هـ تلميذ علقمة النخعي ت62هـ الذي تلقى الفقه على يدي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من أكثر الصحابة عملاً بالرأي والقياس[22].
ومن أهم أسباب ظهور هذه المدرسة: كثرة الحوادث والنوازل نتيجة للفتوحات واتساع رقعة العالم الإسلامي، وكان العراق – وهو البلد الذي عرف بالمدنية والحضارة[23]- مقراً لهذه الطريقة، والمجتمعات الحضرية تعد بطبعها بيئة للمستجدات والحوادث[24].
ومن هنـا نلاحظ أن تطـور المادة الأصولية جاء استجابة لمتطلبات الأحوال وتغير الزمان والمكان.
وفي عصر تابعي التابعين – وهو العصر الذي بزغ فيه نجم الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد- بدأت تتشكل مادة أصول الفقه، وظهر كفن مستقل بموضوعاته ومؤلفاته.
فحظيت المصادر المتفق عليها – وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع- باهتمام المجتهدين في هذا العهد، فانصرفوا لبيان أحكامها، والتقعيد لها، وتحرير المسائل المتصلة بها.
وأخذ القياس شكله الاصطلاحي على يد الإمام أبي حنيفة وصاحبيه[25]، وأضحى من أهم أدوات الاجتهاد التي لا يستغني عنها الفقيه.
وظهر في هذا العصر دليلان من أشهر الأدلة المختلف فيها وهما :
1 – الاستحسان .
والمراد به: العـدول في حكم مسألة عن نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي ذلك العدول[26].
وهو أحد أصول مذهب أبي حنيفة رحمه الله[27]، وغالباً ما يذهب إليه ويترك القياس إذا كان القياس قبيحاً[28].
ويعد الإمام محمد بن الحسن ت189هـ من أكثر علماء هذه الحقبة تصريحاً بالاعتماد على الاستحسان في كتبه المختلفة، بل إنه عقد كتاباً مستقلاً سماه: كتاب الاستحسان[29]، مما يدل على أهمية هذا الأصل عندهم.
وهو كذلك من أصول مذهب الإمام مالك ت177هـ[30]، حيث نقل عنه أنه قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان"أ-هـ[31].
وكان هذا الدليل مثار جدل واسع بين أئمة هذا العصر، حيث أنكره الإمام الشافعي ت204هـ على اعتبار أنه قول بالتشهي والهوى، وقال فيه عبارته المشهورة : "من استحسن فقد شرع"[32]، بل وصنف فيه كتاباً مستقلاً سماه : "إبطال الاستحسان"[33].
وقد دافع محققوا المذهب الحنفي عن تمسك أئمتهم بهذا الدليل فبينوا أن مرادهم به ليس هذا المعنى الباطل الذي أنكره الشافعي، وإنما هو: العمل بأقوى القياسين، أو ترك القياس لدليل أقوى منه[34].
2 – عمل أهل المدينة .
وهو أحد الأصول التي تفرد بها الإمام مالك رحمه الله تعالى[35]، حيث يقول في رسالته إلى الليث بن سعد ت175هـ : - "فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها"أ-هـ[36].
قال ابن خلدون ت808هـ :- "واختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره، وهو عمل أهل المدينة"أ-هـ[37].
وقد استنكر أئمة ذلك العصر هذا النوع من الاستدلال وبينوا بطلانه[38].
يقول الإمام الشافعي ت204هـ : - "قال بعض أصحابنا إنه حجة، وما سمعت أحداً ذكر قوله إلا عابه، وإن ذلك عندي معيب"أ-هـ[39].
ولذا عدّ بعض الأصوليين هذا الرأي من الآراء المشكلة في أصول الفقه[40].
وقد انقسم علماء الأصول من المالكية وغيرهم تجاه هذا القول، فأنكر بعضهم نسبته إليه، ونقل عنه أنه كان يخالف عملهم في بعض المسائل، ومن هؤلاء: أبو بكر الأبهري ت375هـ، وأبو الفرج المالكي ت331هـ، وابن حزم ت456هـ [41].
وحمل آخرون رأيه على ظاهره فاستكبروه منه، ولم يرتضوا تأويلات أصحابه، ومن هؤلاء: الجويني ت478هـ، والغزالي ت505هـ [42].
واختار أكثر المحققين حمل رأيه على ما يوافق أصول مذهبه، فذكروا جملة من التوجيهات والمحامل لهذا الرأي، كقولهم : - إن مراده بذلك ما كان طريقة النقل[43]، أو ترجيح روايتهم على رواية غيرهم[44]، أو إجماع الصحابة[45]، أو إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين[46]، أو ما اتفق عليه الفقهاء السبعة[47] ،أو أنه أراد بذلك الأخذ بقولهم فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ[48]، أو ترجيح اجتهادهم على اجتهاد غيرهم[49].
وفي هذه الحقبة بدأ التدوين الحقيقي لمادة هذا العلم على يد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ت204هـ، حينما صنف كتاب الرسالة[50]، ووضع الشافعي لهذا الكتاب إنما جاء استجابة لمتطلبات الحال في ذلك العصر الذي شهد تجاذباً بين مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي، وتخبطاً في الاجتهاد والفتوى، فأراد الشافعي أن يضع القواعد والضوابط التي تنظم عملية الاجتهاد[51].
يقول الشيخ ولي الله الدهلوي ت1176هـ- وهو يتحدث عن أسباب تأليف الشافعي للرسالة-: " ومنها أنه رأى قوماً من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان... وبالجملة لما رأى في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس، فأسس الأصول، وفرع الفروع وصنف الكتب فأجاد وأفاد"أ-هـ[52].
ويقول الرازي ت606هـ :- "الناس كانوا قبل الشافعي رضي الله عنه يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمه الله علم أصول الفقه ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع"أ-هـ[53].
وقد أثارت بعض الموضوعات التي طرحها الشافعي في هذا الكتاب جدلاً واسعاً عند علماء الأصول الذين جاءوا من بعده، وتعرض بسببها للانتقاد والتجريح[54].
والرسالة ذاتها لم تشتمل على كافة المسائل والقضايا الأصولية، وإنما كانت النواة الأولى للمدونات المستقلة في هذا الفن[55]، ومن بعدها شهد القرن الثالث والرابع طفرة في التأليف الأصولي أسهمت في إضافة بعض القضايا والموضوعات إلى مادة هذا العلم، كالمسائل المتعلقة بالأحكام، والمسائل المتعلقة بالأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، وعوارضها، ودلالات الألفاظ، إضافة إلى المباحث الكلامية، والمسائل المتعلقة بالاجتهاد، والتعارض، والترجيح، وما صاحب ذلك من تطور ملحوظ في الحدود والاصطلاحات، وتوسع في طرائق المناظرة والجدل، واستعمال الحجج العقلية[56].
ومع نهاية القرن الرابع أوشكت مادة هذا العلم على الاكتمال، ولم يبق هناك ما يمكن أن يوصف بأنه إضافة حقيقية إلا ما كان من الآراء الجريئة والمثيرة للجدل لعدد من علماء الأصول في القرون التالية لهذا القرن، كآراء ابن حزم الظاهري ت456هـ في حجج العقول، وإنكار القياس، والتفريق بين العلة والسبب، وتوسيع دائرة المباحات، وغيرها، ورأي نجم الطوفي ت716هـ الشهير في المصلحة، وإلحاق الشاطبي ت790هـ لأبواب المقاصد وكليات الشريعة بأصول الفقه، وجعله إياها جزء من مادة هذا العلم، واعتماده منهج الاستقراء لاستخلاص كليات الشريعة، وتوسعه في التعليل بالحكمة.
وحاصل القول : أن مادة هذا العلم لم توجد كوحدة متكاملة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة، ولا حتى في عصر التابعين، وإنما شهدت تطوراً ونماءً على مدى القرون الأربعة الأولى نتيجة لتبدل الأحوال وتغير الظروف.
يقول ابن خلدون ت808هـ : - " واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم، فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة ... احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه، وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله عنه أملى فيه رسالته المشهورة"أ-هـ[57].
وبناءً على ذلك يمكن القول بأن فكرة النوازل الأصولية ليست بدعاً من القول، وإنما هي حقيقة تاريخية يمكن أن يدركها كل متتبع لتاريخ نشأة هذا العلم وتطور مادته، ولعل أول النوازل الأصولية من الناحية التاريخية : ظهور الإجماع كمصدر من مصادر التشريع المعتبرة، وما أعقبه من ظهور بعض الأدلة الجديدة، كمذهب الصحابي، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والقياس الأصولي بأركانه الاصطلاحية الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، والاستحسان، وعمل أهل المدينة، وغيرها.
ولعل مما يؤكد هذه الفكرة : تلك القصة المشهورة التي تروى عن الإمام الشافعي رحمه الله ت204هـ وفيها : أنه سأله سائل عن الحجة في دين الله، فقال كتاب الله، قال السائل: ثم ماذا؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟ فتدبر الشافعي رحمه الله ساعة، فقال له السائل : أجلتك ثلاثة أيام، فتغير لون الشافعي، ثم ذهب فلم يخرج أياماً، ثم خرج من البيت في اليوم الثالث، فجاء السائل فقال: حاجتي؟ فقال الشافعي: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قـال الله عز وجل : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهـدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}[58]، لا يصليه جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلا وهو فرض، فقال السائل : صدقت"أ-هـ[59].
ففي هذه القصة دلائل واضحة على أن الاحتجاج بالإجماع يعد من النوازل الأصولية، كاستغراب السائل إثبات مصدر من مصادر التشريع دون مستند من القرآن، وعجز الشافعي عن بيان الدليل له في الحال، وانصرافه إلى التنقيب في القرآن عن دليل لهذا الأصل، وحرصه على بيان وجه الدلالة حتى يدركه السائل وغيره.
وفي الرسائل المتبادلة بين الإمام مالك ت177هـ ، والليث بن سعد ت175هـ[60] ما يدل على أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة كان نازلة أصولية استوجبت المدارسة والمناظرة وبيان الحق.
وقد نقل الباجي ت474هـ وغيره عن أبي يوسف ت182هـ أنه لما اجتمع بمالك وسأله عن المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال : لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع مثلما رجعت[61].
وقد تقدم إنكار الشافعي وأحمد لهذا النوع من الاستدلال ومخالفتهم لمالك في ذلك[62]، وهذا يؤكد أنه دليل محدث ونازلة أصولية جديدة.
يقول الجصاص ت370هـ : - "فلو كان إجماعهم هو المعتبر في كونه حجة لما خفي أمره على التابعين ومن بعدهم، فلما لم نر أحداً من تابعي أهل المدينة ومن غيرهم ومن جاء بعدهم دعا سائر الأمصار إلى اعتبار إجماع أهل المدينة ولزوم اتباعهم: دل ذلك على أنه قول محدث لا أصل له عن أحد من السلف"أ-هـ[63].
ومن قرأ كتاب الشافعي "إبطال الاستحسان" ولاحظ المنهج الذي سلكه في إنكار هذا النوع من الاستدلال أدرك أن تأليفه لهذا الكتاب جاء استجابة لهذه النازلة الأصولية وهي تفشي العمل بهذا الدليل وبخاصة عند فقهاء الحنفية.
ومن تتبع المصنفات الأصولية في القرنين الثالث والرابع وجد أن عدداً منها قد صنف في بيان حكم نازلة من النوازل الأصولية إثباتاً أو نفياً.
فمن أهم المصنفات في الإجماع :
كتاب الإجماع لداود بن علي الظاهري ت270هـ، وكتاب الإجماع لابن الأخشيد ت326هـ، وكتاب الإجماع لأبي بكر الصيرفي ت330هـ، وكتاب الإجماع لأبي منصور الماتريدي ت333هـ.
ومن أهم المصنفات في اجتهاد الرأي :
كتاب اجتهاد الرأي لمحمد بن الحسن الشيباني ت189هـ، واجتهاد الرأي لعيسى بن أبان ت220هـ، والاجتهاد لأبي علي الجبائي ت303هـ، ونقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي لأبي سهل النوبختي ت311هـ، والاجتهاد لأبي هاشم الجبائي ت321هـ، والاجتهاد في الأحكام لأبي الحسن الأشعري ت324هـ.
ومن أهم المصنفات في القياس :
كتاب القياس لمحمد بن إدريس الشافعي ت204هـ، وإثبات القياس لعيسى بن أبان ت220هـ، وإبطال القياس لداود بن علي الظاهري ت270هـ، وإبطال القياس لأبي سعيد البشكري ت276هـ، وإثبات القياس لأبي بكر القاشاني ت280هـ، والرد على داود في إبطال القياس للقاشاني أيضاً، والقياس لأبي الحسين بن القاسم ت298هـ، وإثبات القياس لأبي الحسن القمي ت305هـ، والرد على ابن داود في إبطال القياس لأبي العباس بن سريج ت306هـ، وإبطال القياس لأبي سهل النوبختي ت311هـ، وإثبات القياس لأبي بكر بن المنذر ت318هـ، وإثبات القياس لأبي الحسن الأشعري ت324هـ، والقياس للقشيري ت344هـ، والاعتبار في إبطال القياس للرباعي ت370هـ، والقياس لأبي القاسم الصيمري ت386هـ، وإبطال القياس لأبي الطيب بن الخلال، وإبطال القياس للنهرباني وكلاهما من أتباع داود الظاهري.
ومن أهم المصنفات في عمل أهل المدينة :
إجماع أهل المدينة لأبي بكر الأبهري ت375هـ، وأمالي إجماع أهل المدينة لأبي بكر الباقلاني ت403هـ.
ومن أهم المصنفات في الاستحسان إضافة إلى كتاب إبطال الاستحسان للشافعي ت204هـ: كتاب الاستحسان لمحمد بن الحسن الشيباني ت189هـ [64].

*أستاذ علم أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.



[1] انظر علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري 1/77-126.

[2] انظر مقدمة ابن خلدون 418-419، والفتح المبين 1/9، 15.

[3] انظر مقدمة ابن خلدون 418، وحجية السنة 515.

[4] انظر اللمع 134، والعدة 5/1578، والمستصفى 2/355، وشرح تنقيح الفصول 446، وأعلام الموقعين 1/9، وفواتح الرحموت 2/366.

[5] انظر جامع بيان العلم وفضله 2/81-82، والفكر السامي 1/69.

[6] انظر علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري 1/85-87.

[7] أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن معاذ 4/227، ورقمه 3804، وأخرجه مسلم في صحيحه من حديثه أيضاً، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزل أهل الحق على حكم حاكم عدل أهل للحكم 3/1388-1389، ورقمه 1768، وأخرجه كذلك الإمام أحمد في مسنده 6/56، والدارمي في سننه 2/238، وغيرهم.

[8] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/1383-1385، ورقمه 1763، وأخرجه الترمذي في سننه من حديث عبدالله بن مسعود، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة 4/213، ورقمه 1714، والبيهقي في سننه، كتاب آداب القاضي، باب مشاورة الوالي والقاضي في الأمر 10/109.

[9] انظر الفقيه والمتفقه 2/390، وأعلام الموقعين 1/62، 4/256، والفتح المبين 1/19.

[10] انظر شرح الطحاوية 427-430، والفتح المبين 1/19.

[11] انظر شرح تنقيح الفصول 446، والإتقان في علوم القرآن 1/58-63، والفتح المبين 1/19.

[12] انظر المغني 4/8، والفتح المبين 1/19.

[13] انظر المغني 12/498، والفتح المبين 1/21.

[14] انظر جامع بيان العلم وفضله 2/12، وأعلام الموقعين 1/203، ومقدمة ابن خلدون 453، وانظر جملة من الآثار التي تدل على احتجاج الصحابة بالقياس في الفقيه والمتفقة 1/490-503، وأعلام الموقعين 1/203-205، وعلم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع 1/97-99.

[15] أخرجه البيهقي في سننه، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي 10/115.

[16] انظر أعلام الموقعين 1/14-22، 63-64.

[17] انظر شرح تنقيح الفصول 446، والخراج لأبي يوسف 29، والمدخل إلى علم أصول الفقه 99، وعلم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع 1/99.

[18] فقد نقل عنه أنه قال : "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فيجلد جلد المفتري". أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر 607، ورقمه 1531.

[19] أخرجه أبو الحسن المدايني في كتاب المغربين من طريق الوليد بن سعيد، انظر فتح الباري، كتاب الحدود، باب نفي أهل المعاصي والمخنثين 12/166، وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 103-104.

[20] انظر جامع بيان العلم وفضله 2/36-40، وأعلام الموقعين 1/33، 73.

[21] انظر مقدمة ابن خلدون 413، والموافقات 4/230، وحجة الله البالغة 1/304، والفكر السامي 1/2/315، وعلم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع 1/122.

[22] انظر أعلام الموقعين 1/61-62، والفكر السامي 1/2/317.

[23] انظر مقدمة ابن خلدون 416.

[24] انظر علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع 1/122-124.

[25] انظر مقدمة ابن خلدون 413، وحجة الله البالغة 1/307-308، والفكر السامي 1/2/315.

[26] انظر المعتمد 2/296، والمستصفى 1/283، والتبصرة 1/493، والإحكام للآمدي 4/58، وكشف الأسرار 4/7-8، وفواتح الرحموت 2/320-321.

[27] انظر الفصول 2/339، وتقويم الأدلة 404، وأصول السرخسي 2/200، وتيسير التحرير 4/78، وكشف الأسرار 4/6-8، والتقرير والتحبير 3/222، وفواتح الرحموت 2/320-321.

[28] انظر مناقب أبي حنيفة 1/75 ،85.

[29] انظر الأصل 3/43، والحجة 3/1، وعلم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع 1/180.

[30] انظرالإحكام لابن حزم 6/192، وقواطع الأدلة 2/268، وبداية المجتهد 2/209، وحاشية الدسوقي 3/479-480، والبحر المحيط 4/386.

[31] انظر الإحكام لابن حزم 6/192، وحاشية الدسوقي 3/479، والموافقات 2/307، 396، 4/209.

[32] انظر الأم 6/203، والتبصرة 492، والمستصفى 1/274، والإحكام للآمدي 4/156، والإبهاج 3/188.

[33] هذا الكتاب تضمن رأي الشافعي في الاستحسان وأدلته على بطلانه، وهو مطبوع ضمن كتاب الأم 7/487-500

[34] انظر الفصول 2/340، وتقويم الأدلة 404، واصول السرخسي 2/199-200، وكشف الأسرار 4/7.

[35] انظر المعتمد 2/163، والعدة 4/1143، وإحكام الفصول 2/34، والبرهان 1/295، ومختصر المنتهى 2/35، وشرح تنقيح الفصول 334، والمستصفى 1/187، والموافقات 3/273، ومقدمة ابن خلدون 414، والمحصول 4/228، والمسودة 331، وفواتح الرحموت 2/232.

[36] انظر كتاب التاريـخ ليحيى بن معين 4/498-501، وكتاب المعرفة والتاريخ للفسوي 1/695-697، وترتيب المدارك 1/64-65.

[37] مقدمة ابن خلدون 414.

[38] انظر الفصول2/150، والبرهان 1/459، وشرح تنقيح الفصول 334، والبحر المحيط 3/533، والعدة 4/1142.

[39] نقل ذلك الزركشي في البحر المحيط، ونسبه إلى كتاب اختلاف الحديث للشافعي، ولم أجده فيه، وإنما وجدت عبارة قريبة من هذه في كتاب الأم 7/281، وجماع العلم 1/149. انظر البحر المحيط 2/528.

[40] انظر البحر المحيط 3/533.

[41] انظر الإحكام لابن حزم 2/222-244، 4/597، والبحر المحيط 3/534، والتقرير والتحبير 3/133.

[42] انظر البرهان 1/295، والتلخيص 3/115، والمستصفى 1/187.

[43] انظر إحكام الفصول 480، واللمع 91، والعدة 4/1143، ومجموع الفتاوى 20/304، وشرح تنقيح الفصول 334.

[44] انظر اللمع 91، والمعتمد 2/34، وقواطع الأدلة 2/24، ومختصر المنتهى 2/35، والواضح 5/184، والتلخيص 3/119.

[45] انظر مجموع الفتاوى 20/308، والواضـح 5/184، والتلخيص 3/119، والإحكام للآمدي 1/243، والبحر المحيط 3/529.

[46] انظر اللمع 91، والعدة 4/1143، وقواطـع الأدلـة 2/24، والمسودة 332، والبحر المحيط 3/529، والتقرير والتحبير 3/133.

[47] انظر البحر المحيط 3/528.

[48] انظر التلخيص 3/117-118.

[49] انظر المسودة 332، والإحكام للآمدي 1/243.

[50] أسبقية التدوين في هذا العلم شرف عظيم تنازعه علماء الإمامية، والحنفية، والمالكية، والشافعية، والذي اختاره أكثر المحققين من علماء هذا الفن وغيرهم : أن الرسالة أول كتاب وصل إلينا مدوناً في علم أصول الفقة على وجه الاستقلال. انظر علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري 1/215-234.

[51] انظر مناقب الإمام الشافعي للفخر الرازي 101، ومقدمة ابن خلدون 420، وضحى الإسلام 2/229، والشافعي لمحمد أبو زهرة 347-350.

[52] حجة الله البالغة 1/311.

[53] مناقب الإمام الشافعي 101-102.

[54] لعل من أشهر الموضوعات التي أثارت حفيظة مخالفيه : رأيه في البيان، والنسخ، ومذهب الصحابي، وتفسيره لرأي الحنفية في الاستحسان بأنه قول بالتشهي والهوى، ويعـد الجصاص من أكثر العلماء الذين انتقدوا آراء الشافعي في الرسالة. انظر- على سبيل المثال- الفصول 2/6-19، 4/223، وعلم أصول الفقه 1/326، 2/871-875، 881-884.

[55] انظر علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع 1/325-326.

[56] انظر المصدر السابق 1/509-524.

[57] مقدمة ابن خلدون 420 .

[58] سورة النساء آية 115.

[59] انظر أحكام القرآن للشافعي 1/40.

[60] انظر كتاب التاريخ ليحيى بن معين 4/498-501، وكتـاب المعرفـة والتاريخ للفسوي 1/695-697، وترتيب المدارك 1/64-65.

[61] انظر إحكام الفصول 483-484، ومجموع الفتاوى 20/304، والبحر المحيط 3/529-531.


[62] انظر الأم 7/281، وجماع العلم 1/49، والعدة 4/1142، والبحر المحيط 2/528.

[63] الفصول 2/150.

[64] انظر فذ هذه المصنفات : الفهـرست لابن النديم 280-307، وعلم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري 2/1295-1304.