قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة (2 / 557 -560):
(وإذا نظر العبدُ إلى غذائه فقط، في مَدْخَله ومستقرِّه ومخرجه، رأى فيه العِبَر والعجائب؛ كيف جُعِلَت له آلةٌ يتناولُه بها، ثم بابٌ يَدْخُل منه، ثمَّ آلةٌ تقطِّعُه صغارًا، ثمَّ طاحونٌ يطحنُه، ثمَّ أُعِينَ بماءٍ يعجنُه، ثمَّ جُعِل له مجرًى وطريقٌ إلى جانب مجرى النَّفَس، ينزلُ هذا ويصعدُ هذا، فلا يلتقيان مع غاية القُرب.
ثمَّ جَعَل له حَوَايَا وطُرقًا تُوصِلُه إلى المعدة، فهي خِزانتُه وَموضعُ اجتماعه، ولها بابان: بابٌ أعلى يدخلُ منه الطَّعام، وبابٌ أسفلُ يخرجُ منهُ ثُفْلُه، والبابُ الأعلى أوسعُ من الأسفل؛ إذ الأعلى مَدْخلٌ للحاصل، والأسفلُ مَصْرِفٌ للضَّارِّ منه، والأسفلُ منطبقٌ دائمًا ليستقرَّ الطعامُ في موضعه، فإذا انتهى الهضمُ فإن ذلك الباب ينفتحُ إلى انقضاء الدَّفع، ويسمَّى البوَّابَ لذلك، والأعلى يسمَّى فمَ المعدة، والطعامُ ينزلُ إلى المعدة مُنْكبِسًا، فإذا استقرَّ فيها انماعَ وذاب.
ويحيطُ بالمعدة مِن داخلها وخارجها حرارةٌ ناريَّة، بل ربما تزيدُ على حرارة النَّار، ينضجُ بها الطعامُ فيها كما ينضجُ الطعامُ في القِدر بالنَّار المحيطة به، ولذلك تذيبُ ما هو مستحجِرٌ كالحصى وغيره، حتى تتركه مائعًا، فإذا أذابتهُ على صَفْوُه إلى فوق، ورَسَا كدرُه إلى أسفل.
ومن المعدة عروقٌ متصلةٌ بسائر البدن يُبْعَثُ فيها معلومُ كلِّ عضوٍ وقِوامُه بحسب استعداده وقبوله، فيُبْعَثُ أشرفُ ما في ذلك وألطفُه وأخفُّه إلى الأرواح؛ فينبعثُ إلى البصر بصرًا وإلى السَّمع سمعًا وإلى الشمِّ شمًّا وإلى كلِّ حاسَّةٍ بحسبها، فهذا ألطفُ ما يتولَّدُ عن الغذاء، ثمَّ ينبعثُ منه إلى الدِّماغ ما يناسبُه في اللَّطافة والاعتدال، ثمَّ ينبعثُ من الباقي إلى الأعضاء في تلك المجاري بحسبها، وينبعثُ منه إلى العظام والشَّعر والأظفار ما يغذِّيها ويحفظُها، فيكونُ الغذاءُ داخلًا إلى المعدة من طُرقٍ ومَجارٍ، وخارجًا منها إلى الأعضاء من طُرقٍ ومَجارٍ؛ هذا واردٌ إليها وهذا صادر عنها؛ حكمة بالغةٌ ونعمةٌ سابغة.
ولما كان الغذاءُ إذا استحال في المعدة استحال دمًا ومِرَّةً سوداءَ ومِرَّةً صفراءَ وبَلْغمًا، اقتضت حكمتُه سبحانه وتعالى أن جَعَل لكلِّ واحدٍ من هذه الأخلاط مَصرِفًا ينصبُّ إليه ويجتمعُ فيه، ولا ينبعثُ إلى الأعضاء الشريفة إلا أكملُه؛ فوضع المَرارةَ مَصَبًّا للمِرَّة الصَّفراء، ووضع الطِّحالَ مقرًّا للمِرَّة السَّوداء، والكبدُ تمتصُّ أشرفَ ما في ذلك، وهو الدَّم، ثمَّ تبعثُه إلى جميع البدن من عِرقٍ واحدٍ ينقسمُ على مجارٍ كثيرة، يوصِلُ إلى كلِّ واحدٍ من الشُّعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكونُ به قِوامُه.
ثمَّ إذا نظرتَ إلى ما فيه من القُوى الباطنة والظَّاهرة المختلفة في أنفسها ومنافعها، رأيتَ العجبَ العُجاب؛ كقوَّة سمعه وبصره، وشمِّه وذوقه ولمسه، وحبِّه وبغضه، ورضاه وغضبه، وغير ذلك من القُوى المتعلقة بالإدراك والإرادة، وكذلك القُوى المتصرِّفة في غذائه؛ كالقوَّة المُنْضِجة له، وكالقوَّة الماسِكة له، والدَّافعة له إلى الأعضاء، والقوَّة الهاضمة له بعد أخذِ الأعضاء حاجتها منه، إلى غير ذلك من عجائب خِلقته الظَّاهرة والباطنة.