اشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة، ذَكَر السيوطيّ منهم الخلفاءَ الأربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا - رضي الله عنهم، إلا أنَّ الرّواية عن الثلاثة الأوَّلين لم تَكُنْ كثيرة؛ لانشِغالِهم بالخِلافة، وقلَّة الحاجة إلى النَّقل في ذلك؛ لكثرة العالمين بالتفسير.
ومن المشتهرين بالتفسير من الصحابة أيضًا: عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عبَّاس، فلنُتَرجم لحياة علي بن أبي طالب مع هذين - رضي الله عنهم.
1- علي بن أبي طالب:
هوابن عم الرسول - صلى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة - رضي الله عنه وعنها، وأوَّل مَن آمن به مِن قرابته، اشتهر بهذا الاسم، وكنيته أبو الحسن، وأبو تراب.
ولد قبل بعثة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشْر سنين، وتربَّي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم، وشهِد معه المشَاهِد كلَّها، وكان صاحب اللِّواء في معظمها، ولم يتخلَّف إلا عن غزوة تبوك، خلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهله، وقال له: ((أمَا تَرضَى أن تكون منِّي بِمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي))[1]، نُقل له من المناقب والفضائل ما لم يُنقَل لغيره، وهَلَك به طائِفتان: النَّواصب الذين نصبوا له العداوة، وحاولوا إخفاء مناقبِه، والرَّوافض الذين بالغوا فيما زعموه من حبِّه، وأحدثوا له من المناقب التي وضعوها ما هو في غنًى عنه؛ بل هو عند التأمّل من المثالب.
اشتهر - رضي الله عنه - بالشَّجاعَة والذَّكاء مع العلم حتَّى إن كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله - عنه ليتعوذ من مُعضِلة ليس لها أبو حسَن، ومِن أمثلة النَّحويين: قضيَّة ولا أبا حسَن لها، وروي عن علي أنه كان يقول: سلوني سلوني، وسلوني عن كتاب الله تعالى؛ فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنَزَلتْ بِليلٍ أو نَهار، وقال ابْنُ عبَّاس - رضي الله عنهما -: "إذا جاءنا الثبت عن عليّ لم نعدل به"، وروي عنه أنَّه قال: "ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"، كان أحدَ أهل الشورى الذي رشحهم عمر - رضي الله عنه - لتعيين الخليفة، فعرضها عليه عبدالرحمن بن عوف فأبى إلا بشروط لم يقبل بعضها، ثم بايع عثمان فبايعه عليٌّ والناس، ثم بويع بالخلافة بعد عثمان حتَّى قُتِلَ شهيدًا في الكوفة ليلة السابع عشر من رمضان، سنة أربعين من الهجرة - رضي الله عنه.
2- عبدالله بن مسعود:
هو عبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي، وأمه أم عبدٍ، كان ينسب إليها أحيانًا[2]، وكان من السابقين الأولين في الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها من المشاهد.
تلقَّى من النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة من القرآن، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوَّل الإسلام: ((إنك لغلام معلَّم))[3]، وقال: ((مَن أحبَّ أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد))[4]، وفي "صحيح البخاري"[5] أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّي من أعلَمِهم بكتاب الله"، وقال: "واللهِ الَّذي لا إله غيرُه ما أُنزِلتْ سورةٌ من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أُنْزِلتْ آيةٌ من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلَمُ أحدًا أعلَمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبلُ لركبتُ إليه"، وكان مِمَّن خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان صاحب نعليه وطهوره ووساده، حتى قال أبو موسى الأشعري: "قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينًا ما نرى إلا أنَّ عبدالله بن مسعود رجلٌ من أهل بيت النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من دخولِه ودخولِ أمِّه على النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم"[6]، ومن أجل ملازمته النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثَّر به وبهديه، حتى قال فيه حذيفة: "ما أعرف أحدًا أقرب هدْيًا وسمتًا ودلاًّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم عبد"[7].
بعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة؛ ليُعَلِّمهم أمورَ دينهم، وبعث عمَّارًا أميرًا، وقال: إنَّهما من النُّجباء من أصحاب مُحمد - صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا بهما، ثم أمَّره عثمان على الكوفة، ثم عزله، وأمَره بالرجوع إلى المدينة، فتوفي فيها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، وهو ابن بضع وسبعين سنة.
3- عبدالله بن عباس:
هو ابْنُ عمّ الرَّسول الله - صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لازم النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه ابن عمّه، وخالتُه ميمونة تَحت النبي - صلى الله عليه وسلم، وضمَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره، وقال: ((اللهم علِّمه الحكمة))، وفي رواية: ((الكتاب))[8]، وقال له حين وضع له وضوءه: ((اللهم فقهْهُ في الدِّين))[9]، فكان بهذا الدعاء المبارك حبرَ الأمة في نشر التفسير والفقه، حيث وفَّقه الله تعالى للحرص على العلم، والجِدّ في طلبه، والصبر على تلقِّيه وبذله، فنال بذلك مكانًا عاليًا، حتَّى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يدعوه إلى مجالسه، ويأخذ بقوله، فقال المهاجرون: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟! فقال لهم: ذاكم فتَى الكهول، له لسان سَؤول، وقلبٌ عقول، ثم دعاهم ذات يوم، فأدخله معهم؛ ليُرِيَهم منه ما رآه، فقال عمر: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمِرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا فتح علينا، وسكت بعضُهم، فقال عمر لابن عبَّاس: أكذلك تقول؟ قال: لا، قال: فما تقول؟ قال: هو أجَلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم، أعلَمَه الله له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، فتح مكة، فذلك علامةُ أجَلِك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "نِعْمَ ترجمانُ القرآن ابنُ عباس، لو أدرك أسناننا ما عاشره منَّا أحد"؛ أي: ما كان نظيرًا له، هذا مع أنَّ ابن عباس عاش بعده ستًّا وثلاثين سنة، فما ظنُّك بِما اكتسب بعده من العلم.وقال ابنُ عمر لسائلٍ سأله عن آية: انطلقْ إلى ابْنِ عبَّاس فاسألْهُ؛ فإنَّه أعلَمُ مَن بقي بِما أُنزل على مُحمَّد - صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء: ما رأيتُ قط أكرم من مجلس ابن عباس فقهًا وأعظم خشيةً، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من وادٍ واسع.


وقال أبو وائل: "خطبَنا ابنُ عباس وهو على الموسم (أي: والٍ على موسم الحج من عثمان - رضي الله عنه) فافتتح سورة النّور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلتُ أقول: ما رأيتُ ولا سمعت كلامَ رجل مثله، ولو سمعَتْه فارس والروم والترك لأسلَمَتْ"، ولاَّه عثمانُ على موسم الحج سنة 35، وولاَّه علي على البصرة، فلما قُتِل مضى إلى الحجاز، فأقام في مكة، ثم خرج منها إلى الطائف، فمات فيها سنة ثمانٍ وستين عن إحدى وسبعين سنة.
المشتهرون بالتفسير من التابعين:
اشتهر بالتفسير من التابعين كثيرون، فمنهم:
أ- أهل مكة: وهم أتباع ابن عباس؛ كمجاهد، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح.
ب- أهل المدينة: وهم أتباع أُبيِّ بن كعب؛ كزيد بن أسلم، وأبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي.
ج- أهل الكوفة: وهم أتباع ابن مسعود؛ كقتادة، وعلقمة، والشعبي. فلنترجم لحياة اثنين من هؤلاء: مجاهد، وقتادة.
1- مجاهد:
هو مجاهد بن جبر المكي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وأخذ تفسيرَ القرآن عن ابن عباس - رضي الله عنهما، روى ابن إسحاق عنه أنه قال: "عرضتُ المصحفَ على ابن عباس ثلاثَ عرضات من فاتِحَتِه إلى خاتِمَته، أوقِفه عندَ كلّ آيةٍ وأسألُه عنها"، وكان سفيان الثوري، يقول: "إذا جاءكَ التفسير عن مجاهد فحسبُكَ به"، واعتمد تفسيرَه الشافعيُّ والبُخاري وكان كثيرًا ما ينقل عنه في "صحيحه"، وقال الذهبي في آخر ترجمته: أجمعت الأمَّة على إمامةِ مُجاهد والاحتجاج به، توفِّي في مكة وهو ساجد سنة أربع ومائة، عن ثلاث وثمانين سنة.
2- قتادة:
هو قتَادَة بن دعامَة السَّدوسي البصري، وُلِدَ أكمَهَ - أي: أعمي - سنة إحدى وستين، وجدَّ في طلب العلم، وكان له حافظة قوية، حتى قال في نفسه: ما قلتُ لمحدث قط: أعِدْ لي، وما سمعَتْ أذناي شيئًا قط إلا وعاه قلبي، وذَكَره الإمامُ أحمد فأطنَب في ذِكره، فجعل ينشر من علمه وفِقْهِه ومعرفته بالاختلاف والتفسير، ووصَفَه بالحفظ والفقه، وقال: قلَّما تَجِد مَن يتقدَّمه، أما المِثل فلعلَّ، وقال: هو أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئًا إلا حفظه، وتوفي في واسط سنة سبع عشرة ومائة، عن ستٍّ وخمسين سنة.
_________________
[1] أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة تبوك، حديث رقم: (4416)، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب. حديث رقم: (6218).
[2] وذلك لأن أباه مات في الجاهلية، وأدركتْ أمُّه الإسلامَ فأسلمتْ.
[3] أخرجه أحمد (1/ 379، 462).
[4] أخرجه ابن ماجه (138).
[5] أخرجه البخاري ص 433 – 434، كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 5000.
[6] أخرجه البخاري، كتاب: فضائل أصحاب النبي، باب: فضل عائشة - رضي الله عنها، حديث رقم: (3763)، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضائل عبدالله بن مسعود وأمه - رضي الله عنهما، حديث رقم: (2460).
[7] أخرجه البخاري، كتاب: فضائل أصحاب النبي، باب: فضل عائشة، حديث رقم: (2762).
[8] أخرجه البخاري، كتاب: فضائل أصحاب النبي، باب: ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما، حديث رقم: (3756).
[9] أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء. حديث رقم: (143).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/3310/#ixzz5hqqqjnlQ