ضوابط الإفتاء في وسائل الإعلام والوسائط الإلكترونية


أ.د. أحمد بن عبد الله الضويحي*


مسألة مهمة تعد من أبرز النوازل الأصولية في هذا العصر، وهي الإفتاء عبر وسائل الإعلام والوسائط الإلكترونية الحديثة، حيث انتشرت هذه الظاهرة بشكل كبير تبعاً للتطور الهائل في مجال الإعلام والاتصال، وسيأتي بيان حكم التقليد من خلال هذه الوسائل والضوابط اللازمة لذلك في المطلب الرابع من هذا المبحث بعون الله تعالى، لكن الذي يعنينا هنا هو بيان أهم الضوابط التي ينبغي على المفتي في وسائل الإعلام والوسائط الإلكترونية مراعاتها، وهذه الضوابط يمكن إيجازها فيما يلي :

1. عدم استشراف الفتوى والتطلع لها طلباً للشهرة والبريق الإعلامي، فإن من المعلوم من فقه الفتوى بالضرورة أن أجرأ الناس عليها أجرؤهم على النار، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدافعون الفتوى، ويحب كل واحد منهم لو أن صاحبه كفاه إياها[1]، وإذا كان هذا هو منهجهم في فتاوى الأفراد، فكيف بالفتاوى العامة التي تصل إلى ملايين المسلمين في أنحاء العالم بواسطة هذه الوسائل فإنها من دون شك أشد خطراً وأعظم ضرراً، ولذا ينبغي على من ابتلي بذلك الاعتدال في هذا الأمر، وعدم المبالغة فيه، والحذر من الانجراف وراء أضواء الإعلام ومغرياته.

2. اختيار الوسيلة الموثوقة المعروفة بالأمانة والدقة في النقل، سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وتظهر قيمة هذا الضابط عند الإفتاء في الصحف، والمجلات، والمنشورات، والمطويات، والبرامج الإذاعية أو التلفزيونية المسجلة، ومواقع الإنترنت، ونحوها، فإن عدم التثبت من الجهة القائمة على الوسيلة، والتساهل في ذلك يعد تفريطاً من قبل المفتي، لاحتمال تحريف الفتوى، والتدليس فيها، بالزيادة، أو النقص، أو الاختصار المخل بالمعنى، أو غير ذلك،وزيادة في التثبت يحسن بالمفتي أن يحتفظ بنسخة أصلية من الفتوى التي ستنشر في هذه الوسائل للرجوع إليها عند الحاجة.

3. أن يعرف المفتي بنفسه[2]، ويكشف للجمهور عن حاله، والهدف الذي يرمي إليه، ليعرف الناس هل هو مجتهد تبرأ الذمة بتقليده؟ أو مجرد طالب علم يبين بعض المسائل الفقهية ولا يفتي بحكم فيها؟ أو ناقل للفتوى؟ فإن الظهور في البرامج الدينية والكلام في الأحكام والحلال والحرام في الوسائل التي تنتشر بين الناس من دون معرفتهم بحال من يتصدى لذلك يورث لديهم لبساً وإشكالاً لا يخفى.

4. التأني والتروي في الجواب، وخصوصاً في برامج الإفتاء المباشرة التي يتواصل فيها المفتي مع المستفتي عبر الهاتف أو من خلال شبكة الإنترنت، فينبغي للمفتي أن يحسن الاستماع للسؤال، ويستفسر من المستفتي عن الجزء الذي لم يفهمه من سؤاله[3]، ويستفصل منه قدر ما يستطيع، وأن يتجنب الإجابة على الأسئلة المجملة والمشكلة والغامضة، وذلك لأن الفتوى عبر هذه الوسائل سريعة الانتشار، والخطأ فيها ليس كالخطأ في فتاوى الأفراد، فإنه يؤدي إلى إيهام ملايين المسلمين في شتى بقاع الارض، ويلبس عليهم دينهم، ويوقعهم في الجهل والضلال، يقول الخطيب البغدادي ت462هـ – في بيانه لشروط من يصلح للفتوى - : "وينبغي أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخا استثبات وترك عجلة"[4]، ويقول ابن الصلاح ت643هـ: -" إذا كان المستفتي بعيد الفهم فينبغي للمفتي أن يكون رفيقاً به، صبوراً عليه، حسن التأني في التفهم منه والتفهيم له، حسن الإقبال عليه، لاسيما إذا كان ضعيف الحال، محتسباً أجر ذلك"[5].

5. أن يكون جوابه مباشراً وواضحاً وصريحاً وخالياً من الإجمال والتعقيد، وذلك لأن هذه الوسائل تصل إلى عامة الناس، وهم ليسوا على درجة واحدة من الفهم والاستيعاب، فينبغي عليه أن يتجنب العبارات المحتملة، والغامضة، وأن يستخدم الألفاظ والأساليب المتعارف عليها بين عموم الناس، والتي يجزم أو يغلب على ظنه أنهم سيفهمونها[6]، وإن تمكن من التثبت من فهم السائل للجواب – كما في البرامج المباشرة- فذلك أحسن وأولى، يقول الخطيب البغدادي ت462هـ :- "ويجب أن يكون جوابه محرراً، وكلامه ملخصاً ... وليتجنب مخاطبة العوام وفتواهم بالتشقيق والتقعير ، والغريب من الكلام، فإنه يقتطع عن الغرض المطلوب، وربما وقع لهم به غير المقصود"[7]، وإن كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل وتقسيم فيجب عليه أن يبين ذلك في الجواب فيقول : إن كان كذا فالحكم فيه كذا، وإن كان كذا فالحكم فيه كذا، فإن هذا أدعى للفهم، وأبعد عن الخطأ[8].

6. التوقف في المسائل التي لم يتيقن من الحكم فيها، وتنبيه الجمهور إلى المسألة التي تحتاج إلى المزيد من البحث والنظر، مع وعدهم ببيان الحكم بعد استيفاء الاجتهاد فيها، أو إخبار السائل في البرامج المباشرة بأن يتواصل مع المفتي بشكل شخصي حتى يبين له الحكم بعد التأمل وإمعان النظر، والتوقف في الجواب إذا خفي وجه الصواب منهج شرعي سلكه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون[9]، يقول الخطيب البغدادي ت462هـ: - "وإذا اشتملت رقعة الاستفتاء على عدة مسائل فهم بعضها أو فهم جميعها وأحب مطالعة رأيه وإمعان النظر في بعضها، أجاب عما لم يكن في نفسه شيء منها، وقال في بعض جوابه : فأما باقي المسائل فلنا فيه مطالعة ونظر، أو زيادة تأمل، فإن لم يفهم شيئاً من السؤال أصلاً، فواسع أن يكتب: ليزد في الشرح لنجيب عنه، وكتب بعض الفقهاء في مثل هذا : يحضر السائل لنخاطبه شفاهاً"[10].

7. مراجعة الفتاوى التي تصدر منه في هذه الوسائل، وخصوصاً ما يصدر منه في البرامج المباشرة، فإن احتمال الخطأ فيها أكثر من غيرها، على اعتبار وجود عنصر المفاجأة في بعض الأسئلة، وقلة الوقت المتاح للتفكر والتأمل في الجواب، مع كثرة المستفتين وتنوع لهجاتهم، وتفاوتهم في إيضاح المقصود والمراد للمفتي، إضافة إلى العوامل الفنية والتقنية التي قد تتسبب في سوء الفهم من قبل السائل أو المفتي، وتبعاً لذلك : فإذا تبين للمفتي أنه أخطأ في الجواب فيجب عليه أن ينبه الناس إلى هذا الخطأ[11]، وأن يبين لهم الصواب في الوسيلة ذاتها، أو في وسيلة أخرى أكثر انتشاراً منها، وذلك لأن زلة العالم مضروب بها الطبل، وقد يضل بسببها خلق كثير.

8. الإحجام عن الجواب عن الأسئلة التي تحتاج إلى حكم حاكم، كقضايا الطلاق، والردة، والتكفير، ونحوها، وإحالة السائل إلى المفتي أو القاضي المخول بالنظر في هذه المسائل، وذلك لأن إلقاء الكلام على عواهنه في مثل هذه المسائل قد يؤدي إلى فتن ومصائب لا يعلم عواقبها إلا الله، فينبغي للمفتي في وسائل الإعلام التفطن لمثل ذلك.

9. الحذر من الخوض في تفاصيل المسائل الكلامية، وتنبيه المستفتي وسائر العامة إلى عدم الخوض في ذلك، والاكتفاء ببيان الحكم في هذه المسائل بشكل مجمل، إلا إذا كانت المصلحة في التفصيل راجحة على المفسدة فيجوز له أن يفصل، لأن هذا هو منهج السلف في هذه المسائل[12].

10. عدم التسرع في أحكام النوازل والقضايا الشائكة التي تتطلب نظراً جماعياً وخصوصاً تلك التي لا تزال قيد البحث والدراسة من قبل المجامع الفقهية ومؤسسات الاجتهاد الجماعي، وذلك لأن التساهل في مثل هذا يورث الإشكال ويلبس على الناس دينهم.

11. مراعاة المصالح والمفاسد ودرء أبواب الشر والفتنة عند الجواب على أسئلة العامة المتعلقة بالأعراض، والدماء، والحكم، والسياسة، وغيرها من المسائل الخطيرة التي قد تكون الفتاوى العامة فيها عبر هذه الوسائل سبباً في الفتن والمصائب، وإذا ابتلي المفتي بشيء من ذلك فيجب عليه أن يحرر الكلام فيه ويفصله ويقسمه، حتى يكون الحكم الشرعي واضحاً جلياً لا إشكال فيه ولا خفاء[13].

12. تنبيه الجمهور إلى الفتاوى الخاصة بقضايا الأعيان، والفتاوى المتعلقة بحال معينة حال صدورها، وذلك حتى لا يفهم الناس أن حكمها عام فيعمل بها من لا تناسبه.

*أستاذ علم أصول الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

الهوامش والمراجع





[1] انظر الفقيه والمتفقـه 2/349، وآداب الفتوى 7-15، وأعلام الموقعين 1/33-35، 2/184-187، وصفة الفتوى 7-11، 105، وفتاوى ابن الصلاح 1/9-20.




[2] خصوصاً إذا لم تتول الوسيلة الإعلامية التعريف به.




[3] انظر آداب الفتوى 47.




[4] الفقيه والمتفقه 2/333.




[5] فتاوى ابن الصلاح 1/73.




[6] انظر أعلام الموقعين 4/177 – 179، وفتاوى ابن الصلاح 1/72، وآداب الفتوى 48.




[7] الفقيه والمتفقه 2/399-400.




[8] المصدر السابق 2/399، وأعلام الموقعين 4/187، وفتاوى ابن الصلاح 1/72، 77.




[9] انظر الفقيه والمتفقه 2/360، وفتاوى ابن الصلاح 1/81، وآداب الفتوى 47، 63.




[10] الفقيه والمتفقه 2/395.




[11] انظر الفقيه والمتفقه 2/423-426، والبحر المحيط 4/584، وأعلام الموقعين 4/222-225، والمسودة 543.




[12] انظر الفقيه والمتفقه 2/401-402 ، وفتاوى ابن الصلاح 1/83-85، وآداب الفتوى 66-69، وصفة الفتوى 44-50.




[13] انظر آداب الفتوى 52-53.