"لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"
أحمد عباس
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا.. هذا التحذير الرباني الخطير للصف المؤمن المتلقي لوحي الله تعالى، إنه تحذير يمتد مداه إلى عمق النفس البشرية، تحذير يؤكد على عدم جواز الدخول في هذه المنطقة المحظورة في التعامل مع الناس وسرائرهم وظاهرهم وفق المعايير الدنيوية المرتبطة بالمواقف السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية لأنها معايير لا تمنح أحدا صكا بالحكم على تدين الناس وإيمانهم.
إن هذا التحذير في حقيقته يشدد على ضرورة أن تقف النفوس المسلمة عند حدود لا تتخطاها في التعامل مع بقية الناس، فالتفتيش عن نوايا الآخرين والحكم على درجة إيمان البعض وامتلاك صلاحية إصدار القرار بشأن تدين البعض، يعتبر من المخاطر التي لا تدمر سوى صاحبها.
إن الإسلام كرسالة أخيرة من الله تعالى إلى البشر جاء لتطهر القلوب وتتسامى عن مرض من أخطر الأمراض الإنسانية وهو مرض احتكار الحكم على الناس، فقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان أهل الكتاب يتعاملون بمنطق امتلاك الحقيقة وامتلاك التدين وامتلاك القدرة على إصدار الأحاكم على الناس فهذا متدين وهذا غير متدين وهذا يميل إلى الخطاب الديني وهذا لا يميل إلى الخطاب الديني وهذا مؤمن وهذا غير مؤمن.
الخطورة الحقيقية في امتلاك القدرة على محاكمة دين الناس هي أن امتلاك هذه القدرة يجعل البشر يبعدون تدريجيا عن مصدر الإيمان الحقيقي ويكتفون بالأمور الظاهرية لتكون جسوراً تعبر بهم فوق الهوة المتمثلة في امتلاك مقصلة الحكم على درجة الإيمان والتدين لكل من سولت له نفسه أن يقول لغيره "لست مؤمنا".
إن الإسلام جاء ليعلم البشر أن كل من قال "لا إله إلا الله محمد رسول الله" قد دخل في دائرة هذا الدين وأصبح من أبناء هذه الأمة، ولم يعد يحق لكائن من كان أن يتطاول على درجة تدينه وإيمانه وأن يعتبر أن ميله لخطاب سياسي أو اجتماعي أو توعوي دون خطاب آخر بمثابة مسوغا للحكم على هذا التدين وذلك الإيمان.
هو تحذير لكل مسلم ومسلمة من ادعاء القدرة على التعامل مع الناس من منطلق حيازة صلاحية الحكم على الإيمان والتدين بهدف تزكية تأويل سياسي أو عسكري أو اجتماعي أوفكري ، الآية القرآنية الكريمة تمنع على النفوس المسلمة أن تصدر حكمها على شخص معين بأنه ليس مؤمنا أو ليس متدينا، فالقرآن الكريم نفسه هو الذي نهى عن تزكية الناس فقال عز وجل "فلا تزكوا أنفسكم"، ومن البديهي أن تزكية النفس لا تكون فقط من خلال ذكر محاسنها وصفاتها ودرجة تدينها وإيمانها، وإنما تزكية النفس تكون في الأساس من خلال الطعن في دين الآخرين وإيمانهم ووسمهم بأنهم أعداء خطاب معين يطرح كلاما معينا ورؤية محددة لا تملك في حد ذاتها أية قدراسة لأنها في النهاية رؤية بشرية وتفسيرا بشريا لبعض الثوابت الكلية في الدين.
وأكدت الآية القرآنية الكريمة أن اتهام شخص ما بانه ليس مؤمنا رغم أنه ألقى السلام إلى الجماعة المؤمنة، هذا الاتهام لابد وحتما ستصاحبه أو تعقبه أو تدفعه إرادة عرض الحياة الدنيا، وذلك مهما ادعى صاحب هذا الطعن في تدين الآخرين أنه لا يبتغي الدنيا وإنما يريد الآخرة، بل هو يريد إعطاء اختياره او اختيار من يزكيهم في المجالات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الواقعية، درجة من السمو والتفضل والأفضلية غير المستحقة، وذلك استناداً إلى ادعاء أن من زكاهم هؤلاء هم الأكثر تقوى وأن من يقفون وراءهم هم الأكثر تدينا، لأنه لو كان ذلك الإنسان فعلا وصدقا يريد الآخرة لما كان تركيزه - في نقد المخالفين له في أمور الدنيا - على الطعن في تدينهم وإيمانهم ووسمهم بانهم الأقل تدينا والأضعف إيمانا وأبعد عن رضا الله، فهو لم يملك صكا يؤكد له أنه بممارسة من يزكيهم على الله لأمورا ظاهرية أو ميلهم لخطاب بشري معين قد أصبحوا هم الأكثر تدينا وإيمانا، بل الحقيقة أن الله تعالى هو الذي يعلم من اتقى وهو الذي سيفصل بين عباده وهو الذي يكشف في الدنيا حقيقة من اتبع الهوى ومن أراد الإصلاح الحقيقي في الأرض.
"لست مؤمنا" هذه العبارة قد تتكرر في صور كثيرة وأشكال متنوعة، هذه العبارة قد تكون في صورة "لست متمسكا بالدين" أو "لست على المنهج الديني" أو "لست محبا للخطاب الذي يتبناه فلان أو علان"، كلها اتهامات لا يملك أصحابها توجييهها لمسلم على وجه الكرة الأرضية، فالكل مسملون والجميع لديهم درجة من الإيمان لا يعلمها إلا الله، ولا يحق لأحد عند مناقشة أمور دنيوية تتفاوت فيها الآراء وتختلف فيها وجهات النظر وتتنازع فيها التأويلات للقواعد الشرعية الكلية، لا يحق لأحد في هذا المضمار أن يدعي لآخرين، ممن يحبهم ويميل إليهم ويتوافق معهم، تدينا أعلى أو إيمانا أكبر.