"لأتمم مكارم الأخلاق"



أحمد عباس



جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكي يتمم مكارم الأخلاق، وكثير من الناس يفهمون هذا المعنى على غير الوجه الذي يراد به، فهل معنى أنه جاء عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق أنه يقوم بتذكير الناس بالأخلاق الكريمة ويوصيهم بالخصال الطيبة ويحثهم على السلوكيات الرشيدة والأخلاق السامية فقط؟

الحقيقة أن معنى الحديث المباشر يؤكد أن هناك أخلاق وأن هناك مكارم للأخلاق موجودة بالفعل حتى قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، وأن الأخلاق الحسنة مرتبط بفطرة الإنسان السوي يولد بها وتكون موجودة في أصل كيانه، فالإنسان السوي يميل إلى حب الخير ويميل إلى الصدق والوفاء والأمانة وحسن العهد، والإنسان السوي الذي لم تتلوث فطرته ولم يمرض قلبه يكون محباً للشجاعة والإخلاص والتضحية والإحسان إلى الناس والتزام كل الأخلاق الفاصلة الكريمة.

ما معنى الحديث إذن؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح أن الهدف الأساسي والرئيسي من بعثته هو أن يتمم مكارم الأخلاق الموجودة أصلا، ولكن يتممها بأي شيء؟ الحقيقة أن هذه الأخلاق الكريمة يمكن أن يتبناها إنسان ويرفضها إنسان، هذه الأخلاق الكريمة التي يمكن أن يتحدث عنها إنسان ولا يطبقها في واقع حياته العملي رغم كثرة حديثه عنها وتشدقه بها، يمكن أن يطبقها إنسان آخر ويكون فعله مصدقا لحديثه عنها.

والذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن يكون الإنسان الصادق في حسن خلقه الذي يتمتع بالفعل بالأخلاق الكريمة قولاً وفعلا وواقعا يشهد به سلوكه، يكون هذا الإنسان متصلا بغاية أسمى من مجرد كونه إنسانا على خلق، فالإسلام إذن يريد أن يستكمل الإنسان صاحب الأخلاق الكريمة رحلة سموه الإنساني بإيصاله إلى الغاية السامقة التي تستحق أن تكون هذه الأخلاق الطيبة والسلوكيات الفاضلة والتصرفات النبيلة مبذولة من أجلها وباسمها، وهذه الغاية هي إرضاء الله تعالى وتوحيده بالعبادة والرجاء في جنته والخشية من عذابه وعقابه.

وبناء على ذلك لا يكون الإسلام حاثًا فقط على حسن الأخلاق والتزام الأخلاق الكريمة وإنما الرسالة الحقيقية للإسلام تكمن في الوصول بهذه الأخلاق الكريمة التي يتحلى بها إنسان معين إلى أن تكون أخلاقا كريمة تامة مستكملة بالاحتساب عند رب الأرض والسماء، فالإسلام كدين جاء ليرتقي بالبشر والبشر بطبيعتهم من بينهم من يمارس الأخلاق الكريمة ومنهم من يرفض هذه الأخلاق الكريمة ويميل إلى الأخلاق السيئة، من البشر من يتحدث عن خلق الصدق رغم أنه في واقع حياته يكذب طوال الوقت، ومن البشر من يتشدق بالحديث عن الأمانة رغم أنه لا يتوقف عن الخيانة ويبرر لنفسه هذه الخيانة بمبررات تقنعه وتريحه، ومن البشر من يتحدث عن كل الفضائل والأخلاق الحسنة وهو لا يطبقها في واقع حياته العملي، ومن البشر من ييفكر في التزام حسن الخلق في سلوكه قبل أن يتحدث عنه بلسانه، ومن البشر من يحرص على أن يكون صادقا مع كل الناس طيبا في حركاته وسكناته معطاء كريما محبا للخير، قبل أن يتكلم كثيرا ويطنطن حول هذه الأخلاق الحسنة ويدع الناس هم الذين يحكمون عليه من واقع حياته.

هؤلاء البشر المتفاوتون في تعاملهم مع الأخلاق الكريمة جاءهم الإسلام ليقول لهم إن صاحب الخلق الكريم في واقع حياته الذي تتطابق أفعاله مع كلماته، هذا الإنسان عليه ألا يكتفي فقط بمكارم الأخلاق ولا يتوقف فقط عند كونه إنسانا طيبا صاحب صفات راقية، بل إن عليه أن يتذكر أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت له بالتحديد لكي يرتقي بمكارم أخلاقه إلى مرحلة التمام والاكتمال وهي مرحلة احتساب هذه الأخلاق الحسنة الجميلة كأعمال صالحات يرضى بها الله تعالى عنه ويدخله بها فسيح جناته في يوم الحساب.

ولذلك تتضح الحقيقة المتمثلة في أن الإسلام هو الدين الذي جاء ليربط الطيبين أصحاب القلوب الرحيمة والصفات الراقية والأخلاق الكريمة بالآخرة، جاء لينقذ هؤلاء البشر أصحاب الطيبة في القلب والحب الصادق للخير الصادقون في أقوالهم وأفعالهم، جاء الإسلام لينقذهم من أن تضيع حياتهم سدى وأن تكون أعمالهم الطيبة مجرد هباء منثور ولا ثمرة حقيقية له، جاء الإسلام لينتشل هؤلاء الطيبين أصحاب الأخلاق الكريمة من إحساس الضياع والحزن والألم بالأمل في حياة أخرى حياة يكون فيها فصل الحساب والجزاء المستحق، وقال صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، أي أنه بعث ليصل بأخلاق البشر الكريمة إلى غاية التمام وهي رضا الله تعالى وطاعته ورجاء ثوابه والخوف من عقابه.