الأندلسيون والمغاربة في طرابلس الشام
الدكتور عمر عبد السلام تدمري
الجامعة اللبنانية ـ طرابلس
العلائق الثقافية
تعود العلائق الأندلسية ـ المغربية بطرابلس الشام إلى أكثر من ألف سنة خَلَتْ، وبالتقريب إلى مائة عام وألف من الآن، أي إلى عهد الحكم الإخشيدي (330 ـ 358 هـ/ 941 ـ 969 م)، وتنوعت تلك العلاقات ما بين ثقافية وسياسية وعسكرية وتجارية وعمرانية. وكانت بداياتها في رحلات طلبة العلم من الأندلسيين إلى المغرب الإسلامي لسماع الحديث على كبار المحدثين والحُفّاظ والمسندين.
وكانت طرابلس الشام منذ القرن الثاني الهجري (8 م) قد أصبحت حاضرة مهمة من حواضر العالم الإسلامي، فأخرجت جماعة موفورة من كبار المحدثين والرواة الإخباريين، يأتي في مقدمتهم أبو مطيع معاوية بن يحيى الأطرابُلُسي([1]) المتوفى بحدود 170 هـ/ 785 م.
ويُعتبر خيْثَمَة بن سليمان القُرشي الأطرابُلُسي([2]) المولود سنة 250 هـ/ 862م. أشهر من أخرجته طرابلس من رجال الحديث، حيث كان حافظاً، ثقةً، مكثراً في الرواية، عُرف في عصره بأنه مُسند الشام، اشتهر حديثه في بلاد الشام، والعراق، وفارس، وعمت شهرته الآفاق، حدَّث في الجامع الأموي بدمشق، وعاد إلى طرابلس، فكان كبير محدثيها، وقصده الطلبة والشيوخ من أقطار الدنيا، فسمعوا منه، وأخذوا إجازته في رواية الحديث، وعُمّر أكثر من 90 عاماً، فكان من بين طلبته الكُثُر طلبة قدموا من الأندلس، ونزلوا طرابلس وارتادوا مجلسه في مسجدها الجامع، وشاركوا في حركتها الثقافية، وكان منهم :
® محمد بن عبد الله بن عبد البر التُجيبي الأندلس القرطبي([3])، وهو يُنسَب إلى كُشكينان من قرى قرطبة، ورحل إلى المشرق مرتين. وعندما عاد من رحلته الأولى، كانت له الوجاهة عند الخاصة والعامة في الأندلس، مع العلم والزُهد، وسمع منه الناس كثيراً، وحج في رحلته الثانية، وجاء إلى طرابلس فأقام بها إلى أن توفي سنة 341 هـ.
®وأبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلف الأندلسي([4]) من أهل أستجة بالأندلس، رحل إلى طرابلس فحضر مجلس خيثمة وسمع منه، ثم انتقل إلى بغداد ومكة وأصبهان ونيسابور ومرو، وطوف البلاد إلى أن توفي في بخاري سنة 348 هـ.
®وأبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر الأموي الأندلسي([5]) من أهل قرطبة، نزل طرابلس الشام وأقام بها مدة حتى أكثر من السماع على خيثمة، ثم رحل إلى الكوفة وأصبهان ومَرو، وصحب عميد الدولة صاحب مدينة بَلْخ فكسب معه مالاً عظيماً، وانتهى به المطاف في بخاري حيث توفي هناك سنة 365 هـ.
®وأبو جعفر أحمد بن عون الله بن جدير بن يحيى القرطبي الأندلسي([6])، وِلد سنة 300 هـ. وسمع الحديث ببلده قرطبة، ثم رحل إلى مصر والشام والحجاز، وقصد طرابلس فسمع من خيثمة، وبلغ شيوخُه الذين روى نهم اثنين وسبعين رجلاً وامرأتين. وعاد إلى قرطبة فكان يحدث بمسجدها بسنده عن خيثمة الأطرابلسي وغيره، إلى أن توفي سنة 378 هـ.
®وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج الأموي القرطبي([7]) المحدّث الحافظ القاضي المصنف الفقيه. صنف في فقه الحديث، وفقه التابعين. ولد سنة 315 هـ. وكان يسكن بقرب عين قنت أورية من قرطبة. قام برحلة واسعة لسماع الحديث، فارتاد مصر، وسمع بالإسكندرية والقُلزم والفَرما وغزّة وفيساريّة وعسقلان والرملة وطبرية وصور وصيدا وبيروت، وسمع على خيثمة بطرابلس، ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى جدة ومكة والمدينة، وبلغ شيوخه 230 شيخاً، وعاد إلى بلده سنة 345 هـ. واتّصل بالحَكَم المستنصر، وصارت له مكانة عنده، واستقضاه على أستجة، ثم على المَرِيّة، وصنف "فقه الحسن البصْري" في 7 مجلدات، و"فقه الزُهْريّ" في أجزاء كثيرة، وكان من أوثق المحدثين بالأندلس، وأبصرهم بالرجال، وأصحهم كتباً. توفي سنة 380 هـ.
®وأبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد القحطاني المعافري([8]) أحد فقهاء المالكية بالأندلس. طوف في رحلته إلى المشرق طلباً لسماع الحديث بين مصر والحجاز والشام والجزيرة وأصبهان ونيسابور، ووصل إلى مَرُو وبُخارى، وتوفي هناك. وقد نزل أثناء رحلته بطرابلس وحضر مجلس خيثمة وسمع منه. وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته.
®وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حَصْن الغافقي الأندلسي([9])، رحل إلى المشرق، وسمع بديار مصر والشام والعراق والجبال وطبرستان، ونزل أثناء رحلته بطرابلس، وأخذ الحديث عن اثنين من محدثيها، هما : عمر بن داود بن سلمون([10]) (توفي سنة 390 وقيل 395 هـ)، والحسين بن عبد الله بن محمد المعروف بـ"ابن أبي كامل الأطرابلسي"([11]) ابن أخت خيثمة (توفي سنة 414 هـ). وبعد انتهاء رحلته، عاد إلى دمشق وولى الحسبة فيها سنة 375 هـ وبقي حتى توفي سنة 404 هـ.
* * * *
وفي مقابل الأندلسيين الذين قاموا إلى طرابلس الشام وأخذوا على شيوخها، فقد رحل من طرابلس إلى الأندلس ونزل عاصمتها قرطبة واستوطنها الشيخ عبد الرحمن بن حاتم التميمي في أوائل القرن الرابع الهجري، فكان من عقبه هناك ابنه محمد المعروف بـ"ابن الطرابلس"([12]) وكان محدثاً، توفي بمرسية سنة 417 هـ.
®وحفيده أبو القاسم حاتم بن محمد بن عبد الرحمن بن حاتم الطرابلسي، الأندلسي([13]) كبير محدثي قرطبة والأندلس على الإطلاق. كتب جده تاريخ ولادته في النصف من شعبان سنة 378 هـ. ورحل إلى المشرق سنة 402 هـ. فأخذ على شيوخ عصره في القيروان ومكة، ولم يأخذ في ديار مصر عن أحد، وعاد إلى القيروان سنة 404 هـ. ومكث مدة يقابل كتبه، وينسخ سماعاته من أمالي شيوخه وأصولهم، وجالس كبار العلماء، وانصرف إلى بلده وقد جمع علماً كثيراً، وسكن طليطلة مدة فأخذ عنه الكبار والصغار لطول عمُره، ودُعي ليتولى القضاء بقرطبة فأبى، وكان في عداد المشاورين بها، وطبقت شهرته بلاد الأندلس كلها وبلاد المغرب، فكان الطلبة والشيوخ يتقاطرون بالعشرات لسماعه والأخذ عنه، وكان عالماً بالقراءات والنحو واللغة والتفسير والحديث والفقه وعلم الرجال والجرح والتعديل وغريب الحديث والمغازي وغيره، فكان شيخ الأندلس، وعالمها ومسندها، حتى توفي سنة 469 هـ.
* * * *
وقبل أن أختم موضوع العلائق الثقافية بين الأندلسيين وطرابلس الشام، لابد من التنويه بواجد من مشاهير نظار دار العلم بطرابلس، من أهل الأندلس، هو أبو عبد الله أحمد بن محمد الطليطُلي([14]) الذي يُعتقد أنه غادر طُليطلة بعد سقوطها في أيدي القشتاليين([15]) سنة 478 هـ/ 1085 م. فنزل طرابلس الشام في عهد أميرها جلال المُلك ابن عمار([16])، ثم أصبح ناظراً على دار العلم في عهد فخر الملك ابن عمار([17])، وبقي في منصبه حتى سقطت طرابلس بين الفرنج الصليبيين سنة 502 هـ/ 1109 م. فأحرقوا دار العلم ومكتبتها الذائعة الصيت ذات الثلاثة ملايين مخطوط([18])، وأخذوا الطُليطُلي أسيراً. ونظراً لمكانته وفضله وعلمه، فقد دفع أمير شَيْرز وأخوه مبلغاً من المال للفرنج وافتدياه، واستضافه أمير شيرز عنده ليكون أستاذاً لابنه الأمير أسامة بن منقذ؛ فأقام عندهم عشر سنين يعلمه النحو. وكان من تلامذته الأمير سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ([19])، وهو من مواليد طرابلس سنة 464 هـ/ 1072 م. وقد درس عليه قبل أن يصبح ناظراً على دار العلم؛ كما قصد طرابلس الشاعر الدمشقي المعروف بـ"ابن الخياط"، فالتحق بدار العلم، وغشي حلقة الدرس التي كان يعقدها الطُليطُلي. فكان الطُليطُلي أستاذاً صارماً يعنِّف الطلاب الذين لا يحفظون ما يمليه عليهم من دروس، وكان ابن الخياط من بينهم. وقد نقل المؤرخ الذهبي عن الطُليطُلي قوله :
وكان ابن الخياط أول ما دخل طرابلس وهو شاب، يغشاني في حلقتي وينشدني ما أستكثره له، فأتهمه، لأني كنت إذا سألته عن شيء من الأدب لا يقوم به، فوبخته يوماً على قطعة عملها، وقلت : أنت لا تقوم بنحو ولا لغة، فمن أين لك هذا االشعر؟
فقام إلى زاوية ففكر، ثم قال : اسمع :
وفاضلٍ قال إذ أنْشدْتُهُ نُخَباً
لا شيء عندَكَ مما يسْتَعينُ به
فلاَ عروضٌ ولا نحْوٌ ولا لُغَةٌ
فقلْتُ قول امرئٍ صحَّت قريحَتُهُ :
ذوْقِي عروضِي، ولفْظِي جُلُّهُ لُغَتِي،
من بعض شعْري، وشعْرِي كلُّهُ نُخَبُ
من شأْنُهُ النَظْمُ والخُطَبُ
قل لي، فمن أين هذا الفضل والأدب
إن القريحة عِلْمٌ لَيْسَ يُكْتَسَبُ
والنحوُ طبْعي، فهل يعتاقني سبب؟
فقال أبو عبد الله الطُليطُلي : حسبُك الله، والله لا استعظمتُ لك بعدها عظيماً. ولزمه بعد ذلك، فأفاد ابن الخياط من الأدب ما استقل به([20]).
وكان الطُليطُلي من الحفَظَة المُكثرين، ويتمتع بملكة نادرة وذاكرة قروية في حفظ نصوص الكتب والمتون. وقد أشار الأمير أسامة بن منقذ إلى ذلك في كتابه "الاعتبار" عندما اختبره في قوة حفظه فقال ما نصه :
الشيخ العالم، أبو عبد الله الطُليطُلي، النحوي، رحمه الله. وكان في النحو سيبويه زمانه. قرأت عليه النحو نحواً من عشر سنين وكان متولي دار العلم بطرابلس، وشاهدت من الشيخ أبي عبد الله عجباً. دخلت عليه يوماً لأقرأ عليه، فوجدت بين يديه كتب النحو، "كتاب" سيبويه، وكتاب "الخصائص" لابن جني، وكتاب "الإيضاح" لأبي علي الفارسي، وكتاب "اللُّمع"، وكتاب "الجمل". فقلت : يا شيخ أبا عبدا لله ! قرأت هذه الكتب كلها؟! قال: قرأتها! لا والله إلا كتبتها في اللوح وحفظتها. تريد تدري؟ خذ جزءاً وافتحه واقرأ من أول الصفحة سطراً واحداً، فأخذت جزءاً وفتحته وقرأت منه سطراً، فقرأ الصفحة بأجمعها حفْظاً حتى أتى على تلك الأجزاء جميعها. فرأيت منه أمراً عظيماً ما هو في طاقة البشر([21]).
وممن قرأ على الطُليطُلي وهو في شيْزر الأديب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن منيرة الكفرطابي([22]) المتوفى سنة 553 هـ. وعبد القاهر بن عبد الله المعروف بالوأواء الحلبي([23]) المتوفى سنة 551 هـ.
وبقي الطُليطُلي مقيماً في شيْزَر حتى عُرف بنزيلها، إلى أن توفي حول سنة 512هـ/ 1019 م.
وتذكر المصادر التاريخية أن مناظرة فقهية قد جرت في مجلس فخر المُلْك ابن عمار بين ابن أبي روْح([24]) قاضي الإمامية وناظر دار العلم، وبين بعض الفقهاء المالكية([25])، وهو ما يؤيد وجود جماعة من الأندلسيين أو المغاربة في طرابلس.
العلائق السياسية
وفي مجال العلائق السياسية، احتل المغاربة المرتبة الأولى بحضورهم، إلى جانب الحضور الديني والعسكري، وذلك في العصر الفاطمي. إذ منذ أن بسط الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام بعد سنة 360 هـ، أخذوا يولّون القُضاة والوُلاة والقادة على المدن الرئيسة والولايات، وبشكل خاص في طرابلس، لأنها كانت قاعدة أمامية متقدمة على ساحل الشام في مواجهة الدولة البيزنطية التي كانت تهدد الأطراف الشمالية في بلاد الشام. ولذا أضحت طرابلس قاعدة أساسية للدعوة الفاطمية الإسماعيلية من الناحية الدينية، ومركزاً مهماً للأسطول البحري والقوات البرية من الناحية العسكرية، فضلاً عن اتخاذها عاصمة لولاية إدارية متَّسعة الأرجاء تمتد حدودها من نواحي نهر الكلب جنوباً، حتى مدينة اللاذقية شمالاً.
ونظراً لهذه الأهمية، فقد حرص الفاطميون على أن يكون زمام الأمور في طرابلس بيد المغاربة، وهم الذين قامت الدولة الفاطمية على أكتافهم؛ ولذا أعْطيت الولاية وقيادة العسكر للقائد نزّال الغوري الكُتامي، وهو من قبيلة كُتامة المغربية البربرية، ومن صناديد المغاربة، ووُضع تحت إمرته ستة آلاف رجل من عسكر طرابلس([26])، ثم ابنه المظهر محمد بن نزّال([27])، والقائد جيش بن الصمصامة([28])، والقائد أبو سعادة المغربي([29])، والوالي علي بن جعفر بن فلاح الكُتامي([30])، ومختار الدولة ابن نزّال([31]).
وحين كلّف الخليفة المعزُّ لدين الله الفاطمي والي طرابلس ريان الخادم بإخراج القائد الفاطمي أبا محمود وابن أخته مقدم العسكر ابن الصمصامة من دمشق، خرج الاثنان في جماعة يسيرة من الجند، وبقي القسم الأكبر مع ريان، فأتى بهم وبمن كان خرج معه من عسكر المغاربة إلى طرابلس للدفاع عنها في وجه الإمبراطور البيزنطي باسيل([32]). وقبل أن تصل حملة الإمبراطور إلى المدينة، اصطدمت قواته بنحو ألفين من العسكر المغاربة كانوا يرابطون عند وجه الحجر، وقد سماهم الإمبراطور بـ"الإفريقيين"([33]).
ولما استولى بنو أبي الفتح على طرابلس، جاءهم الأمير حيدرة بن مُنْزو الكُتامين وتمكن من القضاء على حركتهم بمساعدة ابن قبيلته أيضاً أمين الدولة ابن عمار([34])، وتزوج جلال المُلْك ابن عمار صاحب طرابلس ابنة الأمير حيدرة بن مَنْزر([35])، كما التجأ مُعلَّى الكُتامي وهو ابن حيدرة إلى طرابلس ليحتمي بصهره خوفاً من الخليفة الفاطمي([36]).
وبلغ الحضور المغربي أوجه بإعطاء منصب القضاء للشيوخ من بني عمار الكُتاميين، اعتباراً من أوائل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وهم يُنْسَبون إلى أبي محمد حسن الملقب بأمين الدولة، شيخ كُتامة ووزير مصر([37])، وقد قتله الحاكم بأمر الله سنة 390 هـ. ومنهم أبو الحسن عمَّار الملقب بـ"خطير الملك رئيس الرؤساء"، وقد وقع عن الحاكم بأمر الله، وبايع الخليفة الظاهر في سنة 411 هـ وعزل وقُتِلَ سنة 412 هـ([38]).
وممن كان بطرابلس من هذه الأسرة: أبو الكتائب أحمد([39]) الذي ألف له الكراجكي([40])، وأبو طالب عبد الله الملقب بـ"أمين الدولة"، وهو مؤسس إمارة طرابلس شبه المستقلة عن الدولة الفاطمية، بعيد سنة 457 هـ؛ وتوفي سنة 464 هـ([41]). وأبو طالب محمد المعروف بالرئيس وكان موجوداً سنة 420 هـ([42]). وأبو علي الحسن وهو قرأ على المؤرخ الخطيب البغدادي بجامع صور سنة 459 هـ([43])، وأبو الحسن علي الملقب بـ"جلال الملك" الذي حكم طرابلس 28 عاماً (464 هـ ـ 492 هـ) وجدد بناء "دار العلم"([44])، وأخوه أبو علي عمار الملقب بـ"فخر الملك" الذي حكم نحو عشر سنين (492 ـ 501 هـ) قبل أن تخرج طرابلس من يده([45])، وابن عمه أبو الفرج محمد الملقب بـ"شمس الملك ذي المناقب"، الذي حكم لفترة قصيرة من سنة 501 هـ([46])، وغيره. وفيهم يقول المقريزي:
وكانت الدولة قد حولت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية. فلما جاءت الشدائد، تغلبوا عليه. ثم جاءت الدولة الجيوشية فخافوا مما قدموه، فلم يرموا أيديهم في يدها، ولا وثقوا بما بذل لهم من الصفح على ولاتهم... ([47]).
ولبني عمار الكتاميين تاريخ حافل بطرابلس لا مجال للإحاطة به في هذا البحث. فهو يحتاج مجلداً ضخماً؛ فقد كان دورهم متعدد الأوجه: سياسياً، وثقافياً، وعمرانياً، وعسكرياً، واقتصادياً، طوال نصف قرن تقريباً.
وفي أيامهم كانت السفن التجارية تأتي من بلاد الأندلس والمغرب، كم كان للخليفة الفاطمي سفن تسافر من طرابلس إلى المغرب للتجارة([48]).
ومن غير المعروف إن كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أو المغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502 ـ 688 هـ/ 1109 ـ 1289 م. أما بنو عمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أرسل الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعاً إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل أن يعود إلى مصر في سنة 516 هـ/ 1123 م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله([49]).
في عصر الحروب الصليبية
رزحت طرابلس تحت الاحتلال الفرنجي أكثر من 180 عام. وكان من الطبيعي أن ينقطع كل ذكر للوجود الأندلسي ـ المغربي فيها، فلم يصلنا عن تلك المدة بطولها، وفي كل المصادر على كثرتها، سوى إشارة واحدة إلى استعانة الفرنج بمحاربين من الأندلس أتوا بهم بحراً للمشاركة في قتال المسلمين وحصار دمشق سنة 543 هـ/ 148 م. إذ يقول أبو الحكم الأندلسي ـ وهو مقيم بدمشق ـ من قصيدة له:
أتَانَا مائَتَا ألْفٍ
فبعضُهَم من أنْدَلُس
ومن عكا ومِنْ صور
إذَا أبْصرتَهُم أبصر
عَدَداً أو يزيدونَا
وبعضهم من فلسطينَا
ومن صيْدَا وتبنِينا
ت أقْواماً مجانينا([50])
ومن غير المعروف إن كانت طرابلس استقبلت أحداً من أولئك المحاربين الأندلسيين. والمرجّح انهم لم يصلوا إلى مينائها، إذا امتنع كونت طرابلس ريموند الثاني (531 ـ 546 هـ/ 1133 ـ 1152 م) عن المشاركة في تلك الحملة خوفاً على عرشه([51]).
ولكن من اللافت للنظر أن عالماً أندلسياً هو علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي الأندلسي المعروف بالحرالي، نسبه إلى حرالة من أعمال مُرسية، نزل طرابلس وسكنها وهي تحت احتلال الفرنجة، وكان صوفياً كبيراً، وإماماً شهيراً في العلوم. صنف تفسيراً أبدى فيه من مناسبات الآيات والسور ما يبهر العقول، فكان هو الأساس الذي بني عليه البرهان البقاعي تفسيره المعروف بـ"نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، وقيل هو رأس مال البقاعي؛ ولولاه ما راح ولا جاء. ولكن تفسير الحرالي لم يتم، ومن حيث وقف، وقف حال البقاعي في مناسباته، حسب قول المناوي.
دخل الحرالي مصر فأقام ببلبيس مدة، ثم سكن طرابلس الشام، وأخيراً انتقل إلى حماة فمات بها، وقيل مات بحلب سنة 637 هـ([52]).
في عصر المماليك
غير أن الأندلسيين والمغاربة يعود وجودهم بقوة في عصر المماليك، وهم يتبعون المذهب المالكي، ويكثر جمعُهُم بطرابلس حتى أصبح لهم قُضاة يفصلون في قضاياهم على مذهبهم، مثلهم مثل الشافعية والأحناف والحنابلة، وكان المالكيون يأتون في المرتبة الثالثة بعد الشافعية والأحناف، وهم يتقدمون على الحنابلة.
كما ظهر ـ ولا يزال زاهراً حتى الآن ـ الأثر الأندلسي ـ المغربي في عمارة طرابلس المملوكية، في الهندسة والتزيينات والكتابة بالخط المغربي، والمظاهر الأخرى.
ويمكن القول إن جماعة من الأندلسيين والمغاربة كانوا من جملة المتطوعة الذين أتوا من مصر مع جيش المنصور قلاوون([53]) وأسهموا في فتح طرابلس وتحريرها من الفرنجة سنة 688 هـ/ 1289 م، ثم نزلوها واستوطنوها، وشاركوا في إعادة بناء مدينة المنصور المستحدثة بعد أن هُدمَت المدينة الساحلية القديمة. وتركوا طابعهم واضحاً على عمارتها المدنية والدينية. وكان لهم مشاركتهم في الدفاع عن المدينة، وإثراء القضاء والحياة الثقافية.
المشاركة العسكرية
ينفرد النُوَيْرِيّ السَّكَنْدَري دون غيره من المؤرخين بذكر الرئيس البطرني المغربي قاضي طرابلس، ومشاركته في جهاد الفرنج، حين خرج مع نائب السلطة بها أسندمر الكُرجي لحصار جزيرة أرواد سنة 702 هـ/ 1302 م. وكان الفرنجة قد اتخذوها قاعدة لمواصلة اعتداءاتهم على سواحل الشام، والتعرض للسفن التجارية في البحر، واعتنى صاحب قبرس بها وبعمارتها مع جماعة من قادة الفرنج، وبنوا فيها سوراً تحصنوا به، وأسموها عكا الصغيرة([54]). وتم فتح الجزيرة بعد قتال لم يدُم سوى ساعة واحدة([55]). فمن هو الرئيس البطرني المغربي هذا؟
إن المصادر المعتمدة لم تفدنا عنه شيئاً. بل جاء في "إنباء الغُمٍْر في أبناء العُمْر" لابن حجر العسقلاني، و"الضوء اللامع" للسخاوي، ترجمة لواحد يُعرب بالبطرني هو محمد بن إسماعيل تاج الدين ابن العماد المغربي الأصل، الدمشقي، المالكي. كان في خدمة القاضي عَلَم الدين القفصي، وعمل نقيبه. وبعد موته ولي قضاء طرابلس، ثم ناب عن القاضي المالكي. وكان عفيفاً في مباشرته، يستحضر طرفاً من الفقه. مات بالطاعون في شهر صفر سنة 833 هـ([56]). فيُحتمل أن يكون البطرني المجاهد في أرواد واحداً من أجداد محمد بن إسماعيل هذا.
وفي السيرة الشعبية للظاهر بيبرس يرد ذكر أبي بكر البَطَرني الطنجاوي، وهو بحار يقود غليوناً ومعه 475 بحار يأتمرون بأمره، وهو ابن حاكم طنجة... وتزعم السيرة أنه شارك في موقعة بحرية دارت بين الروم (!) والملك الصالح الصالح بن أيوب، بالقرب من ميناء جنوى الإيطالي، فينتصر أبو بكر البَطَرني على الروم، ثم يدخل الميناء بفضل غرابه البحري([57]). وتروي السيرة عنه أخباراً كثيرة؛ ومن بين تلك الأخبار دخوله جزيرة أرواد مع السلطان الظاهر بيبرس! والقبض على ملك الجزيرة المدعو جمجرين ! ([58])
وسواء كان البَطَرني الذي شارك في فتح أرواد مع نائب طرابلس هو نفسه الذي ورد في السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، أو غيره، فإن تواتر الروايات يدعم وجود المغاربة بطرابلس. ويقال إن قبر البطرني المغربي لا يزال موجوداً على ساحل البحر في مدينة اللاذقية([59]).
وكان بطرابلس جنود من المغاربة يرابطون على ساحلها([60])، وقد اشتركوا في الدفاع عن المدينة وتصدوا لملك قبرس بطرس دي لوزنيان بن هيو الرابع عندما غزاها بآلاف الفرنج وعشرات السفن الحربية في سنة 769 هـ/ 1367م. وحين داهمها الفرنج، كان عسكرها خارج المدينة شمالي بيروت قد خرج مع الحاجب لاستقبال نائب جديد، ولم يبق بها سوى القليل من التركمان والمغاربة. ولذا تمكن الغزاة من الاستيلاء على طرابلس يوماً وليلة، حتى تكاثر أهل المدينة، ومن أتاهم من التركمان المرابطين عند عرقة([61]) مع قاضيها، ولحق بهم المغاربة حتى زاد جمعُهم على خمسة عشر ألفاً، ودارت معارك طاحنة في الأسواق وبين البساتين، حتى دُحِر الغُزاة، وكان أول من استشهد اثنان من المغاربة، واثنان من التركمان، وواحد من أهل طرابلس([62]).
ويتكرر ذكر المغاربة مجدداً في حوادث سنة 802 هـ/ 1400 م أثناء الفتنة التي عصفت بطرابلس بين أهلها ونائب السلطنة يونس بُلطا، إذ بادر أجد الأمراء ـ ويدعى ناصر الدين محمد بن بهادر المؤمني ـ إلى الاستيلاء على برج من أبراج طرابلس الساحلية، وهو برج الأمير الأتابك سيف الدين أيتمش البجاسي، ومعه جماعة من المغاربة، وركب من هناك البحر إلى مصر، وعاد ومعه نحو عشرة من قادة المغاربة وغيرهم. والتجأ ثانية إلى برج ايْتْمُش. وعندما ثار أهل المدينة على نائب الغيبة، فر منهم إلى ناحية حمص، فعاث الناس فساداً وكسروا أبواب القلعة ودخلوها ونهبوا ما فيها من حواصل النائب، وخرج المغاربة من البرج وشاركوا العوام في النهب، واستمروا على ذلك إلى آخر النهار حتى نودي بالأمان. ولما عاد النائب يونس بُلطا، اقتحم المدينة وقتل من أهلها 1732 إنسان([63])، وكان بين القتلى مفتيها، وقاضيها الحنفي، وقاضيها الحنبلي، وقاضي المالكية ابن شاشي وهو شهاب الدين أحمد بن إبراهيم الأذرعي المالكي([64])، وكان معزولاً عن منصبه قبل قليل.
يتبع