عقد جدتي




هيفاء الفريح

"تحوَّلت حبَّات عقد جدتي اللؤلؤية البيضاء إلى حبَّات فاحمة السواد.. لا.. لا.. إلا هذا العقد، إنه هديتها لي عندما تفوقت العام الماضي على الصف".
استيقظت من نومي فزعة من ذلك الحلم المزعج، نفثت عن يساري، استعذت بالله من الشيطان الرجيم، شعرت وكأنَّ فراشي قد صُنع من شوك القتاد؛ إذ أنَّه أقضّ مضجعي فلم أستطع النوم.
الحل إذاً أن أطمئن على العقد بنفسي، يممتُ وجهي شطر خزانتي، لأخرج العقد، وأتأكد من لونه.. فتحت علبته..
آه.. حمداً لله، ما زالت حبَّاته بيضاء كقلب التي أهدتني إياه..
تناولته لأقبله.. لكن.. حباته تناثرت على أرض الحجرة بعد أن تقافزت بصورة أثارت دهشتي، أو بالأحرى فزعي، انتابتني أفكار سيئة، ورؤى مخيفة.
عاودني القلق لكن بصورة أشدّ.. أن تصبح حبات اللؤلؤ سوداء خير من أن تسقط وتتناثر.
يوه، ما الحكاية؟ ما هذه الوساوس الشيطانية؟!
السبيل الوحيد للخلاص منها الصلاة، نعم، فالمؤمن يجد راحته في الصلاة.. هكذا قالت المعلمة.
توضأت.. صليت، دعوت من كل قلبي لجدتي بأن يشفيها الله؛ ليعود الفرح إلى منزلنا من جديد.
رجعت إلى سريري لأحاول وبشتى الوسائل أن أستجدي النوم، لكنه ظلَّ يعاندني حتى قبيل الفجر!
أمي.. نعم أمي هي المرفأ الأخير الذي ستقف عنده سفينة أفكاري المزعجة.. سأحتضنها وأنام بجوارها ولن أنبس ببنت شفة عمَّا رأيته حتى لا تقلق.
سابقت درج السلم؛ لأهبط إلى الطابق السفلي حيث تنام أمي جوار غرفة جدتي.. استوقفتني أصوات غريبة، حاولت أن أميزها، وعندما فشلت أسرعت لأفاجأ بصور أغرب.
خالي وأخواي وأبي في هذا الوقت المتأخر، مطأطئي الرؤوس.. واجمين. أمَّا أمي فقد كانت تبكي، لا بل تنتحب، وقد انكفأت على جسد جدتي النحيل المسجى تضمه وتقبله.
تمتمت بسؤال جرح حنجرتي: أو ماتت جدتي؟!

لا أعتقد أن ألماً في الوجود يساوي ذلك الذي خزَّ في أضلعي، ولا ناراً في الدنيا تجاري التي اشتعلت بين جوانحي.
لا أعرف متى ماتت، أو كيف ماتت، لا أعرف لماذا انفرط العقد اليوم بالذات؟
أنا لا أعرف أشياء كثيرة، ولكن شيئاً واحداً هو الذي أعرفه: وهو أنني أحب قلبها الأبيض الطاهر الذي سيظل يحيا معي رغم رحيل جسدها عني؛ لذا هرعت إلى غرفتي، وجمعت الحبات المتناثرة، ونظمتها رغم أنَّ في داخلي غصة مؤلمة، بيد أني تغلبت عليها بابتسامة حزينة رسمتها على شفتي التي ظلت تهمهم طوال نظمي للعقد.
ما انفرط العقد الأبيض، ولا مات قلب جدتي الأبيض.