أربع صور لأربع نساء





أربع صور تتكرَّر في مجتمع النساء لا أخالُ بعض النساء إلا منتميات إلى إحدى هذه الصور:
الأولى: امرأة عاملة كثيرة الشكوى من العمل وما يتبعه من التزامات ودوام وتعاميم تأتي في الاتجاه المعاكس لما تريد، وأقصى أمانيها ) ولا أدري لماذا لاتفعل؟ الأمر بيدها (أن تستقيل وتجلس في المنزل.
قلت لها: لماذا؟ قالت: على الأقل أنام متى ما أريد وأصحو من النوم وقت ما أريد، لا أنزعج برأي رئيسة في العمل ولا برأي من تعلو رئيستي، ولا أصدم بالتعميمات التي تفاجئني كل صباح.
قلت لها: ولماذا لا تقدمين استقالتك حتى تنعمي بهذه الميزات التي تحلمين بها؟
قالت: والراتب؟ لو أمدّ يدي لزوجي لن يعطيني نصف ما أستلمه آخر الشهر؛ بخلاف المحاسبة، أين صرفته؟ وماذا بقى منه؟ ثم إنِّي قد تعوَّدتُ الخروج من المنزل، وأظن أنَّ الفراغ سيكون خانقاً لي، لقد وجدت نفسي في الخروج اليومي من المنزل، ورغم تذمري سأحلم، لكن لن أنفذ البقاء في البيت.
الثانية: رأيتها في جمع نساء تندب حالها وطول مكوثها في المنزل دون وظيفة وانغماسها بين أعمال المنزل أو إشراف من بعيد على المنزل.. تقول: لو كنت موظفة لفعلت وفعلت، يومها لا يكاد يخرج عن نوم حتى الظهيرة، ثم هاتف حتى موعد قدوم الزوج، أو تقليب في القنوات الفضائية، أو على الأقل أمام التلفاز، أو العبث بمجلة أسبوعية لا تحوي من النفع إلا ورقها، أو زيارة ضحى لجاراتها اللاتي يشتركن معها في الظروف نفسها، أمَّا مهمتها في إعداد الأولاد للمدرسة ومتابعتهم أو إعداد طعام زوجها والإشراف على راحته، فقد أوكلتها للخادمة التي تلاقي منها أول غيبة في جلساتها ومكالماتها اليومية.
وفي المساء لا بدَّ أن يحوي جدولها زيارة الحديقة الفلانية أو السوق الفلاني، أو المشغل الذي وضعت عنده فستانها الذي ستحضر به حفلاً عالي المستوى هذا الأُسبوع، وفي ختام جولتها الأُسبوعية لا بدَّ أن تعرِّج على المطعم العائلي ليمنحها طاقة تستعد بها لجولات أخرى غداً.
مقابل تينك الصورتين تظهر لنا صورتان تشعَّان بهاءً:
الأولى: امرأة خرجت للعمل بضوابط شرعية، أدَّت ما هو مطلوب منها كاملاً، مدركة أنَّ "العقد شريعة المتعاقدين" وهي في عملها محتسبة الأجر، ناصحة لكل خير، ناهية عن كل منكر، آمرة بالمعروف، تعلم أنَّها قد سلّمت أمانة، وأنَّ عليها أداء الأمانات كما ينبغي، ثم إذا هي عادت إلى منزلها فعودة الطير إلى الوكر، وهي تعلم أنَّ أمانتها أعظم ومسؤوليتها أكبر في عشِّها هذا، وأنَّ أي امرأة في العالم قد تساعدها في متطلبات الحياة، ولكنها لن تتحمَّل عنها المسؤولية والسؤال أمام الله عمّا ضيّعت أو حفظت.
وبين هذا وذاك تدرك أنَّ عليها لأمّتها ديناً لن تتوانى في أدائه، أو تتهرَّب منه، أو تتجاهل ذلك الدور أو تنشغل عنه، ينبثق ذلك الدور من قوله تعالى:( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...).
والثانية: امرأة كريمة عرفت أنَّ مهمتها أعمق، وهي على درجة من الوعي بحيث إنَّها فطنت إلى أنَّها إذا خرجت من البيت فلن تؤدِّي تلك المهمة كما ينبغي، أو كما يرضيها هي، خاصة إذا كانت مقاييسها للوصول إلى الكمال غاية في الدقِّة.
فهي تريد أن تكون زوجة حافظة لزوجها وربَّة بيت مثالية وأمَّاً نموذجية، ورغم ذلك فهي ترى أنَّ كلّ ما تفعله ما هو إلاَّ محاولات للوصول إلى ما تريد، ولن يتأتَّى لها إذا ما خرجت يوماً من المنزل. ومن وعيها تدرك أنَّ لها نوراً يجب أن يشعّ ويصل ضوؤه إلى خارج منزلها، فهذه جارة تمد يد المساعدة لها، وهذه قريبة تصلها بكلمة طيّبة أو بهدية، وهذه مَدرسة للقرآن تنتسب إليها إمَّا طالبة أو متعاونة في إدارتها، وهذه محاضرة تذهب إليها.
وهي في وقت فراغها تكتب المقال الرصين للصحيفة الفلانية، توضِّح وجهة نظر وتذبُّ عن رأي حكيم، وهي في اجتماعاتها الأسرية وردة فوَّاحة لا تكاد تخرج من مكان إلا وعبق حديثها قد فاح وانتشر، هذه سنة تذكّر بها، وهذه فائدة قرأتها تلمح لها، وهذه قصّة معبِّرة تحكيها، ثمَّ إذا هي عادت إلى منزلها فكأنَّها الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً، أو هي كالنحلة تخرج تبحث عن الرّحيق ثمَّ تعود إلى مملكتها لتصنع نحلاً مصفَّى، أما هي فتُخرج جيلاً مصفَّى من الشوائب والفتن.
هذه صورٌ أربع تتكرر باستمرار في صفحات الحياة النسائية، فلا التي في البيت راضية، ولا من خرجت للعمل راضية بذلك، مقابل ذلك صورتان زاهيتان لحالة الرضا لامرأتين إحداهما كان خروجها من البيت لضرورة أملاها واقع الحال، والأخرى كان مكوثها في المنزل لضرورة فطرية، واعية بدورها النسائي أيضاً.
إنَّ ما أريد أن أقوله هو أنَّ محور الرضا وعدم الرضا في تلكم الصور الأربع، لا يجب أن يكون محوراً شخصياً تحكمه الأهواء ونظرة المجتمع النسوي أو النظرة الاقتصادية، وإنَّما يجب أن تكون النظرة أشمل، أي متى تكون المرأة فعّالة أكثر ومدى جدية هذه الفاعلية ومردودها على نفسها ومجتمعها صلاحاً وإصلاحاً؟ بمعنى: هل كلُّ من خرجت للعمل قد أدَّت دورها كاملاً في نطاق أسرتها أولاً، تلك النواة الصغيرة، ثمَّ في مجتمعها الخلية الأكبر؟
هل كلُّ من خرجت للعمل للضرورة وبالضوابط الشرعية قد أهملت أسرتها ومنزلها؟ فعلاً لا بدَّ أن يكون هناك تقصير، إذ إنَّ خورج المرأة عن دارها نصف يومها أو ربعه أو أقل أو أكثر سيؤثِّر حتماً على إدارتها لمنزلها، وإلاَّ فستدفع الثمن هي، لكن لعلَّ ما تقدِّمه لأسرتها لمجتمعها في حقيقة الأمر، لو أخلصت النيَّة فيه، فسيكون عوضاً ولو قليلاً عن هذه الخسارة.
هل كلُّ من مكثت في المنزل بلا عمل ستؤدِّي دورها كاملاً تجاه أسرتها في ظلِّ غياب الوعي والهدف الذي تسعى لتحقيقه؟
هل كلُّ من مكثت في البيت يُعدُّ دورها مشلولاً في خدمة دينها ومجتمعها؟ أم هي كما يوحون النصف القاتم المظلم في المجتمع؟ خصوصاً أنَّ بعضهن يؤدِّين أعمالاً تصنَّف كإنجازات للأمَّة، وبالأخص إذا كانت تملك فكراً عميقاً ووعياً صادقاً وتقديراً لأهمية ذلك الدور الذي ترى أنَّ مبدأه من أسرتها.
لو تدرك المرأة أنَّها نصف المجتمع، وأنها إذا أنجبت النصف الآخر كانت المجتمع بأسره؛ لعَظُم دورها في عينها، ولما رضيت أن تكون نصف المجتمع فقط.
منقول