أَصلِح سَرِيرَتَكَ




عبد الهادي بن حسن وهبي


الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياءِ والمرسلين.



إِنَّ الـمُتَأَمِّلَ فِي نَفسِهِ وَمَنْ حَولَهُ مِنَ النَّاسِ بِكَافَّةِ طَبَقَاتِهِم، لَيَرَى اهْتِمَامًا بَالِغًا وَانْصِرَافًا تَامًّا - إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ - إِلَى العِنَايَةِ بِالمَظَاهِرِ المَرئِيَّةِ، وَغَفلَةً تَكَادُ تَكُونُ عَامَّةً عَنِ العِنَايَةِ بِالأَعمَالِ القَلبِيَّةِ وَالذَّخَائِرِ الخَفِيَّةِ. فَالمَظَاهِرُ زَاهِيَةٌ، وَالسَّرَائِرُ خَاوِيَةٌ.

مَعَ أَنَّ إِصْلَاحَ السَّرِيرَةِ مِنَ المَطَالِبِ العَالِيَةِ، وَالمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ، وَالمَوَاهِبِ الغَالِيَةِ، وَأُمنِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَغَايَةٌ كَرِيمَةٌ، لَا تَصْلُحُ الأَحْوَالُ إِلَّا بِـهَا.

عَن يَحيَى بنِ الجَزَّارِ، قَالَ: دَخَلَ نَاسٌ مِن أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالُوا: يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ، حَدِّثِينَا عَن سِرِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قَالَت: كَانَ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ سَوَاءً، ثُمَّ نَدِمْتُ فَقُلْتُ: أَفشَيتُ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم! قَالَت: فَلَمَّا دَخَلَ أَخبَرتُهُ، فَقَالَ: «أَحسَنتِ».

قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿يوم تبلى السرائر﴾ [الطارق: 9]؛ أَي: تُختَبَرُ سَرَائِرُ الصُّدُورِ، وَيَظهَرُ مَا كَانَ فِي القُلُوبِ مِن خَيرٍ وَشَرٍّ عَلَى صَفَحَاتِ الوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه﴾ [آل عمران: 106]؛ فَفِي الدُّنيَا، يَنكَتِمُ كَثِيرٌ مِنَ الأَشيَاءِ، وَلَا يَظهَرُ عِيَانًا لِلنَّاسِ، وَأَمَّا يَومَ القِيَامَةِ، فَيَظهَرُ بِرُّ الأَبرَارِ، وَفُجُورُ الفُجَّارِ، وَتَصِيرُ الأُمُورُ عَلَانِيَةً.



وَللهِ هَاتَيكَ القُلُوبُ، وَمَا انطَوَت عَلَيهِ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَمَاذَا أَودَعَتهُ مِنَ الكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ؟ ! وَللهِ طِيبُ أَسرَارِهَا! وَلَا سِيَّمَا يَومَ تُبلَى السَّرَائِرُ:

سَيَبدُو لَهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهجَةٌ وَحُسنُ ثَنَاءٍ يَومَ تُبلَى السَّرَائِرُ

قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله: «وَفِي التَّعبِيرِ عَنِ الأَعمَالِ بِالسِّرِّ لَطِيفَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الأَعمَالَ نَتَائِجُ السَّرَائِرِ البَاطِنَةِ، فَمَن كَانَت سَرِيرَتُهُ صَالِحَةً كَانَ عَمَلُهُ صَالِحًا، فَتَبدُو سَرِيرَتُهُ عَلَى وَجهِهِ: نُورًا وَإِشرَاقًا وَحَيَاءً، وَمَن كَانَت سَرِيرَتُهُ فَاسِدَةً، كَانَ عَمَلُهُ تَابِعًا لِسَرِيرَتِهِ، لَا اعتِبَارَ بِصُورَتِهِ، فَتَبدُو سَرِيرَتُهُ عَلَى وَجهِهِ سَوَادًا وَظُلمَةً وَشَينًا. وَإِن كَانَ الَّذِي يَبدُو عَلَيهِ فِي الدُّنيَا، إِنَّمَا هُوَ عَمَلُهُ لَا سَرِيرَتُهُ، فَيَومَ القِيَامَةِ تَبدُو عَلَيهِ سَرِيرَتُهُ، وَيَكُونُ الحُكمُ وَالظُّهُورُ لَهَا» .

وَقَالَ أَيضًا فِي تَفسِـيرِ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿يوم تبلى السرائر﴾ [الطارق: 9]: «أَي: تُختَبَرُ...، وَالسَّرَائِرُ جَمعُ سَرِيرَةٍ، وَهِيَ سَرَائِرُ اللهِ الَّتِي بَينَهُ وَبَينَ عَبدِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ للهِ، فَالإِيمَانُ مِنَ السَّرَائِرِ، وَشَرَائِعُهُ مِنَ السَّرَائِرِ، فَتُختَبَرُ ذَلِكَ اليَومَ، حَتَّى يَظهَرَ خَيرُهَا مِن شَرِّهَا، وَمُؤَدِّيهَا مِن مُضَيِّعِهَا...؛ وَالمَعنَى: تُختَبَرُ السَّرَائِرُ بِإِظهَارِهَا، وَإِظهَارِ مُقتَضَيَاتِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَالحَمدِ وَالذَّمِّ».



وَقَالَ رَحِمَهُ الله: «الْمُعَوَّلُ عَلَى السَّرَائِرِ وَالْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ وَالْهِمَمِ، فَهِيَ الْإِكْسِيرُ الَّذِي يَقْلِبُ نُحَاسَ الْأَعْمَالِ ذَهَبًا، أَوْ يَرُدُّهَا خَبَثًا ...؛ وَمَنْ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ، يَعْلَمُ قَدْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَشِدَّةَ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَانْتِفَاعَهُ بِهَا».



وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَحِمَهُ الله: «قُطبُ الطَّاعَاتِ لِلمَرءِ فِي الدُّنيَا: هُوَ إِصلَاحُ السَّرَائِرِ، وَتَركُ إِفسَادِ الضَّمَائِرِ.

وَالوَاجِبُ عَلَى العَاقِلِ: الِاهتِمَامُ بِإِصلَاحِ سَرِيرَتِهِ، وَالقِيَامُ بِحِرَاسَةِ قَلبِهِ عِندَ إِقبَالِهِ وَإِدبَارِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ؛ لِأَنَّ تَكَدُّرَ الأَوقَاتِ، وَتَنَغُّصَ اللَّذَّاتِ، لَا يَكُونُ إِلَّا عِندَ فَسَادِهِ.

وَلَو لَم يَكُن لِإِصلَاحِ السَّرَائِرِ سَبَبٌ يُؤَدِّي العَاقِلَ إِلَى استِعمَالِهِ، إِلَّا إِظهَارُ اللهِ عَلَيهِ كَيفِيَّةَ سَرِيرَتِهِ، خَيرًا كَانَ أَو شَرًّا، لَكَانَ الوَاجِبُ عَلَيهِ قِلَّةَ الإِغضَاءِ عَن تَعَاهُدِهَا .

فَطَهِّر للهِ «سَرِيرَتَكَ فَإِنَّهَا عِندَهُ عَلَانِيَةٌ، وَأَصلِح لَهُ غَيبَكَ فَإِنَّهُ عِندَهُ شَهَادَةٌ، وَزَكِّ لَهُ بَاطِنَكَ فَإِنَّهُ عِندَهُ ظَاهِرٌ».



قَالَ العَلَّامَةُ ابنُ عُثَيمِينَ رَحِمَهُ الله: «إِصلَاحُ السَّرِيرَةِ يَكُونُ بِصِدقِ الإِخلَاصِ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِحَيثُ لَا يَهتَمُّ بِالخَلقِ، مَدَحُوهُ أَو ذَمُّوهُ، نَفَعُوهُ أَو ضَرُّوهُ، يَكُونُ قُلبُهُ مَعَ اللهِ تَعَبُّدًا، وَتَأَلُّهًا، وَمَحَبَّةً وَتَعظِيمًا، وَقَلبُهُ مَعَ اللهِ تَقدِيرًا وَتَدبِيرًا، يَعلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَم يَكُن لِيُخطِئَهُ، وَمَا أَخطَأَهُ لَم يَكُن لِيُصِيبَهُ، يَرضَى بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَهُ، إِذَا وَقَعَ الأَمرُ يَقُولُ: عَسَى أَن يَكُونَ خَيرًا، يَستَشعِرُ دَائِمًا قَولَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا﴾ [النساء: 19]، ﴿وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ [البقرة: 216] وَمَا أَشبَهَ ذَلِكَ مِن تَعَلُّقِ القَلبِ بِاللهِ، أَهَمُّ شَيءٍ أَن يَكُونَ قَلبُكَ مَعَ اللهِ دَائِمًا، وَإِذَا كَانَ مَعَ اللهِ دَائِمًا صَلُحَت سَرِيرَتُكَ؛ لِأَنَّكَ لَا يَهُمُّكَ الخَلقُ، الخَلقُ عِندَكَ مِثلُ نَفسِكَ، بَل أَقَلُّ، مَا دُمتَ مُتَعَلِّقًا بِرَبِّكَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، مُعتَصِمًا بِهِ، مُهتَدِيًا بِهُدَاهُ، مُعتَصِمًا بِحَبلِهِ، فَلَا يَهُمَّنَّكَ أَحَدٌ».



قَالَ ابنُ الحَاجِّ رَحِمَهُ الله: «فَإِذَا كَانَ بَاطِنُكَ كَظَاهِرِكَ، لَم تُبَالِ كَيفَ كَانَ أَمرُكَ؟! وَقُم عَلَى بَاطِنِكَ، أَشَدَّ مِن قِيَامِكَ عَلَى ظَاهِرِكَ، فَإِنَّهُ المَوضِعُ الَّذِي فِيهِ اللهُ مُطَّلِعٌ، فَنَظِّفهُ وَزَيِّنهُ، لِيَنظُرَ اللهُ إِلَيهِ أَشَدَّ مَا تُزَيِّنُ ظَاهِرَكَ لِنَظَرِ غَيرِهِ، فَافهَم مَا أَقُولُ لَكَ بِعِنَايَةٍ مِنكَ وَقَبُولٍ».





عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم.

فَلَا تُضَيِّع حَظَّكَ مِن أَعمَالِ السَّرَائِرِ، فَبِهَا الحَزمُ وَالفَضلُ العَظِيمُ، وَالوَصفُ يَقصُرُ عَن قَدرِهَا عِندَ الإِلَٰهِ سُبحَانَهُ وَتَعاَلى، وَتُؤجَرُ عَلَيهَا عِندَ تَحصِيلِ مَا فِي الصُّدُورِ، وَالنَّاسُ عَنهَا غَافِلُونَ.

وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ «كُلَّمَا كَانَ وُجُودُ الشَّيءِ أَنْفَعَ لِلعَبدِ وَهُوَ إِلَيهِ أَحْوَجُ، كَانَ تَأَلُّمُهُ بِفَقْدِهِ أَشَدَّ، وَكُلَّمَا كَانَ عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُ، كَانَ تَأَلُّمُهُ بِوُجُودِهِ أَشَدَّ، وَلَا شَيءَ عَلَى الإِطلَاقِ أَنفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ» إِصْلاَحِ سَرِيرَتِهِ، وَإِقبَالِهِ «عَلَى اللهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِذِكْرِهِ، وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ، وَإِيثَارِهِ لِمَرْضَاتِهِ، بَلْ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا نَعِيمَ وَلَا سُرُورَ وَلَا بَهْجَةَ إِلَّا بِذَلِكَ، فَعَدَمُهُ آلَمُ شَيءٍ لَهُ وَأَشَدُّهُ عَذَابًا عَلَيهِ».



وَاجعَل نُصبَ عَينَيكَ الحَدِيثَ التَّالِيَ:

عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ، بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُم لَنَا، جَلِّهِم لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُم وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُم إِخْوَانُكُم وَمِنْ جِلْدَتِكُم، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُم أَقْوَامٌ، إِذَا خَلَوا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا» رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.

فَهَؤُلَاءِ قَامُوا بِأَعمَالٍ ظَاهِرَةٍ، وَاعتَنَوا بِالمَظَاهِرِ وَجَعَلُوهَا زَاهِيَةً، وَأَهمَلُوا سَرَائِرَهُم، وَبَوَاطِنَهُم، وَجَعَلُوهَا خَاوِيَةً، فَلَم يُرَاقِبُوا اللهَ فِي خَلَوَاتِهِم.

هَؤُلَاءِ يَنطَبِقُ عَلَيهِم قَولُ القَائِلِ:

أَظهَرَ بَينَ الخَلقِ إِحسَانَهُ وَخَالَفَ الرَّحمَٰنَ لَمَّا خَلَا



أَفَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ يَخلُونَ بِمَحَارِمِ اللهِ وَيَدخُلُونَ عَلَى المَوَاقِعِ الإِبَاحِيَّةِ، وَيُشَاهِدُونَ الأَفلَامَ الخَلِيعَةَ، أَن يَتُوبُوا إِلَى اللهِ: مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ تُبلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَيُحَصَّلَ فِيهِ مَا فِي الصُّدُورِ. يَومَ يَدُومُ فِيهِ النَّدَمُ، لِمَن زَلَّت بِهِ القَدَمُ.



وَتَأَمَّل سَرِيرَةَ القَلبِ وَاستَحــيِ مِنَ اللهِ يَومَ تُبلَى السَّرَائِرُ



فَيَا مُهمِلًا إِصلَاحَ سَرِيرَتِكَ! «سَتَعلَمُ يَومَ الحَشرِ: أَيَّ سَرِيرَةٍ تَكُونُ عَلَيهَا، ﴿يوم تبلى السرائر﴾ [الطارق: 9]».



سَيَعَلَمُ يَوْمَ العَرْضِ أَيَّ بِضَاعَةٍ أَضَاعَ وَعِنْدَ الوَزْنِ مَا كَانَ حَصَّلَا



أَلَا تَعْلَمُ بِأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ «هِيَ الَّتِي تُنَوِّرُ الوَجهَ، وَتَشرَحُ الصَّدرَ، وَتُحيِي القَلبَ، وَتُطَيِّبُ الحَيَاةَ عَلَى الحَقِيقَةِ، لَا مَحَبَّةَ الصُّوَرِ المُحَرَّمَةِ، وَإِذَا بُلِيَتِ السَّرَائِرُ يَومَ اللِّقَاءِ، كَانَت سَرِيرَةُ صَاحِبِهَا مِن خَيرِ سَرَائِرِ العِبَادِ، كَمَا قِيلَ:



سَيَبقَى لَكُم فِي مُضْمَرِ القَلبِ وَالحَشَا سَرِيرَةُ حُبٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ»



قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله: «كُلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيرِهِ َفِهَي عَذَابٌ عَلَى صَاحِبِهَا وَحَسرَةٌ عَلَيهِ، إِلَّا مَحَبَّتَهُ وَمَحَبَّةَ مَا يَدعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَيُعِينُ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَرضَاتِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَبقَى فِي القَلبِ يَومَ تُبلَى السَّرَائِرُ».



فَحَقِيقٌ بِمَنِ اتَّقَى اللهَ، وَخَافَ نَكَالَهُ: أَن يُصلِحَ سَرِيرَتَهُ، مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ «تُنْسَفُ فِيهِ الْجِبَالُ، وَتَتَرَادَفُ فِيهِ الْأَهْوَالُ، وَتَشْهَدُ فِيهِ الْجَوَارِحُ وَالْأَوْصَالُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَتَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَائِرُ، وَيَصِيرُ الْبَاطِلُ فِيهِ ظَاهِرًا، وَالسِّرُّ عَلَانِيَةً، وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا، وَالْمَجْهُولُ مَعْرُوفًا، وَيُحَصَّلُ وَيَبْدُو مَا فِي الصُّدُورِ، كَمَا يُبَعْثَرُ وَيَخْرُجُ مَا فِي الْقُبُورِ؛ وَتَجْرِي أَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى هُنَالِكَ عَلَى القُصُودِ وَالنِّيَّاتِ، كَمَا جَرَتْ أَحْكَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا: مِنَ النَّصِيحَةِ للهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا: مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ ؛ هُنَالِكَ يَعْلَمُ الْمُخَادِعُونَ : أَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَخْدَعُونَ، وَبِدِينِهِمْ كَانُوا يَلْعَبُونَ، وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» .

عَن أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «مَا كَرِهَ اللهُ مِنكَ شَيئًا، فَلَا تَفعَلهُ إِذَا خَلَوتَ» رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي، وصححه السيوطي.



وَعَنْ سَعيدٍ ابنِ يَزيدٍ الأَنصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لِرَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أَوصِنِي، قَالَ: «أُوصِيكَ أَن تَستَحِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَستَحِي رَجُلًا صَالِحِاً مِن قَومِكَ» رواه الطبراني، وقال عنه الهيثمي في المجمع: قال الهيثمي فيه ابن لهيعة وفيه لين وبقية رجاله ثقات.

فَقُل لِنَفسِكَ: لَو كَانَ رَجُلٌ مِنْ صَالِحِي قَومِي يَرَانِي، أَو يَسمَعُ كَلاَمِي، لَاستَحَيتُ مِنْهُ، فَكَيفَ لَا أَستَـحِي مِن رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ لَا آمَنُ تَعجِيلَ عُقُوبَتِهِ وَكَشفَ سَترِهِ؟!

فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ يَرَاهُ حَيثُ كَانَ، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَسِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، وَاستَحضَرَ ذَلِكَ فِي خَلَوَاتِهِ، أَوجَبَ لَهُ ذَلِكَ تَركَ المَعَاصِي فِي السِّرِّ.



قَالَ القَحطَانِيُّ رَحِمَهُ الله:



وَإِذَا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلمَةٍ وَالنَّفسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغيَانِ

فَاستَحِي مِن نَظرِ الإلَٰهِ وَقُلْ لَهَا إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي



وَكَانَ ابنُ السَّمَّاكِ يُنشِدُ:



يَا مُدمِنَ الذَّنبِ أَمَا تَستَحِي وَ اللهُ فِي الخَلوَةِ ثَانِيكَا



عَن مُعَاوِيةَ بنِ حَيدةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسَولَ اللهِ، عَورَاتُنَا مَا نَأتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: «احفَظ عَورَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوجَتِكَ، أَو مَا مَلَكَت يَمِينُكَ» قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا كَانَ القَومُ بَعضُهُم فِي بَعضٍ؟ قَالَ: «إِنِ استَطَعتَ أَن لا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ، فَلا يَرَيَنَّهَا» قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِياً؟ قَالَ: «اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُستَحيَىٰ مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» رواه أصحاب السنن الأربع وصححه الترمذي.



فَقَد «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: أَن يَستُرَ عَورَتَهُ، وَإِن كَانَ خَالِياً لا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَدَباً مَعَ اللهِ، عَلَىٰ حَسَبِ القُربِ مِنْهُ، وَتَعظِيمِهِ وَإِجلالِهِ، وَشِدَّةِ الحَيَاءِ مِنْهُ، وَمَعرِفَةِ وَقَارِهِ».

فَالله اللهَ فِي إِصْلَاحِ السَّرَائِرِ؛ فَإِنَّهُ مَا يَنْفَعُ مَعَ فَسَادِهَا صَلَاحٌ ظَاهِرٌ.



قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿والله يعلم ما في قلوبكم﴾ [الأحزاب: 51].



فَانظُر أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ: مَاذَا يَعلَمُ اللهُ مِن قَلبِكَ؟

دَاوِ قَلبَكَ وَأَصلِحهُ، وَأَخلِص وَصَحِّحِ النِّيَّةَ، وَأَخلِصِ الطَّوِيَّةَ؛ فَإِنَّ مُرَادَ اللهِ مِنَ العِبَادِ: صَلَاحُ قُلُوبِهِم.



عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» متفق عليه.



وَقَوْلُهُ: «فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، فَتِلْكَ الخَصْلَةُ الخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الخَاتِمَةِ عِنْدَ المَوْتِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِشٌّ وَآفَةٌ، لَمْ يَقْلِبِ اللهُ إِيمَانَهُ.



عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قَالَ: «لَا تَعجَبُوا بِعَمَلِ أَحَدٍ، حَتَّى تَنظُرُوا بِمَ يُختَمُ لَهُ؟!...» رواه أحمد وابن حبان وصححه.




وَفِي خِتَامِ الحَدِيثِ عَنْ إِصلَاحِ السَّرِيرَةِ: يَطِيبُ لِي أَن أَذكُرَ «ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَانَ يَكتُبُ بِهَا بَعضُ السَّلَفِ إِلَى بَعضٍ، فَلَو نَقَشَهَا العَبدُ فِي لَوحِ قَلبِهِ يَقرَؤُهَا عَلَى عَدَدِ الأَنفَاسِ، لَكَانَ ذَلِكَ بَعضُ مَا يَستَحِقُّهُ، وَهِيَ: «مَن أَصلَحَ سَرِيرَتَهُ، أَصلَحَ اللهُ عَلَانِيَتَهُ؛ وَمَن أَصلَحَ مَا بَينَهُ وَبَينَ اللهِ، أَصلَحَ اللهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ النَّاسِ؛ وَمَن عَمِلَ لِآخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللهُ مُؤنَةَ دُنيَاهُ».



وَهَذِهِ الكَلِمَاتُ بُرْهَانُهَا وُجُودُهَا، وَكَمِيَّتُهَا آنِيَتُهَا، وَالتَّوفِيقُ بِيَدِ اللهِ، لَا إِلَٰهَ غَيرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ».