أخلاق حامل القرآن



الشيخ: عبدالوهاب السنين



رسالتنا اليوم عن قضية هي من أهم القضايا في حياتنا، بل هي من أعظم العبادات والطاعات، ألا وهي: العناية بالقرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم كتاب الإسلام الخالد، ومعجزته الكبرى، وهداية للناس أجمعين، قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، ولقد تعبدنا الله بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور}، فيه تقويم للسلوك، وتنظيم للحياة، من استمسك به، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومن أعرض عنه وطلب الهدى في غيره، فقد ضل ضلالاً بعيداً، إحدى المستشرقات ذكرت أن هذا القرآن أعظم وثيقة في العالم، لم يأتها التزوير، ولم يدخلها التحريف كما حصل لكثير من الكتب السماوية.

والقرآن كما تكلَّم عن التوحيد، وكما تكلَّم عن التشريع، وكما تكلَّم عن العبادة، تكلَّم عن الأخلاق؛ فحينما سُئلَت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالت: «كان خلقه القرآن» رواه مسلم، يعني إذا قرأت القرآن نظرت إلى النبي في أخلاقه وفي سلوكه؛ فالقرآن لا شك يُربِّي الإنسان، ويعلمه محاسن الأخلاق.

كيف الطريق إلى القرآن؟

وهنا مسألة: كيف الطريق إلى القرآن؟ كيف نكون حقًا من أهل القرآن ؟

نقول: أول قضية -لكي تُصبح قارئاً للقرآن- هي الحرص على إخلاص القراءة لله، أن تبتغي من هذه القراءة مرضاة الله، جاء في الأثر عن ابن مسعود قوله: كيف بكم إذا كثُرَ قراؤكم وقلَّ علماؤكم؟ فالذي يقرأ القرآن لابد أن يقرأه لله، لا تقرأ القرآن حتى يُقال: فلان قارئ، ولا تقرأ القرآن حتى يُقال: فلان صوته جميل، وهكذا.

وقد أمرنا الله -عزوجل- بالإخلاص، قال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(ال بينة: 5)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات». أي لا يُقبل منك عمل ما لم يكن لله -عزوجل.

لا تكن عددًا زائدًا

الأمر الآخر الذي يجب على قاريء القرآن الاعتناء به ألا يكون عددًا زائدًا، وإنما يجب أن يكون عملًا صالحًا، احرص على زيادة الأعمال، ولا تحرص على أن تكون عددا بين الناس، الذي يحفظ القرآن زاد نسخة من كتاب الله، لكن أين العمل؟ أين ما يقوم به العبد من الطاعة والقربة إلى الله؟

أم سفيان الثوري وقفت على ابنها وقالت: يا بني، احفظ كتاب الله، واعمل به وإلا سيكون وبالًا عليك يوم القيامة، انظر كيف تتكلم هذه المرأة مع هذا الولد الحافظ لكتاب الله، علمته الحفظ، لكن نبهته وقالت: انتبه لا تكن عددًا زائدًا، وإنما عليك أن تكون عملا مفيدا نافعا في المجتمع.

أن يعمل به في شأنه

لذلك يجب على حافظ كتاب الله -تعالى- أن يعمل به في شأنه كله حتى لا يقع في مغبة الذين يقرؤون القرآن ولا يعرفون عنه شيئاً إلا حروفه وسوره، ولا يتمتعون بفهم معانيه، ولا يتذوقون حلاوته، ويرددونه وكأنه شعر أو نثر؛ ولهذا كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: «كنّا صدرَ هذه الأمّة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السّـورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورُزقوا العمل بـه، وإنّ آخر هذه الأمّة يُخفّف عليهم القرآن حتّى يقرأ الصّبـيّ والأعجمـيّ؛ فلا يعملون بـه»، وعن مجاهد -رحمه الله-، في قوله -تعالى-: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: «يعملون بـه حقَّ عمله»، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «ينبغـي لحامل القرآن أن يُعرف بليلـه إذا النـاسُ نائمون، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون ، وبتواضعه إذا الناسُ يختالون، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون، وببكائه إذا الناسُ يضحكون، وبصمته إذا الناسُ يخوضون»، وعن الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: «حامل القرآن حامل رايةِ الإسلام، لا ينبغي له أن يلغـو مع مـن يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع مَن يلهو»؛ ولهذا كان السلف -رحمهم الله تعالى- يجعلون القرآن جل حياتهم، يتعايشون معه، ويتخلقون بأخلاقه، ويجعلونه أساس حياتهم ومصدر سعادتهم وقربهم من الله العلى القدير، وكانوا يتواصون فيما بينهم بهذا الكتاب العظيم.

الترفع عن كل ما نهى عنه القرآن

ومن آداب حامل القرآن: أنه ينبغي له أن يرفع نفسه عن كل ما نهى عنه القرآن، إجلالاً للقرآن الذي في جوفه؛ فلا يصلح لك أن تذهب إلى أماكن الرذيلة؛ لأن في جوفك قرآناً كريماً فلا تهينه، بل عليك أن تكرم القرآن، ونعمة والله يا أخي! أن أنعم الله عليك بالقرآن الذي يحول بينك وبين المعاصي؛ لأنه سور حاجز بينك وبين المعاصي؛ فإذا أعانك شخص على أن تمتنع من المعاصي فهذا خير عظيم.

حامل القرآن شريف النفس متواضع للصالحين

ومما ينبغي لحامل القرآن: أن يكون شريف النفس، مترفعاً عن الدنايا، متواضعاً للصالحين، مكرماً للمساكين، وهذا خلق أهل القرآن؛ لأن الله -عَزَّ وَجَلّ- يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(ا لمائدة:54).

مظهره ووقاره

وأيضاً ينبغي لحامل القرآن أن يكون مظهره مجللاً بالسكينة والوقار والخشوع؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «يا معشر القراء! استبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على الناس»؛ لأن السكينة التي تظهر الإنسان بالضعف ليست من الدين، والتكبر والتعالي الذي يظهر للناس العظمة، هذا أيضاً ليس من الدين، وإنما التواضع في غير ذلة: من سكينة وخشوع ووقار؛ لأن الوقار جزء من سمات المؤمنين.

القول الطيب والسلوك الطيب

أخيرًا: فإن حامل القرآن طيبٌ يشع منه القول الطيب والسلوك الطيب والسمت الطيب ، بل والـرائـحـة الطيبة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأتْرُجَّةِ ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حُلْوٌ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحَنْظَلَةِ ليس لها ريح وطعمها مرٌّ» (رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة).

فعليك أخي أن تتقرب إلى الله بما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إلى الله بشيء أفضل من كتابه, واعلم أنه لا حل لأزماتنا إلا بالرجوع للقرآن علمًا وعملاً واسترشادًا؛ فإن فيه بيانًا مفصلاً عن واقع الأمة، وأخبارًا صحيحة لما يجري فيها، وفيه تبيان لأسباب الهزيمة، وفيه مقوّمات النصر وعوامل العز والمجد، وفيه نماذج وقصص وشواهد للمؤمنين والمكذبين؛ فمن أخذه بقوة وصدق انتصر، ومن أعرض عنه خاب وانهزم، كل ذلك تراه في القرآن مفصلاً إذا قرأته متدبراً متعظاً.