الفطرة السليمة






فضيلة الآستاذ الدكتور محمد بن سعد الشويمر



سؤال يطرح نفسه هو: هل الفطرة السليمة تتعارض مع التعليمات الشرعية في دين الإسلام؟ والجواب عليه تأتي بنصوص شرعية عن الله العليم بطبائع البشر، وما تصلح به أحوالهم، وعن رسوله [ الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
فالله سبحانه يقول: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم: 30) قال بعض العلماء: دلالة هذه الآية يوضحها قول رسول الله [: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تلد الشاة بهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء؟!»، وفسّر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالإسلام، ولذا فإن رسول الله [ لم يقل: فأبواه يؤسلمانه؛ لأنه على فطرة الإسلام.
ومن هذين النصين وغيرهما، فإنه لا تعارض بين الفطرة السليمة مع التعليمات الشرعية، بل إن الأوامر والنواهي في شريعة الإسلام، توجه النفس البشرية إلى الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، وتأخذ بيدها للخصال الحميدة النافعة التي جبلت النفوس على محبتها، والحرص عليها.
والإنسان لديه نوازع فطرية: خيرية هي من الله، جبل سبحانه النفس البشرية على محبتها، ورديئة تقوده إليها نفس أمارة بالسوء، وأعوان يدفعونه إليها، فالنوازع الخيرية تقود النفس، وتدفع الأعمال إلى ما ينفع، وتباعدها عما يضر، وما محبة الخير والانقياد إليه إلا استجابة لشرع الله محبة، وابتعادا عن المناهي والمنكرات؛ بغضا فيها، وخوفا من الجزاء المترتب عليها.
وصاحب الفطرة السليمة، وما تقوده إليه لديه خيط رفيع يربطه بما وهبه الله من فطرة، توجب عليه الحرص عليها، ألا وهو الإيمان بالله: ربا ومعبودا، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، من دون تفريق، مع الإيمان باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ويبث هذا فيمن حوله، من ولد وأهل وقرابة، أداء للأمانة، ورغبة في تثبيت الآخرين، على هذه الفطرة، اتباعا لهذا الحديث الشريف، «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا» مسند أحمد.
وحلاوة الإيمان التي أخبر عنها رسول الله [ ذات طعم متميز ليس بذوق اللسان، ولكنه بذوق الوجدان، وراحة الضمير عن الضجر والضياع، فهي حلاوة متميزة، لا يعرف قدرها، إلا من وقرت في قلبه، ولما كان الخير يأتي بالخير، فإن مخاطبة الآخرين، والنفاذ إلى عقولهم، يجب أن يتصف بالهدوء، والإقناع في ربط المحسوس ببراهينه، ومؤثراته بالمعقول حتى ينفذ في الأحاسيس، وبنتائج بارزة تطمئن إليها النفس؛ لأننا في عصر العلم والنظريات، الذي لا يؤمن أصحابه، إلا بما هو بارز أمامهم للعيان، وظاهرة نتائجه بعلامات محسوسة، وهو ما يسمى بعصر الماديات.
ومن هنا يأتي دور العلماء المتخصصين، كل في مجاله، لتقديم المعاني العميقة والدقيقة، في الحكمة التشريعية لكل ما جاء في دين الإسلام، نفعا بالمأمور به، وضررا بالمنهي عنه.. ليخاطب بذلك عقول أولئك المفكرين والباحثين في مجالهم، وإبراز مكانة دين الإسلام ونظرته البعيدة فيما يسعد البشرية، وأسبقيته في ميدان البحث عما يفيد النفوس، ويريح المجتمعات، وتحذيرها عما يضرها؛ لأن النفس البشرية ملك لله، وهي أغلى جوهرة يحرص عليها الإسلام ويحميها، فقد خلقها الله لغاية نبيلة، وعمل شريف، ألا وهو توحيد الله والإخلاص له في العبادة: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).
ولذا فإن الفطرة السليمة في العقيدة هي الوحدانية مع الله جل وعلا، واعتقاد أنه المستحق للعبادة؛ لأنه المتفضل بالخلق والرزق، والقادر على الإحياء والإماتة، ولا نفع ولا ضرر إلا بمشيئته وإراداته سبحانه، والفطرة بالغذاء.. البحث عما يفيد ومجانبة ما يضر، وفي الكساء بما يواري العورة، ويتجمل به الإنسان، ومن مكسب حلال.. وكل ذلك في حدود إطار العلم للضوابط الشرعية في دين الله الحق، لا للهوى والنزعات الشخصية، وفي كل أمر من أمور الحياة نجد أن الفطرة السليمة فيها تلمس ما ينفع والابتعاد عما يضر، حتى الحيوانات تدرك بفطرتها السليمة فتتجه إلى الطبيب لأنه نافع ومفيد، وتبتعد عما يؤثر عليها أو يضرها، بما أودع الله فيها من إحساس وعواطف تميز الخير المفيد، فتنجذب إليه، وتدرك الضار السيئ فتتجافاه حيث يظهر ذلك فيما يبرز أمامها، من طعام وشراب، وبما وهبها الله من حساسية، رغم أنها بهيمة عجماء، وغير مكلفة بشرع.. لكنها الفطرة، فمن الذي هداها لذلك، وهي في نظرنا لا تعقل؟!
إنه الله سبحانه الذي خلق فهدى وقدر فوجه كل مخلوق لما ينفعه: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50).
فالإنسان الذي ميزه خالقه بالعقل والتكليف، وبلّغ بشرع الله، وأعطاه الله سبحانه، سمعا وبصرا وفؤادا نراه ينحرف مساره ذات الشمال ويتجاوز الحد بالبعد عما بلغ به في دين الله الحق الذي لا يقبل سبحانه من الثقلين الإنس والجن دينا سواه، فيظلم بذلك نفسه، ويجور عليها بهذا العمل، وما ذلك إلا أن الإنسان عندما يرتكب أمرا محظورا في التشريع الإسلامي، ويتعمد الإساءة إلى نفسه أو غيره بتجاوز ما رُسم له، كشرب الخمر، وتعاطي المخدرات وشرب الدخان وارتكاب فاحشة الزنى، أو غير ذلك من الأمور المنصوص عليها تحريما وتشديدا في النهي والعقاب، أو الإرهاب وتكفير الناس، فإنه مع الإساءة لنفسه، والإضرار ببدنه، قد نزل بنفسه إلى مرتبة أقل من الحيوانية، وعطل حاسة العقل الذي شرفه الله به، واعتدى بكفره المنحرف على المحرمات، والكذب في دين الله، ليخدم الأعداء.
وإن من اقترف شيئا من ذلك، في حالة غفلة أو ضعف أو نقص من إيمانه ومكانة عقله فانحرف عن الفطرة، فإن الله قد جعل الحدود في شريعة الإسلام، عقاباً رادعٍ، ليتوقى الإنسان الألم الحسي والمعنوي وليتخوف من السلطة والوضع الاجتماعي؛ لأنه لم يجعل على نفسه محاسبا، ولم تتفاعل التعليمات الشرعية، ولا الأوامر الزاجرة في أعماقه، حتى تستيقظ الفطرة السليمة عنده، ولعله يرعوي ليتوب إلى رشده بمثل هذا الإحساس.
من نماذج الأمهات:
كتب الشيخ مصطفى خولا في مجلة «التقوى» اللبنانية العدد 142 لشهر ذي الحجة عام 1424هـ، حكاية مؤثرة عن أم إبراهيم الهاشمية من نساء البصرة العابدات، بأنه لما أغار العدو على ثغر من ثغور المسلمين، قام عبدالواحد البصري خطيبا في الناس ووعظهم وحثّهم، وكانت هذه المرأة حضرت مجلسه وأثر فيها ما أفاض فيه بوصف الحور العين، فوثبت أم إبراهيم من مكان النساء، وقالت له: يا أبا عبيد ألست تعرف ولدي إبراهيم؟ وكل الوجهاء يخطبونه على بناتهم، وأنا أضن به عليهم، لكن والله لقد أعجبتني تلك الجارية التي ذكرتها في حديثك عن الحور العين، وما تمتاز به، وأنا أرضى بها زوجة لولدي إبراهيم، فهل تعينه في زواجه بها، وتأخذ مهرها مني 10 آلاف دينار، ويخرج ولدي معك في هذه الغزوة، فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعا لي ولأبيه يوم القيامة، لاستقامته وحرصه على أوامر الله ورسوله اتباعا، وبعده عن نواهيهما اجتنابا.
فشجعها عبدالواحد، فنادت ابنها وقالت: قم، فوثب إليها، وقال: لبيك يا أماه، قالت: أي بني أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ببذل مهجتك في سبيل الله، وترك العود في الذنوب؟ فقال: إي والله رضيت، فقالت: اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي إبراهيم هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك، فتقبله مني يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت وجاءت بعشرة آلاف دينار، وقالت: يا أبا عبيد هذا مهر الجارية تجهز به وجهّز له فرسا وسلاحا.
فخرج إبراهيم مع عبدالواحد، وفي وداعه مع أمه دفعت إليه كفنا وحنوطا، وأوصته ثم قبلت ما بين عينيه وقالت: لا جمع الله بيننا إلا بين يدي الله في عرصات يوم القيامة، وفي المعركة برز إبراهيم في المقدمة، وقتل من العدو عددا كثيرا، ثم قتلوه، وعند عودة الغزاة خرجت أم إبراهيم مع الناس، يتلقونهم فلما أبصرت عبدالواحد قالت: هل قبلت هديتي فأهنأ، أم ردت فأعزي، فقال لها: لقد قبلت والله، فخرت ساجدة شاكرة لله تعالى، ثم قالت: الحمد لله أن لم يخيب ظني، وتقبل نسكي، وانصرفت.
فلما جاء الغد أتت وسلمت، وقالت بشراك يا أبا عبيد لقد أريت البارحة إبراهيم ولدي، في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول: يا أماه أبشري فقد قبل المهر وزفت العروس.. فهنيئا لأم إبراهيم، ولكل أم تنشئ أولادها على دين الله وحب الخير.