قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فحوى الخطاب منه ما يكون المتكلم قَصَد التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ كآية البِرِّ؛ فهذا معلوم أنه قصد المتكلِّمَ بهذا الخطاب، وليس قياسًا، وجعلُه قياسًا غلط؛ فإنه هو المراد بهذا الخطاب.
ومنه ما لم يكن قصد المتكلم إلا القسم الأدنى، لكن يُعلم أنه يُثْبِت مثل ذلك الحُكْم في الأعلى؛ وهذا ينقسم إلى مقطوع ومظنون.
ومثالهما: ما احتج به أحمد ﭬ، وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة؟ فقال: لا، نهى النبي ﷺ أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. فهذا قاطع؛ لأنه إذا نهى عما قد يكون وسيلة إلى نيلهم إياه فهو عن إنالتهم إيَّاه أنهى وأنهى.
واحتج على أن لا شفعة لذميٍّ بقوله: «إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ»؛ فإذا كان ليس لهم في الطريق حق، فالشفعة أحرى أن لا يكون لهم فيها حق، وهذا مظنون.
وقد يُستفاد التنبيه من الفعل كما يستفاد من القول؛ ومثَّله ابن عَقيل بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: 75]؛ فنبَّه بأداء القنطار على أداء ما دونه، ومثَّله هو بالبصاق في المسجد وإلى القبلة على البول.
وأحسن من هذا ما أشار إليه أحمد واستدل به من أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بالمدينة من غير خوف ولا مطر فانه يفيد الجمع للسفر والخوف والمطر»اهـ([1]).
وقال - أيضًا - رحمه الله: «والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطي كانت على دِينه؛ فتكون زانية وأبلغ؛ فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه، فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها؛ ولفظ هذه الآية؛ وهو قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾ [النور: 3] الآية يتناول هذا كله؛ إما بطريق عموم اللفظ أو بطريق التنبيه وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ، وأدنى ذلك أن يكون بطريق القياس»اهـ([2]).
وقال شيخ الإسلام - أيضًا - رحمه الله: «وأحق الناس بالحق مَن عَلَّق الأحكام بالمعاني التي علقها بها الشارع؛ وهذا موضع تفاوت فيه الناس وتنازعوا: هل يستفاد ذلك من خطاب الشارع؟ أو من المعاني القياسية؟ فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس، وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلُّقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه؛ كقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: 23]؛ وقالوا: إن هذا لا يدل إلا على النهي عن التأفيف، لا يفهم منه النهي عن الضرب والشتم»اهـ([3]).


[1])) «المسودة» (ص347، 348).

[2])) «مجموع الفتاوى» (15/ 322).

[3])) «مجموع الفتاوى» (22/ 331، 332).