الحمد لله...
النَّاس سواء في الكرامة الإنسانيَّة: رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخاً، فكلٌّ من الرَّجل والمرأة مخلوق آدميٌّ جدير بالتَّكريم، فهما في القِيَم والحُرِّيَّة والعزَّة والكرامة سواء، قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70].
ولعلَّ أسمى صور التَّكريم التي حَظِيَ بها الإنسان - من بين سائر المخلوقات الأرضيَّة - ما ذكره الرَّازي رحمه الله في سياق تفسيره لهذه الآية: «أنَّه تعالى خَلَق آدمَ بيده، وخلق غيرَه بطريق كُنْ فيكون، ومَنْ كان مخلوقاً بيد الله كانت العنايةُ به أتمَّ وأكمل، وكان أكْرَمَ وأكمل»[1].
ومن تكريم الله تعالى للإنسان: أن جَعَلَه خليفةً في الأرض، وأسجدَ له الملائكة الكرام عليهم السلام، وسخَّر له ما في الكون جميعاً، فكانت بذلك النَّفس الإنسانيَّة أكرمَ المخلوقات في العالم كلِّه.
«جمعت الآية خَمْسَ مِنَنٍ: التَّكريم، وتسخير المراكب في البرِّ، وتسخير المراكب في البحر، والرِّزق من الطَّيِّبات، والتَّفضيل على كثيرٍ من المخلوقات...
والتَّكريم: جَعْلُه كريماً؛ أي: نَفِيساً غير مبذولٍ، ولا ذليلٍ في صورته، ولا في حركة مَشْيه وفي بشرته، فإنَّ جميع الحيوان لا يعرف النَّظافة ولا اللِّباس، ولا ترفيه المضجع والمأكل، ولا حُسْن كيفيَّة تناول الطَّعام والشَّراب، ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضرُّه، ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها، والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصَّنائع، وعن قبول التَّطوُّر في أساليب حياته وحضارته، وقد مثَّلَ ابنُ عباس رضي الله عنهما للتَّكريم: بأنَّ الإنسان يأكل بأصابعه، يريد أنَّه لا ينتهش الطَّعام بفمه، بل يرفعه إلى فيه بيده، ولا يكرع في الماء، بل يرفعه إلى فيه بيده، فإنَّ رَفْع الطَّعام بمغرفة، والشَّراب بقدح، فذلك من زيادة التَّكريم، وهو تناولٌ باليد...
وأمَّا التَّفضيل على كثير من المخلوقات، فالمراد به التَّفضيل المشاهَد؛ لأنَّه موضع الامتنان، وذلك الذي جِمَاعُه تمكين الإنسان من التَّسلُّط على جميع المخلوقات الأرضيَّة برأيه وحِيلته، وكفى بذلك تفضيلاً على البقيَّة.
والفَرْق بين التَّفضيل والتَّكريم بالعموم والخصوص؛ فالتَّكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته، والتَّفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره، على أنَّه فضَّله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه، ودفع الأضرار عنه، وبأنواع المعارف والعلوم، هذا هو التَّفضيل المراد»[2].
وليس فيما ورد في القرآن من تكريمٍ للإنسان وتفضيلٍ له على سائر المخلوقات ما يوحي أو يُشير من قريبٍ ولا من بعيد إلى أنَّ المراد بذلك جنس الرِّجال فقط، وإنَّما يراد به الرِّجال والنِّساء على السَّواء، فالمرأة أيضاً داخلةٌ في السِّياق القرآني دون أدنى شبهةٍ في ذلك، وهذا مُجمع عليه ومسكوت عنه؛ لأنَّ ضوء الشَّمس لا يحتاج إلى التَّدليل على وجوده، فهل بعد هذا التَّكريم للمرأة والتَّفضيل من تكريم؟! وهل بعد هذا البيان من كلام؟!
ولقد شهد التَّاريخ الإسلامي، في عصور ازدهاره مدى تحقُّق هذه الكرامة للمرأة، فنظرةٌ متأنِّية إلى النِّساء العالمات في عهود الإسلام الأُولى، وروايتها للحديث وتعليمها الرِّجال الأفاضل دليل على احترام الإسلام لعقل المرأة والذي هو مناط الكرامة الإنسانيَّة، فكُتب الحديث والفقه والأدب واللُّغة مملوءة بنماذج مشرِّفة لنساء فضليات في مختلف مجالات العلم والمعرفة، ممَّا يؤكِّد على أنَّ المسلمين قد ضمنوا للمرأة كرامتها وحافظوا لها على هذه الكرامة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من علمٍ وفضل.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
[1] التفسير الكبير (21/13).
[2] التحرير والتنوير (14 /130-131).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/1...#ixzz5cb6077Ft