الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
القرآن الكريم هو الصراط والحق المبين، يتوافق مع الفطرة التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها، فإذا سَمِعَه الذين كفروا تغيرَّت ملامحهم، وعبست وجوههم وعلاها الهم والغم والحزن؛ لأنهم من داخلهم يتزلزلون، فهم في أعماقهم يوقنون أنه الحق الذي يرفضونه تعنُّتاً واستكباراً، فيدور الصراع الداخلي بين هذه الفطرة وبين تجبُّرهم وتعنُّتهم، فيظهر أثر ذلك على وجوههم.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُ مْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحج: 72].
المراد بالآيات:
قال ابن عاشور - رحمه الله: «والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات؛ لقوله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾»[1].
وقد وُصفت آيات القرآن بأنها: ﴿ بَيِّنَاتٍ ﴾؛ لتفظيع حال مَنْ أنكَرَها مع وضوحها، إذْ ليس فيها ما يُعذر به منكروها[2]، فقد تضمَّنت: الدَّلائل العقليَّة، وبيان الأحكام[3].
المراد بالمُنكَر:
وللمفسِّرين في المُنكر أقوالٌ عدَّة، وهي من اختلاف التَّنوع لا التَّضاد، على النَّحو التَّالي:
1- تعرف في وجوههم الكراهية للقرآن، قاله الكلبي[4].
2- التجبُّر والترفُّع، قاله ابن عباس رضي الله عنهما[5].
3- المنكر هنا بمعنى الإنكار، فالمعنى: أثر الإنكار من الكراهة، وتعبيس الوجوه[6].
4- الغضب والعبوس[7].
5- الغمُّ والحزن والكراهية[8].
6- وجوههم تتغيَّر من سماعهم القرآن[9].
7- أنكروا أن يكون من الله تعالى، قاله مقاتل[10].
المراد بالسَّطْو:
السَّطوة: هي شِدَّة البطش. يقال: سطا عليه، وسطا به: إذا بطش به وتناوله بالعنف والشِّدة[11].
قال الفرَّاء في قوله: ﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾: «يعني أهل مكَّة، كانوا إذا سمعوا الرَّجل من المسلمين يتلو القرآن كادوا يبطشون به»[12].
فهذه الآية الكريمة تصوِّر حال الكفار عند سماعهم للقرآن العظيم، فمن شدَّة كراهيتهم لذلك ترى في وجوههم عبوساً وتقطيباً وغضباً وانفعالاً، يكاد أن يتحوَّل هذا الأمر إلى الفتك بمن يقرأ عليهم القرآن[13].
قال الشَّوكاني[14] رحمه الله: «وهكذا ترى أهل البدع المُضِلَّة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالِم عليهم من آيات الكتاب العزيز، أو من السنَّة الصَّحيحة مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضَّلالة، رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكَّنَ من أن يسطو بذلك العالِم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف»[15].
وهذا بخلاف حال المؤمنين الصَّادقين، المنقادين للكتاب والسنَّة، فهم حال سماعهم للقرآن العظيم ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، كما قال الله تعالى مادحاً لهم: ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.
جزاء مَنْ هَجَرَ القرآن:
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُ مْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ ﴾ [الحج: 27] أي: هل أخبركم بأشدَّ عليكم وأكره إليكم من سماع القرآن[16]. ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾ [البروج: 5] إنها النَّار التي ﴿ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الحج: 72] في يوم القيامة ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 15] فبئس الموضع الذي يصير إليه مَنْ هجر القرآن الكريم.
وشرّ: اسم تفضيل، أصله أشرّ. أي: إن سألتم عن الذي هو أشدُّ شراً فاعلموا أنه النَّار[17].
ما لي أراكم مغتاظين من سماع آيات الله كارهين لها، أمجرَّد سماع آيات القرآن يفعل بكم هذا كلَّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النَّار في الآخرة.
فالذي ينالكم من النَّار - التي تكادون تقتحمونها بسوء أفعالكم - أعظم ممَّا ينالكم - عند تلاوة هذه الآيات - من الغضب ومن هذا الغم[18].
واستُعملت كلمة: ﴿ وَعَدَهَا ﴾ على سبيل الاستهزاء بهم والتَّقليل من شأنهم؛
لأنَّ الوعد دائماً يكون في الخير، كما في قوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الانشقاق: 24]. فحين أن يسمع البُشْرى يستشرف للخير، فيفاجئه العذاب، فيكون أنكَى له.
ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾ [الكهف: 29].
فإنَّ انقباض النَّفْس ويأسها - بعد بوادر الانبساط - أشدُّ من العذاب ذاته[19].
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
[1] التحرير والتنوير (17/ 241).
[2] انظر: المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
[3] انظر: التفسير الكبير (23/ 59).
[4] انظر: المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
[5] انظر: تفسير الشوكاني (3/ 670)، التفسير الكبير (23/ 59).
[6] انظر: زاد المسير (5/ 328)؛ التحرير والتنوير (17/ 241).
[7] انظر: تفسير القرطبي (12/ 102).
[8] انظر: تفسير السمرقندي (2/ 470).
[9] انظر: تفسير الطبري (10/ 254).
[10] انظر: التفسير الكبير (23/ 59).
[11] انظر: تفسير القرطبي (12/ 102)؛ زاد المسير (5/ 328).
[12] لسان العرب (6/ 260)، مادة: (سطو).
[13] انظر: تفسير الشعراوي (16/ 9928).
[14] هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، الفقيه المجتهد، أحد كبار
علماء اليمن، ولد بهجرة شوكان، ونشأ بصنعاء وولِّي قضاءها. له مؤلفات كثيرة، أشهرها: «فتح القدير»، و«نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار»، و«السيل الجرار»، و«البدر الطالع»، توفي سنة (1250هـ). انظر: البدر الطالع (2/ 214)، الأعلام (6/ 698).
[15] تفسير الشوكاني (3/ 671).
[16] انظر: زاد المسير (5/ 328).
[17] انظر: التحرير والتنوير (17/ 242).
[18] انظر: التفسير الكبير (23/ 59).
[19] انظر: تفسير الشعراوي (16/ 9929).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/131964/#ixzz5c5pbPoqy