دليل النذر قوله تعالى - يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا -النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئا لم يجب عليه، وتارة يكون النذر مطلقا، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد، والنذر المطلق غير مكروه، والنذر المقيد مكروه.
لهذا استشكل جمع من أهل العلم؛ استشكلوا كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في النذر «إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل» يقولون: إذا كان مكروها كيف يكون عبادة؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا، والنذر يكون مكروها كما دل عليه هذا الحديث، فكيف إذا كان مكروها يكون عبادة؟ وهذا الاستشكال منهم غير وارد أصلا؛ لأن النذر ينقسم إلى قسمين: نذر مطلق، ونذر مقيد.
النذر المطلق: لا يكون عن مقابلة، وهذا غير مكروه، أن يوجب على نفسه عبادة لله جل وعلا بدون مقابلة، فيقول لله عليَّ نذر، مثلا يقول قائل: لله عليَّ نذر أن أصلّي الليلة عشرة ركعات طويلات. بدون مقابلة، هذا إيجاب المرء على نفسه عبادة لم تجب عليه دون أن يقابلها شيء، هذا النوع مطلق، وهذا محمود.
النوع الثاني المكروه: وهو ما كان عن مقابلة، وهو أن يقول قائل مثلا: إن شفى الله جل وعلا مريضي صُمْتُ يوما، إن نجحت في الاختبار صليت ركعتين، إن تزوجت هذه المرأة تصدقت بخمسين ريالا -مثلا- أو بمائة ريالا. هذا مشروط يوجب عبادة على نفسه، مشروطة بشيء يحصل له قدرا، من الذي يحصل الشيء ويجعله كائنا؟ هو الله جل وعلا. فكأنه قال إن أعطيتني هذه الزوجة، وإن يسرت لي الزواج بها، صليت لك ركعتين أو تصدقت بكذا. إن أنجحتني في الاختبار صمت يوما ونحو ذلك، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن المؤمن المقبل على ربه ما يعبد الله جل وعلا بالمقايضة، يعبد الله جل وعلا ويتقرب إليه لأن الله يستحق ذلك منه، فهذا النوع مكروه. النوع الأول محمود، وهذا النوع مكروه.
والوفاء بالنذر في كلا الأمرين واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» فتحصل عندنا أن النذر في أربعة أشياء: نذر محمود -نحن ما نقول نذر مشروع فيفهم أحد أنه واجب أو مستحب, لا, نقول محمود، غير مكروه في الشرع، محمود وهو المطلق الذي ما فيه مقايضة ولا مقابلة-.--- النوع الثاني مكروه - وهو الذي يكون عن مقابلة, - الوفاء بالأول[النذر المطلق] بنذر التبرّر والطاعة واجب, الوفاء بالثاني[النذر المقيد ] حتى ولو كان مكروها واجب [الوفاء]، وهو الذي أثنى الله جل وعلا على أهله في الحالين بقوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) لأنه أوجب على نفسه، فلما كان واجبا صار الوفاء به واجبا، فامتثل للوجوب الذي أوجبه على نفسه لأنه يخشى عقابه، فتحصّل من هذه الأربع - منها اثنتان واجبتان وهما الوفاء، وواحد محمود، وواحد مكروه، ولهذا صار غالب الحال-إذ كان عبادة- صار غالب الحال هو الحال التي أنه محمود فيها أو واجب.
وبهذا صار النذر عبادة من العبادات التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، إلا في حال واحدة وهي حال نذر المقابلة.
اتضح لكم هذا المقام؟ لأن بهذا التحرير تخلصون من إشكالات عِدَّة، ربما أوردها عليكم خصوم الدعوة والخرافيون في مسألة النذر. ظاهر؟ تأملوها لأنه قد لا تجد هذا التحرير في كثير من الكتب.
قال (ودليل النذر قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا امتدحهم بذلك بأنهم يوفون بالنذر، وإذ امتدحهم بذلك دل على أن هذا العمل منهم وهو الوفاء بالنذر أنه محبوب له جل وعلا، فثبت أنه عبادة لله جل وعلا.
والنذر له شقان: الشق الأول النذر - والثاني الوفاء به، وكلا الأمرين إذا صُرفت لغير الله جل وعلا فهي شرك.
من نذر لغير الله، أن ينذر لأصحاب المشاهد والأولياء أو القبور، ينذر للمشهد الفلاني، ينذر مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن ينذرَ لأحد من الموتى، ينذر لفاطمة رضي الله عنها، أو ينذر لأحد آل البيت، أو لخديجة، أو ينذر لأحد من الأولياء أو نحو ذلك، يقول: عليَّ نذر للولي الفلاني، ولو كان غير مقابلة هذا إيجاب على نفسه عبادة لمن؟ لغير الله فصار شركا أكبر.
القسم الثاني أن يقول: إن شفى الله-لاحظ- إن شفى الله مريضي فللولي الفلاني عليَّ نذر بكذا وكذا، فهذا على المقابلة، ولو كان على هذا النحو, فصرفه لغير الله جل وعلا شرك؛ لأن القول الأول منه وهو قوله (إن شفى الله مريضي) هذا ربوبية، وقوله (فللولي الفلاني علي نذر) هذا شرك في العبودية, هو أقر بالربوبية ولكنه أشرك بالعبودية, هذا جهة النذر, الوفاء لأصحاب القبور أو نحوهم, أو الجن, أو الملائكة, هذا كله شرك, فلو حصل منها النذر لغير الله فلا يجوز أن يوفِي به, فإن وفَّى به لغير الله سيكون ذلك شرك بعد شرك, لهذا قال عليه الصلاة والسلام «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه», يدخل في ذلك إذا كان النذر لغير الله جل وعلا, قال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) مدحهم بذلك, فدل أن وفائهم بالنذر عبادة يحبها الله جل وعلا [شرح ثلاثة الاصول للشيخ صالح ال الشيخ]