الجواب : كان حياة النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل حياة ، جمع فيها بين العبادة والجهاد والدعوة وأداء حقوق العباد والقيام على شؤون أسرته وأولاده ، فكان قدوة لأمته في أمور الحياة كلها وذلك باعتدال ووسطية دون غلو أو تقصير .
وهناك بعض النصوص الصحيحة قد يسيئ فهمها بعض العامة أو يشكك فيها أصحاب البدع من الفرق الضالة المنحرفة ، وذلك بغرض الطعن في السنة ومصادرها زعما منهم أنهم بذلك يحرصون على الدفاع عن نبيهم صلى الله عليه وسلم .
وأحوال الأنبياء تختلف عن أحوال غيرهم في قوة البدن والرجولة والفحولة رغم شدة اجتهادهم في العبادة ، وهذا دليل كمال وليس دليل نقصان .
وأما الحديث المذكور فهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم ولكن فهم الحديث يتضح من الروايات الأخرى له وأقوال العلماء بما يؤكد أن لهذا الفعل مناسبة ولم يكن بصورة دائمة جمعا بين الأدلة .
أولا : نص الحديث وثبوته :
إذا ثبت الحديث من جهة سنده فيجب الإيمان به وقبوله حتى ولو لم يتيسر للإنسان فهمه ، فكم من النصوص نحتاج فيها إلى الرجوع إلى العلماء لتوضيحها وكشف النقاب عن معناها وفحواها ، وإلا لو احتكم كل إنسان إلى عقله وجعله حاكما على الشرع فإنه سيقبل ما يرضاه عقله ويرفض ما لا يرضاه عقله ويصبح العقل هو الإله المعبود وليس المعبود هو الله خالق العقل .
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَنَسٍ : أَوَ كَانَ يُطِيقُهُ ؟ قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ " رواه البخاري (268).
وعنه رضي الله عنه : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ " رواه مسلم (309) .
ثانيا : الروايات الأخرى التي تفسره وأقوال العلماء فيها :
ذهب كثير من أهل العلم إلى أن حديث أنس السابق لا يدل على العادة المستمرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لعدة أمور :
الأول : أنه قد ورد في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يقسم لزوجاته فيبيت عند كل واحدة منهن ليلة ، إلا أنه يدور عليهن جميعا كل يوم ليسأل عليهن ، ويؤنسهن ، إلا أنه لا يجامع أي واحدة منهن إلا في ليلتها .
وقد دل على ذلك الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" ( 24765) ، و أبو داود في "سننه" (2135) من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : " كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم لا يُفضِّلُ بعضنا على بعضٍ في القَسمِ ، من مُكثه عِندنا ، وكان قلَّ يومٌ إلا وهو يَطُوفُ علينا جميعاً ، فيدنو مِنْ كُلِّ امرأة ، مِن غير مَسِيسٍ ، حتى يَبْلُغَ إلى التي هو يَوْمُها فيبيتُ عندها ". صححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1852)
وموضع الشاهد في الحديث قولها : " فيدنو من كل امرأة من غير مسيس "، أي من غير جماع.
الثاني : أن حديث أنس وإن كان عبر عنه في هذه الرواية بلفظ " كان " والتي تدل على الاستمرار ، إلا أن كثيرا من أهل العلم حملوا ذلك على أنه كان في أوقات مخصوصة ، بل حمله بعضهم على أنه حدث مرة واحدة ، جمعا بين الأدلة .
قال ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار" (1/300) :
[ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا مَعْنَاهُ فِي حِينِ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ ، فِي وَقْتٍ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ ، فَجَمَعهنَ حِينَئِذٍ ، ثُمَّ دَارَ بِالْقِسْمِ عَلَيْهِنَّ بَعْدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهُنَّ كُنَّ حَرَائِرَ ، وَسُنَّتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِنَّ الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ ، وَأَلَّا يَمَسَّ الْوَاحِدَةَ فِي يَوْمِ الْأُخْرَى ، وَهَذَا قول جماعة الفقهاء ] اهـ.
وقال المناوي رحمه الله في "فيض القدير" (5/228) في أثناء شرحه لحديث أنس :
[ ثم قضية "كان" (يعني : مقتضى هذا اللفظ) ، المشعرة باللزوم والاستمرار : أن ذلك كان يقع غالبا ، إن لم يكن دائما .
لكن في الخبر المتفق عليه : ما يشعر بأن ذلك إنما كان يقع منه عند إرادته الإحرام ، ولفظه عن عائشة :" كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيطوف على نسائه ، فيصبح محرما ينضح طيبا. ] اهـ.
وكذا نقله الكشميري رحمه الله في "العرف الشذي" (1/159) عن القاضي أبي بكر بن العربي المالكي ، فقال :
[ قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إن هذه واقعة حجة الوداع قبل الإحرام ، وكان غرضه قضاء حاجتهن ، وإن عبرها الراوي بطريق الاستمرار ولفظ العادة. ] اهـ.
وأكد الصنعاني رحمه الله ذلك في "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/592) فقال :
[ واعلم أن ظاهر " كان يطوف " : أنه كان يداوم على ذلك ، وفي الحديث المتفق عليه ما يؤخذ منه بأن ذلك إنما كان يقع منه عند إرادة الإحرام ، ولفظه عن عائشة " كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضح طيبا ] اهـ.
ومما يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده هذا العدد من زوجاته إلا في آخر حياته صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : ثبوت ذلك عن بعض الأنبياء :
ذلك الأمر لم يكن خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هذا سليمان عليه السلام وهو مشهور بجهاده العظيم في سبيل الله ، كان له النساء الكثير ولم يشغلنه عن جهاده في سبيل الله تعالى ، بل في كتب أهل الكتاب التي بين أيديهم الآن : أنه كان لسليمان عليه السلام : ألف امرأة ، وليس مائة فقط ، وفي الحديث الآتي أنه طاف على مائة امرأة ، منهن ، في ليلة واحدة .
فإذا كان هذا حال نبي الله سليمان عليه السلام ، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأحسن بلا ريب .
روى البخاري (5242) ، ومسلم (1654) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : " قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه ُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ ، فَأَطَافَ بِهِنَّ ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ " .
قال ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (6/462) في شرحه لحديث " لأطوفن الليلة على مائة امرأة " :
[ وَفِيهِ مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ الدَّالِّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّةِ الْفُحُولِيَّةِ وَكَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ ، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ وَالْعُلُومِ ، وَقَدْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَبْلَغُ الْمُعْجِزَةِ ، لِأَنَّهُ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَعُلُومِهِ وَمُعَالَجَةِ الْخَلْقِ ، كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ الْمُقْتَضِيَةِ لِضَعْفِ الْبَدَنِ عَلَى كَثْرَةِ الْجِمَاعِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَة بِغسْل وَاحِد وَهن إحدى عَشْرَةَ امْرَأَةً ] اهـ.
رابعا : إزالة هذه الشبهة :
في الحديث دلالة على أن وقوع ذلك الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم كان في ساعة واحدة من الليل أو من النهار ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي قوة ثلاثين من الرجال في هذا الباب .
وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي أن هذه الساعة كانت له صلى الله عليه وسلم بعد العصر ، بعيدا عن القسم بين نسائه .
قال ابن العربي رحمه الله في "عارضة الأحوذي" (1/230) :
[ وكان الله سبحانه قد خصه في النكاح بأشياء يأتي بيانها إن شاء الله ، لم يعطها لغيره ، منها تسع زوجات في ملك ، ثم أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق ، مقتطعة له من زمانه ، يدخل فيها علي جميع أزواجه فيطؤهن أو بعضهن ، ثم يدخل عند التي الدور لها ، ففي كتاب مسلم عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر ، فلو اشتغل عنها لكانت بعد المغرب أو غيره ، فلذلك قال في الحديث :" في الساعة الواحدة من ليل أو نهار ] اهـ.
والساعة هي الجزء من الزمان ، وليست الساعة الزمنية المعروفة اليوم .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/377) :
] قَوْلُهُ " فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ " الْمُرَادُ بِهَا قَدْرٌ مِنَ الزَّمَانِ ، لَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ ] اهـ.
خلاصة القول : أن هذا الأمر وقع مرة واحدة قبل إحرامه ، وفيه دلالة على كمال رجولته وفحوليته ، وأما العادة المستمرة فهي أنه كان يطوف عليهن كل ليلة ليرعى شؤونهن ويقضي حوائجهن ولكن دون مسيس أي جماع ، ويبيت عند التي جاءت نوبتها عدلا في القسمة بينهن .
والله تعالى أعلم .
|