نكران الجميل


عيوب تحت المجهر4

حورية قاضي، حنين عابد

وهذا العيب دليل على خسة النفس، فصاحب هذه النفس المعروف لديه ضائع، والشكر عنده مهجور، وأقصى ما يرنو إليه هو تحقير المعروف الذي أسدي إليه ، وعدم الوفاء لمن أحسن إليه.
ولله در وهب بن منبه عندما قال:
((ترك المكافأة من التطفيف)) .

وقد عرف العلماء نكران الجميل بأنه:
ألا يعترف الإنسان بلسانه بما يقر به قلبه من المعروف والصنائع الجميلة التي أسديت إليه.

يقول تعالى: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)) النحل 83

والنفس البشرية السوية تحب من أحسن إليها بل وإن الإحسان يقلب مشاعرها العدوانية إلى موالاة حميمة، أخبرنا بذلك خالقنا العالم بنا وبطباعنا.
يقول تعالى :
((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)) فصلت 34

لذا فإن النفس التي تنكر الجميل والإحسان (وتتناساه) نفس لئيمة، وقد قال بعض الفضلاء:
((الكريم شكور أو مشكور واللئيم كفور أو مكفور))
ويسمى هذا الأمر في حق الله تعالى : كفران النعم وجحودها.

والاعتقاد السائد عند أغلب الناس في الصورة الواجبة لشكر النعم الاكتفاء بقول (الحمد لله) دون استكمال أركان الشكر والذي من أهمها أن يتذكر أنه أعطي ما أعطي ليستعين بها إلى الوصول لله تعالى ويستخدمها في طاعته.
وقد ذكر ابن الجوزي في رحمه الله في منهاج القاصدين أن من أهم أسباب حجود النعم هو الغفلة عنها...لأن بعض النعم لعمومها وهي مبذولة لهم في الغالب بلا أدنى سبب كالسمع والبصر وغير ذلك..فلا يرى كل واحد لنفسه منهم اختصاصا بها فيقصرون في الشكر.

ومن الجهل أنهم إذا سلبوا شيئا منها ثم عادت إليهم قدر ذلك واعتبرها عندئذ نعمة فأصبح الشكر موقوفا على سلب النعمة ثم ردها.

وقد وصف الحسن البصري حال بعض الناس في جحودهم لنعم الله بصورة تحكي الواقع وذلك عند توضيح معنى (الكنود) فقال: " هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه " ، فلا يرى و لا يبحث إلا عما ينقصه ، وهذا مدخل عظيم يوصل إلى نكران النعم .
ومن الناس من يسأل الله النعمة سواءً من المال أو الصحة أو الولد فإذا أعطاه الله ، نسي فضل الله ، وبدلاً من أن يشكر الله و يوجه ما أعطاه في مرضاته ، نراه يستعملها فيما ينافي الشكر بل فيما يغضب الله عز وجل ، نسأل الله العافية ، و حال هذا يشبه حال من قال الله فيهم " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّقن و لنكونن من الصالحين ، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون " التوبة 75-76

و أما نكران الجميل مع الناس فله صور متعددة ، فقد يكون بين الزوج و زوجته، و بين الآباء والأبناء ، وبين عامة الناس .
- فكم من زوجة يحسن إليها زوجها و عند أول خلاف قالت : (ما رأيت منك خيرًا قط) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .

- و كم من زوج ينسى ما بينه و بين زوجه من الجميل و الإحسان و يبدأ برصد السقطات و إغفال الحسنات و قد يكون بسبب ساقطة في الفضائيات ، أو لنفسه اللئيمة ، و الله عز وجل يقول " و لا تنسوا الفضل بينكم" البقرة
وهذا الرسول صلى الله عليه و سلم حفظ جميل خديجة رضي الله عنها حتى بعد وفاتها بأبي هو و أمي ..

- و كم من أم مات زوجها فضحت بنفسها و مالها ليكمل ابنها الطريق ، بل و نحتت الصخر حتى ظهر شأنه و علا ، ولما فتح الله عليه ، ووسع له في رزقه إذا به يتنكر لتلك الأم الرائعة ، بل و يفضل زوجته عليها ، بل ربما وصل الأمر لحد العقوق فكم من أم بكت من ولدها .. الله أكبر .. أين هؤلاء من قول ابن عمر رضي الله عنه عندما ذكر الكبائر قال ( و بكاء الوالدين من العقوق ) .. وقد تحدث مثل هذه الصورة و غيرها مع الأب كذلك ..
و هنا أقول لكل زوجة تحرض زوجها على عقوق والديه : اعلمي أنه من لا خير له في والديه ، لا خير فيه في زوجته ، وستظهر الأيام ذلك ..
و ليحمد الله عز وجل كل رجل يرزقه الله بزوجة تذكره و تحرضه على بر والديه ، و خاصة الأم ،
فالزوجة الصالحة من أسباب السعادة ، و من علامات توفيق الله للعبد .

- ومن صور نكران جميل الوالدين : ما يبذله الوالدان من جهدهما و مالهما و وقتهما لصلاح أولادهما ، وربما تحملا المشاق ليصل إلى حلقة في مسجد أو مدرسة تعينه على الصلاح فإذا ما يسر الله للابن صحبة طيبة أو شيوخاً أفاضل أو معلمين أجلاء ، فثبت أقدامه على الطريق و صلح حاله ، و استقام ، نسب الفضل لهؤلاء بعد الله دون والديه و ربما لم ير لهما فضلاً في صلاحه ، نعوذ بالله من الخذلان .
- وفي المقابل ، من الآباء و الأمهات من يرزقه الله بصلاح أولادهم و برهم ، ولكنهم ينكرون ما يقدمه الأولاد لهم ، و يتعنتون ، و يصبح هذا البر كالسيف المسلط على كل أمر .
هذه الصورة و إن كان على الأبناء الصبر و الاحتساب فلن يضيع الله أجورهم ، إلا أنه يعين الشيطان عليهم ، و يقتل الحب بين الآباء و الأبناء ، و الله المستعان..
و على الوالدين أن يحسنا إنزال البر في مواضعه حتى يكونوا عوناً لأولادهم على زيادة البر و العطاء .

وهناك صورة أصبحت متفشية للأسف ، و هي أن يكون الإنسان في غفلة و تيه عن الحق ، منغمساً في ضلالة و عصيان ، فيقيض الله له داعية أو مصلحاً فينتشله مما كان فيه ، و يكون سبباً في هدايته ، حتى إذا ما فتح الله عليه ، و استزاد في طريقه و تعرف على من يظن أنه أعلم .. نسي صاحب الفضل الأول عليه بعد الله .. بل ربما انقلب عليه و أصبح همه و شغله الشاغل تتبع عوراته و زلاته ، و يحرص على فضحه و التشهير به ..
فيالله .. أي نفس لئيمة هذه ؟!

وهذا العيب له آثار وخيمة منها :
1. أنه من أسباب زوال النعمة بعد حصولها .
2. يؤدي إلى نسيان نعم الله على العبد ، وبالتالي إلى الجحود .
قال ابن الأثير في النهاية : (من كانت عادته و طبعه كفران نعمة الناس وترك شكره لهم ، كان من عادته كفر نعمة الله عز و جل و ترك الشكر له ) .
3. تخلي الناس عنه و خاصة عندما يحتاج إلى المعونة .
4. يجلب الشقاء و نكد البال و سوء الحال .
5. يؤدي إلى تولد الكراهية و يقطع الأواصر بين الناس .

العلاج
1. تعاهد النفس بتذكيرها نعم الله عليها دوما ، و لنقرأ هذه الآية جيداً ، يقول تعالى " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم " فاطر 3
نلاحظ قوله تعالى "اذكروا" فيها أمر للإنسان أن يذكر نفسه التي من طبيعتها النسيان ، فهي تحتاج إلى وقفات تستعرض النعم استعراضاً .. نعمة .. نعمة .. حتى يثمر ذلك الشكر ، و إلا فإن تقلب الإنسان فيها إن لم يذكر نفسه أنها من الله تجعله يركن إليها ، وينسى أداء حقها و الله المستعان ..

2. المسارعة في رد المعروف لقوله صلى الله عليه و سلم : ]من أتى عليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه [ .
3. الحرص على الاتصال بحلقات الذكر و مجالسة من يذكر النفس بالحقوق و أدائها لأصحابها .
و أخيراً ..
كلمة نذكر بها من واجه نكران الجميل ، وهي مقولة رائعة لأحد الحكماء : (لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره ، فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه ) .
فأجره عند الله لن يضيع ، و سيرفع الله قدره و شأنه عند الناس ، و يخذل من ينكر صنيعه ..
و عبارة جميلة لا بد أن لا ننساها :
"الكريم يحفظ ود ساعة " .