وكأنه بين أظهرنا يحكي واقعنا:
قال عماد الدين أبو العباس الواسطي، المعروف بابن شيخ الحزاميين، -دفاعًا عن ابن تيمية من منتقصيه-:
(وأما من عمل كراسة في عدِّ مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئًا من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصود ذكر الفضائل، بل المقصود تلك المثالب، ثم أخذ الكراسة يقرؤها على أصحابه واحدًا واحدًا في خلوة، يوقف بذلك همهم عن شيخهم، ويريهم قدحًا فيه، فإني أستخير الله تعالى وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل، وأقول انتصارًا لمن ينصر دين الله بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن كما قال ورقة بن نوفل: (لئن أدركني يومك لأنصرنك نصرًا مؤزرًا)، ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تعدي الحدود والإخلاد إلى الهوى.
أقول: مثل هذا -ولا أُعَيِّن الشخص المذكور بعينه- لا يخلو من أمور:
أحدها:
أن يكون ذا سن تغير رأيه لسنه؛ لا بمعنى أنه اضطرب، بل بمعنى أن السن إذا كبر يجتهد صاحبه للحق، ثم يضعه في غير مواضعه؛ مثلًا يجتهد أن إنكار المنكر واجب، وهذا منكر، وصاحبه قد راج على الناس فيجب عليَّ تعريف الناس ما راج عليهم، وتغيب عليه المفاسد في ذلك.
فمنها: تخذيل الطلبة، وهم مضطرون إلى محبة شيخهم، ليأخذوا عنه، فمتى تغيرت قلوبهم عليه ورأوا فيه نقصًا حرموا فوائده الظاهرة والباطنة، وخيف عليهم المقت من الله أولًا، ثم من الشيخ ثانيًا.
المفسدة الثانية: إذا شعر أهل البدع الذين نحن وشيخنا قائمون الليل والنهار بالجهاد والتوجه في وجوههم لنصرة الحق، أن في أصحابنا من ثلب رئيس القوم بمثل هذا؛ فإنهم يتطرقون بذلك إلى الاشتفاء من أهل الحق ويجعلونه حجة لهم.
المفسدة الثالثة: تعديد المثالب في مقابلة ما يستغرفها ويزيد عليها بأضعاف كثيرة من المناقب؛ فإن ذلك ظلم وجهل.
والأمر الثاني: من الأمور الموجبة لذلك: تغير حاله وقلبه، وفساد سلوكه بحسدٍ كان كامنًا فيه، وكان يكتمه بُرهة من الزمان، فظهر ذلك الكمين في قالبٍ، صورته حق ومعناه باطل.
وفي الجملة: -أيدكم الله- إذا رأيتم طاعنًا على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولًا، ثم في فهمه، ثم في صدقه، ثم في سنِّه، فإذا وجدتم الاضطراب في عقله دَلَّكم على جهله بصاحبكم، وما يقول فيه وعنه، ومثله قلة الفهم، ومثله عدم الصدق، أو قصوره؛ لأن نقصان الفهم يؤدي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه، ومثله العلو في السنِّ فإنه يشيخ فيه الرأي والعقل كما تشيخ فيه القوى الظاهرة الحسية، فاتهموا مثل هذا الشخص واحذروه، وأعرضوا عنه إعراض مداراة بلا جدل ولا خصومة ...). [رسالة التذكرة والاعتبار في الانتصار للأبرار للواسطي في الثناء على ابن تيمية، نقلًا عن الانتصار: (صـ 338 - 340)، لابن عبد الهادي].