انطلاقا من الحديث النبوي: «قل آمنت بالله ثم استقم»:



الوازع الديني.. صحة سلوكية



د. منتصر الخطيب




عــــن أبــــي عمـــر سفـــيان بن عــــبدالله "رضي الله عنه" :

قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم». فأجابه " صلى الله عليه وسلم" :


أولا: بالإقرار بالتوحيد لله تعالى ومعرفته بربه.


وثانيا: بالاستقامة على طريقة الدين؛ أوامره ونواهيه، عقائده وعباداته، معاملاته وآدابه.


الحديث إذن يتضمن شطرين أساسيين: «آمنت بالله» و«استقم».

اعتقاد وسلوك.. قول وعمل، إنه بصفة مختصرة: الإيمان؛ باعتبار أن الإيمان: قول وعمل.

والاستقامة هنا معناها «ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق»، قال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ} (فصلت:6)، وقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود:112). وتطلق كذلك على «الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف» بما يشمل من الحاجة إلى اليقظة الدائمة، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل عن الاتجاه قليلا أو كثيرا.

هذه المعاني المترادفة وردت لتؤكد لنا أن العقيدة الإسلامية جاءت متسمة بالوضوح والبساطة؛ فالإله واحد، مطلق الوحدانية، متفرد بالخلق مطلق التفرد، متصف بصفات الكمال المطلق، وهو يرسل الرسل إلى الناس ليبينوا لهم طريق الحق، فيكون الناس بذلك مسؤولين، يترتب على مسؤوليتهم الثواب والعقاب في الدار الآخرة. وحقائق العقيدة الإسلامية هذه هي حقائق لا تتجاوز نطاق العقل وإنما هي في حدوده وإمكاناته، بل إن التصديق بها لا يكون تصديقا معتدا به إلا إذا كان ناشئا عن اقتناع عقلي، ولذلك كان القرآن الكريم شديد الإلحاح على استعمال العقل للإيمان بالعقيدة.

فحين عرض الوحي أصول العقيدة الإسلامية من خلال البحث في مصادر المعرفة، التي تجمع بين المصدرين الأساسيين (المصدر الإلهي المتمثل في الوحي، والمصدر البشري المتمثل في العقل والحواس)، أعطى العقل البشري منهجا للاقتناع، وسلك به السبل الموضوعية الموصلة إليه عن طريق تقديم دلائل عقلية وبأسلوب محكم وبرهنة قاطعة.

فالكون إذن بما يشمل من ظواهر طبيعية وإنسانية، وكل ما يعلم من شأن الموجودات في هذه الدنيا من مخلوقات، كالإنسان والحيوان ومكونات الأرض والسماء والأفلاك والنجوم والكواكب والجبال والبحار، وما يتبع ذلك من حركات وسنن كونية، هو مصدر ثقة ويقين للوصول إلى المعرفة. والقرآن في دعوته الناس إلى العقيدة الصحيحة يوقظ فيهم تلك المبادئ الضرورية؛ ليزنوا بها ما هم عليه من اعتقاد: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (الروم:8)، {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ (32) } (عبس:24-32)، {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} (الغاشية:17-20). ومن ثم كان منهج التفكر، الذي دعا إليه القرآن، أساسا في التعامل مع الإنسان منذ طفولته، وحتى إذا وصل الأبناء إلى مرحلة من الرشد والتفكير فحينئذ لا بأس على الآباء من مناقشة أبنائهم في مسائل الاعتقاد والإيمان وعرضها عليهم عرضا جديدا؛ ليكون إيمانهم عن اقتناع وليس عن تكليف. فإذا ما استقبل الشاب قضية إيمانه استقبال اقتناع لا يمكن أبدا للأهواء ولا للانحرافات أن تصل إليه؛ لأنه ستكون عنده مناعة كافية.

إلا أن العقل البشري، ورغم كل تلك الإمكانات، قد لا يصل إلى إدراك جميع المخلوقات وما خفي عنه من أمور الغيبيات، بل حتى إنه قد لا يدرك الحسن والقبيح من الأفعال بصورة إجمالية، فقد أجمع المسلمون على أن الأفعال توصف بالحسن والقبح لا لذواتها ولا لأوصافها ولا لاعتبارات تلحقها، وإنما توصف من حيث تعلق خطاب الشرع بها؛ فإن تعلق بها نهي فهي قبيحة، وإن تعلق بها حسن فهي حسنة، فالقبيح ما نهى الشرع عنه، والحسن ما لم ينه الشرع عنه، فالفعل الواحد قد يدور عليه الحسن والقبح دورات متعددة باختلاف المحل والوقت والعلة.

لذلك كانت العقيدة هي الموجه الرئيسي الذي يدفع بالناشئة إلى التزام طريق الاستقامة، والتعلق بقيم الفضيلة. والنفس البشرية، بحسب فطرتها، تميل إلى ما تمثله الفضيلة، لأنها الكفيلة بإصلاح الانحرافات السلوكية، ولأن أثرها ينعكس بطريقة إيجابية وسريعة على أخلاقية المجتمع، أفرادا وجماعات.

إن مفهوم الصحة النفسية المطلوبة في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الشباب هو خلق حالة من الاتزان والاعتدال النفسيين الناتجين عن التمتع بقدر من الثبات الانفعالي الذي يميز الشخصية، والمتجلية في الشعور بالطمأنينة والأمان والرضا عن الذات، والقدرة على التكيف مع الواقع وحل مشكلاته وامتلاك مهارات التفاعل الاجتماعي والمشاركة البناءة في تنمية المحيط. وهذا ما رسم طريقه ديننا لبناء الفرد وتكوين شخصيته وسلوكه حتى يكون إنسانا صحيح الجسم والعقل والنفس، وليجعل منه لبنة قوية متماسكة وعنصرا إيجابيا صالحا في مجتمعه. لذلك متى كانت علاقة المراهق بالراشدين - وعلى وجه الخصوص الآباء - سليمة، وساعدوه على إبراز ذاته والاعتماد على نفسه، مع رعايته وتوجيهه، إلا أدى ذلك إلى خلق جو من الثقة في نفسية المراهق ومكنه من نمو صحيح متزن. ومتى عود الشباب نفسه، منذ بداية مرحلة إحساسه بذاته، أن يراقب الله تعالى عند كل عمل يعمله موقنا أن الله تعالى مطلع على جميع أعماله، ومعتقدا أنه تعالى يجازي من أطاعه برضوانه وإحسانه، وأنه ينزل غضبه ومقته على من خالفه وعصاه، إذا عود نفسه على ذلك سهل عليه أن يفعل ما أمره الله به ويجتنب ما نهاه عنه، فإذا سولت له نفسه أن يرتكب أمرا مخالفا، ردها وزجرها وذكرها بعزة الله وجلاله وأنه تعالى قادر على الانتقام منه ومطلع عليه.

ولهذا نجد أنه حتى في العبادات المتكررة التي فرضها الله سبحانه على المسلمين، تضمنت كثيرا من الأسرار النفسية والاجتماعية والمقاصد الحيوية التي تستهدف خير الإنسان وتربية قلبه السليم. فالصلاة مثلا، وهي عماد الدين وهي أقوى رباط بين العبد وربه، قد اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يكون في تكرارها طرفي النهار وزلفا من الليل ما يعمر الوجدان ويزيد القلب خشوعا فيطمئن القلب بذكر الله وتسلس الغرائز الجامحة، فلا يكاد المؤمن المصلي ينسى ندمه وحياءه من ربه في وقت من الأوقات ويرجع إلى خطيئة جديدة حتى تأتيه الصلاة التي بعدها فيرجع وهو نادم على ذنبه أو تائب منه {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45).. والزكاة كذلك تضمنت معنى إكرام الفقراء بإخراج ما زاد على حد النصاب، والصيام كذلك تضمن معنى مشاركة الغير في إحساسهم بالنقص (من الجوع والعطش). ومن هنا يجب علينا أن نعنى العناية كلها بإحياء هذا الوازع الديني في نفوس الشباب، وأن نتخذ منه وسيلة لتحصين القيم الأخلاقية في المجتمع.

فالصحة الإيمانية التي يهتم بها الإسلام إذن في توجيه الأفراد، صغارا وشبابا، تهدف إلى تحرير الإنسان من كل أشكال الخوف أو القلق وكل ما يقود إلى الضعف أو التسامح في الكرامة الإنسانية؛ وكمثال على ذلك مشكلة الخوف والقلق من الموت هي من الأمور الواردة في الحياة الإنسانية.. ومن أجل ذلك نرى الإسلام قد عالج هذا الخوف من خلال عقيدة التوحيد، فيرسخ في وجدان المسلم أن مالك الملك هو وحده الذي يملك الموت والحياة، وأنه هو سبحانه من بيده هذا الأمر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (العنكبوت:57)، وهذا الموت إنما هو مطية للابتلاء والاختبار {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك:2)، وأنه هو الذي قدر الآجال وحددها {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } (الأعراف:34). فالصحة الإيمانية، بما تقتضيه من توافق الفرد مع ذاته وتوافق الفرد مع بيئته وتوفير السلامة النفسية، تضمن له درجات من الأمان والطمأنينة والثبات في الفؤاد، فيؤدي ذلك إلى نوع من الاتزان الانفعالي والعاطفي والعقلي؛ دفعا للصراعات الداخلية المسببة للقلق والتوتر، وقد جاء في الحديث: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (رواه مسلم). وقد عبر محمد إقبال بهذه الكلمة المختصرة التي حدد فيها سمة المؤمن حيث قال: «المؤمن هو من يستقبل الموت وعلى شفته ابتسامة».

إن الحديث النبوي الوارد في عنوان هذا المقال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم»، وجدنا فيه أن الرجل سأله أن يبين له في دين الإسلام وشريعته قولا جامعا لأموره، يكفيه بحيث لا يحتاج إلى أن يسأل عنه أحدا بعد رسول الله " صلى الله عليه وسلم" لكونه واضحا في نفسه مبينا لغيره، فأجابه " صلى الله عليه وسلم" بالإقرار بالتوحيد لله تعالى ومعرفته بربه أولا، ثم الاستقامة على طريقة الدين، أوامره ونواهيه، عقائده وعباداته، معاملاته وآدابه، ثانيا، وهذا من بديع جوامع الكلم.