أكرم الله هذه الأُمَّة بالقرآن الكريم، أنزله الله دستورَ حياةٍ بما فيه من الحِكَم والأحكام، والمواعظ والآداب، والبلاغة والإعجاز، وضمَّنه الأساليب والقيم التربوية التي لها الأثر العظيم في تقويم الجيل ونهضة الأُمَّة، وخيرُ دليلٍ على ذلك كيف ربَّى القرآن جيل الصحابة رضي الله عنهم بأساليبه، وألزمهم بقِيَمِه، فكانوا خير جيل عرفته البشرية، ولما ابتعد المسلمون شيئًا فشيئًا عن معينه، ابتعدوا عن النهضة والريادة؛ لذلك كان حريًّا بالمربِّين والدُّعاة التعرُّف على أساليب القرآن التربوية وتطبيقها في تعليمهم الجيل، وغرس القيم العالية التي دعت لها الآياتُ في نفوس المتعلِّمين، حينها نخرج بالمربِّين والمتعلِّمين من الفتن المتلاطمة إلى بَرِّ الأمان والسؤدد في الدنيا والسعادة في الآخرة.
إن سور القرآن حَوَتِ الكثيرَ من الجوانب التربوية، فاخترت سورة الممتحنة لاستنباط الأساليب التربوية الثلاثة من آياتها.
أولًا: أسلوب الترغيب والترهيب:
الترغيب لغةً: الرَّغْبُ والرُّغْبُ والرَّغَبُ، والرَّغْبَة، والرَّغَبُوتُ، والرُّغْبَى والرَّغْبَى، والرَّغْبَاءُ: الضَّراعة والمسأَلة[1].
واصطلاحًا: هو كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه.
الترهيب لغة: رَهِبَ، بِالْكَسْرِ، يَرْهَبُ رَهْبةً ورُهْبًا بِالضَّمِّ، ورَهَبًا، بِالتَّحْرِيكِ؛ أَي: خافَ، ورَهِبَ الشيءَ رَهْبًا ورَهَبًا ورَهْبةً: خافَه[2].
واصطلاحًا: هو كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله.
يمكننا باستقراء آيات القرآن أن نعرف الترغيب، والترهيب كما يلي:
الترغيب وعْدٌ يصحبه تحبيبٌ وإغراء، بمصلحة أو لذَّة أو متعة آجلة، مؤكدة، خيرة، خالصة من الشوائب، مقابل القيام بعمل صالح، أو الامتناع عن لذَّة ضارَّة أو عمل سيئ ابتغاء مرضاة الله، وذلك رحمة من الله لعباده، والترهيب وعيدٌ، وتهديد بعقوبة تترتَّب على اقتراف إثم، أو ذنب ممَّا نهى الله عنه، أو على التهاون في أداء فريضة ممَّا أمر الله به، أو هو تهديد من الله، يُقصد به تخويف عباده، وإظهار صفة من صفات الجبروت، والعظمة الإلهية؛ ليكونوا دائمًا على حذرٍ من ارتكاب الهفوات والمعاصي[3].
لقد اعتمد القرآن الكريم هذا الأسلوب التربوي، فهو مِن أنجح الأساليب التربوية والدعوية؛ لأنه يعتمد على مبدأ الثواب والعقاب، ومن طبيعة البشر أنها تُقبل على كل أمر تنتفع بعمله، وتبتعد عن كل أمر فيه الضرر والعقوبة.
في سورة الممتحنة نلاحظ أن الموضوع الأساس فيها هو النهي عن موالاة أعداء الأُمَّة وإفشاء الأسرار إليهم، فإذا تأمَّلنا بداية السورة حين وجَّه الله هذا النهي قائلًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1]، نلاحظ أنه سبحانه بدأها بنداء لطيف مُحبَّب للنفوس من قبيل الترغيب، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾، فهو ترغيب للمؤمنين بأن خالقهم وإلههم الذي آمنوا به نهاهم عن موالاة الأعداء؛ مما يورث الخجل من الله والحياء منه، والإقلاع عن هذا الذنب، وفي نهاية الآية نفسها رهبهم وخوَّفهم من نفس الأمر، فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾، ومعلوم أن من ضلَّ سواء السبيل عُوقِب بغضب الله ومقته.
وبين هذين الأسلوبين، الترغيب في بداية الآية والترهيب في نهايتها، ساق سبحانه الأسباب المقنعة التي تحملهم على الابتعاد عن موالاة الأعداء، فهذه الآية "فيها ما فيها من الأساليب الحكيمة للدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل؛ لأن الله عندما نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه، ساق لهم الأسباب التي تحملهم على قطع كل صلة بهؤلاء الأعداء، فذكر أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بالله، وحرصوا على إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم، وأنهم إن يتمكَّنوا من المؤمنين، فسينزلون بهم أشدَّ ألوان العذاب، وهذا يجب أن يتعلَّمَه الدُّعاة إلى الله؛ أن على رأس الوسائل التي توصلهم إلى النجاح في دعوتهم أن يأتوا في دعوتهم بالأسباب المقنعة لاعتناق الحق واجتناب الباطل".
ثانيًا: أسلوب التربية بالقدوة الحسنة:
القدوة لغة: يُقَالُ: قِدْوَةٌ وقُدْوةٌ لِمَا يُقْتَدى بِهِ، وقال ابْنُ سِيدَه: القُدْوَة والقِدْوَة مَا تَسَنَّنْتَ بِهِ، قُلِبَتِ الْوَاوُ فِيهِ يَاءً لِلْكَسْرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ[4].
وفي الاصطلاح: القدوة والاقتداء: طلب موافقة الغير في فعله[5]، فالقدوة الحسنة من أهم أركان التربية، فبواسطتها يتحقَّق المثال الرائع والنموذج الصادق الذي يسعى الجميع إلى اقتفاء أثره، فهو التطبيق العملي الحسِّي للخير، فالطفل بحاجة إلى أب قدوة، والطالب بحاجة إلى معلم قدوة، والناس بحاجة إلى داعية قدوة، والجميع لهم سيد القدوات صلى الله عليه وسلم الذي كان قدوةً في أقواله وأفعاله وأخلاقه.
وفي سورة الممتحنة بعد أن نهى الله سبحانه عن موالاة أعداء الأُمَّة، أتبعَ ذلك ببيان موقف عملي ليكون القدوة الحسنة لهم في ذلك، إنه إبراهيم عليه السلام الذي تبرَّأ من أبيه وقومه؛ بسبب كفرهم وعنادهم، فقال سبحانه: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]، ثم كرر التذكير بهذه القدوة الحسنة مرة أخرى في السورة فقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الممتحنة: 6]، وهذا التكرار للتأكيد على أهمية التربية بالقدوة الحسنة.
ثالثًا: أسلوب الدعاء:
الدعاء لغة: الرغبة إلى الله عز وجل، دعاه دعاء ودعوى[6].
واصطلاحًا: استدعاء العبدُ ربَّه عز وجل العنايةَ، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرُّؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلَّة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه[7].
وفي سورة الممتحنة بعد أن ذكر الله أسلوب القدوة في الآية الرابعة، ثم كرَّرها في الآية السادسة، وسَّط بين هاتين الآيتين دعاءً تعليمًا وتربية للأُمَّة فقال: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5]، قال الشوكاني رحمه الله: "قيل هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا مثل هذا القول"[8].
فالدعاء له شأن عظيم عند الله، هو عبادة، واستمطار رحمة الله، به تُستجلَب النِّعَم، وتُدفَع النِّقَم، وكثير من آيات القرآن هي أدعية لتُعلِّمَ المؤمنين وتُربِّيهم على الخضوع له سبحانه، وطلب العون والمدد منه، فبالدعاء يُطرَد اليأسُ من القلوب، ويكون اللجوء إلى قوة الله والاعتصام به.
المصادر:
1- لسان العرب؛ جمال الدين ابن منظور، الناشر: دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة 1414ه، 15 جزءًا.
2- أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع؛ عبدالرحمن النحلاوي، الناشر: دار الفكر، الطبعة الخامسة والعشرون 2007م، عدد الأجزاء:1.
3- فتح القدير؛ محمد بن علي الشوكاني، الناشر: دار ابن كثير- دمشق، الطبعة الأولى 1414هـ، عدد الأجزاء: 6.
4- شأن الدعاء؛ حمد بن محمد الخطابي، تحقيق: أحمد يوسف الدَّقاق، الناشر: دار الثقافة العربية، الطبعة الأولى، 1984م، عدد الأجزاء: 1.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
[1] لسان العرب 1/ 422.
[2] لسان العرب 1/ 436.
[3] أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، 1/ 231.
[4] لسان العرب 15/ 171.
[5] فتح القدير 2/ 157.
[6] لسان العرب 14/ 257.
[7] شأن الدعاء 1/ 4.
[8] فتح القدير 5/ 253.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/131180/#ixzz5ZAdXYn5y