فقه اللغة العربية وأثراه في فقه الحديث النبوي الشريف وفهمه
الأستاذ الدكتور بنعيسى بويوزان
الكلية المتعددة التخصصات. تازة
جامعة سيدي محمد بن عبد الله. فاس
ملخص
إن تبيين كتاب الله عز وجل الذي هو في حد ذاته بيان مطلق، يتطلب لغة تقع موقعا عاليا جدا من البلاغة والبيان والفصاحة، بحيث تقع كل لفظة من هذه في موقعها الصحيح الذي ينبغي أن تكون فيه، لأن الخطأ في التبليغ مستحيل في حق صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من الله عز وجل، فما دام كلامه صلى الله عليه وسلم في سنته وحيا، يبين به الكتاب الكريم الذي أنزل إليه من ربه سبحانه، فإن الدقة اللغوية شكلا ومضمونا، يجب أن تكون في مستوى هذا التبليغ والتبيين الذي كُلف به صلى الله عليه وسلم. لأن مهمته صلى الله عليه وسلم، بالغة الدقة أيضا.
وهذه الدقة في تبيين هذه الأحكام تقتضي، فيما تقتضيه، الدقة اللغوية، والتي تعني في هذا البحث، ثلاثة أمور:
الثروة اللغوية على مستواها المعجمي: بحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يملك ثروة معجمية هائلة.
البيان: ويكون على مستوى التركيب بين أجزاء الكلام، بحيث يكون الكلام المؤلّف في سياق مركب، غاية في الدقة والوضوح، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي هذا التركيب الفائق من لدن الله عز وجل.
ج- الفصاحة: ويكون على مستوى اختيار المعجم الأفصح ليكون أكثر بيانا وإبانة في التركيب الذي يوضح فيه، ذلك لأن الإحاطة بألفاظ اللغة العربية، والعلم بمسالك تأليف تلك الألفاظ بعضها مع بعض، هو عين الفصاحة في أعلى مراتبها، وهو ما كان من شأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعني على وجه الإجمال، أن البلاغة والفصاحة النبوية، هما في أعلى المراتب، بما أنعم به الله عز وجل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من بليغ القول وفصيحه، وهو يخاطب العرب من حوله بلغتهم التي توارثوا التخاطب والإبداع بها أمدا طويلا، والذين كانوا يفهمون كلامه جيدا، ولكن سبيلهم إلى الكلام بمثل ما تكلم به، كان سبيلا قصرت دونه الهمم، وعييت ولا شك دونه الألسنة.
وعليه فإن الحديث النبوي الشريف، مبني على مجموعة من الضوابط لا مناص منها لكل من أراد أن يتناول الحديث الشريف تناولا علميا، هي:
أ- لغة الحديث النبوي والعرف اللغوي:
وهذا الضابط في غاية الأهمية، لأن احترام العرف اللغوي العربي في كل شيء، يعتبر عصب اللغة العربية وقطبها الذي عليه المدار، وهذا رأي كل البلاغيين العرب وهم يحللون الكلام العربي شكلا ومضمونا.
ب- العرف اللغوي والتطور اللغوي:
وهذا العنصر هو أيضا في غاية الأهمية، لارتباطه الوثيق بالاستدلال على الأحكام الشرعية المستنبطة من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يراع العرف اللغوي، وما حصل من تطور في الاستعمال اللغوي لبعض المفردات العربية، حصل الزلل في الاستدلال، والشطط في البرهنة.
ج- «فهم اللغة» و«فقه اللغة»:
رغم ما قد يبدو في الظاهر من تماثل بين مصطلحي الفهم والفقه اللغويين، إلا أن المتمعن في الأمر مليا، يظهر له بأن هناك فارقا واضحا، وإن كان بين الجانبين تداخل لا مرية فيه، لأن التمييز حتمي بين مدلولات الألفاظ، ومجالات استعمالاتها حسب العرف اللغوي، لأن اللفظة الواحدة، رغم احتفاظها ببنيتها الصرفية والصوتية لأمد غير قصير، إلا أنها تخضع باستمرار لعمليتي الإفراغ والشحن: إفراغ من مدلول سابق، وشحن بمدلول لاحق، وهذا ما يحتم، ليس الفهم اللغوي فحسب، وإنما يحتم الفقه اللغوي.
د- إتقان علوم اللغة العربية: لأن فقه دلالات الألفاظ في سياقاتها المختلفة، لا يتأتى مطلقا إلا بإتقان المعرفة بتصاريف الكلام العربي، لأن الجملة الواحدة في اللغة العربية، ما هي إلا نتاج لعملية لغوية معقدة تجمع بين اللفظ والمعنى والنحو والصرف وعلوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع: وعليه فلابد لفقه آية من القرآن الكريم أو حديث من الأحاديث الشريفة، من إتقان هذه العلوم على أحسن وجه، وهو ما جعل علماء الأمة يلحون على هذا أيما إلحاح.
هـ- فقه اللغة والتلقي عن السلف:
وهذا ضابط له أهمية خاصة تجعل كل ما قلناه سابقا متوقفا عليه إلى حد كبير، لأن التفقه في اللغة والتبحر في علومها، يجب أن يسير بموازاة مع ما أُثر عن السلف الصالح في القضايا المتناولة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ألح عليه العلماء القدامى.
و- دلالة الألفاظ ودلالة السياق في الحديث النبوي الشريف:
إن منهج علم أصول الفقه بخاصة، في تعامله مع الحديث الشريف، أنه ينظر في الألفاظ الواردة في نص الحديث في ذاتها أولا، ينظر إليها في علاقتها بالسياق العام للحديث الشريف، فيخلص إلى ما يخلص إليه بعد النظر والتمحيص، لأن إغفال جانب من هذين الجانبين يؤدي ولا شك إلى مجانبة الصواب، وهنا ينبغي التركيز على أمرين:
1- دلالة الألفاظ في ذاتها:
وهذا يعني بالدرجة الأولى ضرورة الإلمام بالمخزون اللغوي العربي، لأن اللفظة الواحدة في العربية، لها عدة معانٍ سمعت عن العرب، واستعملوها في أشعارهم وأنثارهم وأمثالهم، ولابد من ضبط معنى اللفظة الواحدة، لن هذا الضبط هو البوابة إلى ما هو أهم، وهو معرفة دلالتها داخل سياق الحديث، فإذا كانت اللفظة مما يحتمل أكثر من معنى، فلا يضبط ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم إلا من خلال السياق الذي وردت فيه.
2- دلالة الألفاظ داخل سياق الحديث الشريف:
فمن المعلوم أن اللفظة العربية الواحدة لا تستعمل منفردة أو منعزلة عن غيرها من الألفاظ ليعبر بها عن معنى مقصود، وحتى وإن كانت ترى منفردة في سطر ما، فإنها لابد وأن تكون متعلقة بمحذوف مضمر جوازًا أو وجوبًا، يجب تقديره لفهم المطلوب، لأن الألفاظ في اللغة العربية وضعت أصلا لكي تركب في سياق معين.
وهذا العنصر الأخير، لا يتأتى فقط بالدربة على الاستعمال اللغوي اصطلاحا وعرفا، أو الحذق بالأساليب المختلفة في التعبير، وإنما لابد من عنصر آخر في غاية الأهمية، كثيرًا ما يغفل عنه، فيقع المحذور منه، وهو عنصر «الذوق اللغوي» الذي اهتم به علماء اللغة العربية اهتماما خاصا في مثل هذا المقام.
وكل هذا، برهن عليه البحث من خلال تطبيقات مختلفة على شواهد متنوعة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، مما جرى كثيرًا على ألسنة علماء الأصول. وهو يستنبطون الأحكام الفقهية من السنة النبوية الشريفة.
توطئة:
اقتضت حكمة الله –جل وعلا- ومشيئته سبحانه ألا يرسل رسولا إلى أمته ليبلغهم رسالاته –عز وجل- إلا بلسان قومه، حتى تحصل المنفعة من الرسالة، وتقع الحجة على الأمة المرسل إليها بحصول الفهم المقصود من الخطاب الذي كلف رسولها بتبيينه لها على الوجه المطلوب، فقال الله عز وجل: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ). إبراهيم، الآية 4؛ قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: «هذا من لطفه تعالى بخلقه، أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم»([1]).
وعليه، فإن حصول المقصود من الرسالات السماوية، يقتضي أن تكون بلغات أمم الأنبياء والمرسلين، وبألسنتها التي يسهل التوصل بها أفرادا وجماعات، حتى تتمكن من فهم الأحكام الربانية على الوجه الأوضح والأكمل، لكيلا يكون للناس على الله –جل وعلا- حجة بعد الرسل.
ورسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم تسير على هذا النهج نفسه، فقد أرسله الله –جل وعلا- بأفضل الرسالات إلى الناس كافة، بلسان عربي مبين، تماما كما أرسل الله –عز وجل- إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام إلى أممهم بألسنتها ولغاتها، إلا أن كل نبي كان يرسل إلى قومه خاصة، وأرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، عربا كانوا أو غير عرب، لأنها رسالة خاتمة جامعة، لمن يعرف العربية ولمن لا يعرفها، لهذا قال القرطبي –رحمه الله في تفسير الآية السابقة من سورة إبراهيم، وقد أجاد: «قوله تعالى (ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ)، أي قبلك يا محمد (إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ)، أي بلغتهم؛ ليبينوا لهم أمر دينهم، ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم: لأن المراد اللغة، فهو اسم جنس يقع على القليل والكثير، ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية؛ لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها، لزمته الحجة»([2]).
وأكثر من ذلك، أن الله عز وجل شفع كتابه الكريم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مبينة ومفصلة لجميع أوامره ونواهيه، وكل أحكامه بعامة، على نحو واضح المعالم، وبلغة شديدة الوضوح، سهلة المتناول، قريبة المأخذ، كان يفهمها العرب زمن النزول والتشريع على حقيقتها –وإلى اليوم، وإن حالت الهجنة والعجمة التي أصابت ألسنة الناس بعد زمن السليقة العربية –صافية النبع، صفاء الرسالة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
لذلك جاءت لغة السنة النبوية الشريفة في المقام العالي. بعد لغة القرآن الكريم. من البيان والفصاحة، لأن مقام التبليغ عن الله عز وجل، بتوضيح كتابه الكريم المعجز ببيانه ولغته، وتفصيل آياته وأحكامه، يقتضي لغة لا تقل عنه بيانا ووضوحا، ولهذا نجد الله عز وجل، يخاطب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: (وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل، الآية 44، قال القرطبي: «( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ) في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مرادَه مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة وغير ذلك مما لم يفصله»([3]).
فالتبيين بالقول، قول الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني أقصى درجات التوضيح، بحيث لا يدع مجالا للغموض أو الإبهام في المقصود من هذا الحكم أو ذاك، خاصة وأن الله –عز وجل- وصل كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بأنه وحي يجب العمل به، لأنه من صميم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أطاع الله جل وعلا، لذلك قال ابن حزم الأندلسي رحمه الله: «لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع، نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدناه –عز وجل- يقول فيه واصفًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى)، النجم الآيتان 3. 4، فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم إلى الله عز وجل إلى سوله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام، وهو القرآن، والثاني وحي مروي منقول، غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا، قال الله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ) النحل 44، ووجدناه تعالى، قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول، الذي هو القرآن، ولا فرق، فقال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ)»([4]).
وعليه، فإن تبيين كتاب الله –عز وجل الذي هو في حد ذاته بيان مطلق- يتطلب لغة تقع. هي أيضا. موقعا عاليا جدا من البلاغة والبيان والفصاحة، بحيث تقع كل لفظة منها في موقعها الصحيح. أو بالأحرى الأصح. الذي ينبغي أن تكون فيه، لأن الخطأ ممتنع عنه صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من الله عز وجل، فما دام كلامه صلى الله عليه وسلم في سنته وحيا، يبين به الكتاب الكريم الذي أنزل إليه من ربه سبحانه، فإن الدقة اللغوية شكلا ومضمونا، يجب أن تكون في مستوى هذا التبليغ والتبيين الذي كُلف به صلى الله عليه وسلم، لأن مهمته صلى الله عليه وسلم، بالغة الدقة أيضا، خاصة وأن القرآن الكريم «يكون محتملا لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما، فيرجع إلى السنة ويترك مقتضي الكتاب، وأيضا، فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا، فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. .. وحسبك أنها تقيد مطلقه، وتخص عمومه، وتحمل على غير ظاهره، حسبما هو مذكور في الأصول»([5]).
فالدقة في تبيين هذه الأحكام، تقتضي الدقة اللغوية أيضا، كما قلنا، وأقصد بهذه الدقة اللغوية، ثلاثة أمور:
أ- الثروة اللغوية على مستواها المعجمي: بحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يملك ثروة معجمية هائلة، وهذا بتوفيق من –الله عز وجل- لأن مقام النبوة يقتضي ذلك، وإلى هذا يشير الإمام الشافعي رحمه الله حين قال: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي»([6]).
ب- البيان: ويكون على مستوى التركيب بين أجزاء الكلام، بحيث يكون الكلام المؤلف في سياق مركب، غاية في الدقة والوضوح، والنبي –صلى الله عليه وسلم- أوتي هذا التركيب الفائق من لدن الله عز وجل، كما في صحيح مسلم عن سعيد بن أبي بردة، قال: حدثنا أبو بردة عن أبيه حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع والمزر، فقال: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة»([7]).
ج- الفصاحة: وتكون على مستوى اختيار المعجم الأفصح ليكون أكثر بيانا وإبانة في التركيب الذي يوضع فيه، ذلك لأن الإحاطة بألفاظ اللغة العربية، والعلم بمسالك تأليف تلك الألفاظ بعضها مع بعض، هو عين الفصاحة في أعلى مراتبها، وهو ما كان من شأن كلام النبي. صلى الله عليه وسلم، كما سنبينه في الفقرة التالية:
1- فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قلت بأن التبليغ عن الله عز وجل، وتبيين مجمل كتابه العزيز، وتفصيله للناس، يقتضي مقاما عاليا جدا من الإحاطة باللغة العربية ومن الفصاحة والبيان، وهذا ما آتاه الله عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال الإمام السيوطي: «قال الخطابي: "اعلم أن الله لما وضع رسوله صلى الله عليه وسلم موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم"»([8]).
فالبيان والإعراب والإفصاح، كل هذه العناصر مجتمعة، توفرت في لغته. صلى الله عليه وسلم، لأن المهمة التي نصبه الله عز وجل لها. كما قال الخطابي وغيره. ممن سآتي على ذكرهم من بعد إن شاء الله تعالى. تقتضي هذا الاستيعاب الشامل للغة التي أنزل بها القرآن الكريم، حتى لا تترك أي مجال للإبهام أو الغموض، ومن ثم للشك أو الريبة، خاصة وأن العرب الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا فرسان الكلمة، وأرباب التحبير والإبداع شعرا ونثرا، لأمد غير قصير، لذلك فإن الله عز وجل لما أمد رسوله. صلى الله عليه وسلم. بمخزون لغوي عربي لم يتيسر لأحد قبله. صلى الله عليه وسلم. ولا لأحد بعده، مع قمة الفصاحة والبيان، مناسب جدًا لآخر الرسالات السماوية التي هيمنت على كل الرسائل قبلها، حتى تكون شاملة وجامعة لكل ما ينفع العباد في دينهم ودنياهم.
وهذا ما لمسه فصحاء العرب في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إن كتب اللغة والأدب وكتب السيرة والسنن، طافحة بأخبار تروي عن النبي. صلى الله عليه وسلم. في فصاحته، ومع أن أفراد تلك الأخبار لا يكاد يسلم من الضعف، إلا أن دلالاتها متواترة، نظرًا لكثرة الكتب والمصادر التي تناقلتها، من ذلك مثلا. ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من طريق محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: «قال رسول الله. صلى الله عليه وسلم. في يوم دَجْنٍ: كيف ترون بَوَاسِقَها ؟ قالوا ما أحسنها وأشد تراكمها ! قال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال كيف ترون جونها؟ قالوا ما أحسنه وأشد سواده! قال: ترون رحاها استدارت؟ قالوا: نعم، ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: كيف ترون برقها؟ أخَفِيًّا أو وميضًا أم يشق شقًا؟ قالوا: بل يشق شقًا، قال: الحياء! فقال رجل، يا رسول الله ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حُقَّ لي، فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين»([9]).
وهذا الحديث وغيره([10])، يدل على مفهوم الاستيعاب النبوي لكلام العرب، ومعرفته. صلى الله عليه وسلم. بأساليبه وطرق أدائه، فضلا عن معجمه الذي لا يند عنه منه شيء صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر هذا في كتب الأدب والبلاغة العربية على حد تعبير الشيخ محمود محمد شاكر، كما كثر فيها ما روي عن علي بن أبي طالب. رضي الله عنه.، حيث قال: «ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وسمعتها من رسول الله. صلى الله صلى الله عليه وسلم.، وسمعته يقول: «مات حتف أنفه»، وما سمعتها من عربي قبله»([11]).
وإلى هذا يشير القاضي عياض. رحمه الله. وهو يتحدث عما أوتيه الرسول. صلى الله عليه وسلم .من بيان وفصاحة وإحاطة بكلام العرب، فقال: «وأما فصاحة اللسان، وبلاغة القول، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل: سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله»([12]).
فالحديث النبوي الشريف جمع كل بهاء اللغة العربية من جميع جوانبها التي ذكرها القاضي عياض، بل إن هناك من البلاغيين العرب من تتبع كلامه صلى الله عليه وسلم مستقرئا ومستقصيا طريقته صلى الله عليه وسلم في مراعاة المخاطب ومستواه اللغوي. حيث ينقل إليه صلى الله عليه خطابه بما فيه من إخبار، إلى جانب الإفادة والإمتاع، حتى وإن تُرْجِمَ كلامه صلى الله عليه وسلم، وحسبنا من ذلك ما قام به أبو هلال العسكري، حيث يقول معلقًا على الرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى «فسهل الألفاظ كما ترى غاية التسهيل حتى لا يخفى منها شيء على من له أدنى معرفة في العربية، ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب فخم اللفظ، لما عرف من فضل قوتهم على فهمه، وعادتهم لسماع مثله»([13]).
وهذا هو الهدف الأسمى من التخاطب، كما أنه الهدف الصعب في الوقت نفسه، ولا يقدر عليه أحد إلا ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم: لأن العبرة ليست في الألفاظ فقط، وإنما في الألفاظ والمعاني معا، ناهيك عن دقة التأليف والتنسيق بين مختلف أجزاء الكلام، فأدنى تساهل أو تذبذب في هذه الأجزاء كلها أو في أحدها، سيقذف في قلب المخاطَبِ الشك والريبة، وهذا ما لم يكن قطعًا في لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم. زلة لسان مهما تكن صغيرة، إن في الإعراب أو في تنزيل الألفاظ ومعانيها في غير منازلها، لأن علمه. صلى الله عليه وسلم.، مما آتاه الله عز وجل، بطرق التعبير وأساليب العرب في الكلام ,وانتقاءه .صلى الله عليه وسلم. لأحسن الألفاظ ليضعها في أنسب المواقع من كلمه صلى الله عليه وسلم، هو الذي أضفى على كلامه ذلك البهاء الذي عبر عنه القاضي عياض، وقبله الجاحظ بأجمل ما يكون من التعابير.
وهذا ما أكده كل البلاغيين العرب، بلا استثناء، وهم يتحدثون عن فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلاغته، وحسبنا من ذلك ما ذكره ابن سنان الخفاجي وهو يميز بين البلاغة والفصاحة في كلامه صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله في اللغة العربية بعامة، فقال: «والفرق بين الفصاحة والبلاغة، أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني، لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة، وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل بليغ فصيحا»([14]).
فالأسلوب النبوي الشريف جمع إذن بين الفصاحة والبلاغة في أرقى معالمهما، فإذا أردنا أن نكتب ما قاله الخفاجي بما هو متداول اليوم في المصطلحات اللغوية، أن الفصاحة ما هي إلا ألفاظ أو معجم أو ثروة لغوية، بينما البلاغة هي السياق وحسن التأليف بين هذه الألفاظ حتى تؤدي معنى من المعاني، والنبي .صلى الله عليه وسلم. جمع بين اختيار أحسن الألفاظ وركبها في أحسن سياق، فجاء كلامه .صلى الله عليه وسلم. أبلغ كلام وأفصحه، حتى قال عنه شيخ البلاغيين العرب القاضي عبد القاهر الجرجاني: «فلم يشك أحد أنه .صلى الله عليه وسلم .لم يكن منقوصا في الفصاحة, بل الذي أتت به الأخبار أنه. صلى الله عليه وسلم .كان أفصح العرب»([15]).
وهذا عينه، هو ما عبر عنه اللغويون العرب المعاصرون بالمصطلحات المعاصرة وهم يصفون كلامه .صلى الله عليه وسلم.، من ذلك مثلا ما قاله الدكتور فخر الدين قباوة، وقد أجاد: «وقد أوضح الله عز وجل أن تلك الكفايات البيانية، وهي صفة أصيلة في لغة رسوله الكريم .صلى الله عليه وسلم.، وليست في حاجة أن ينص عليها وتبين بدليل، فهي فيه فطرة يطلب منه استخدامها في مواجهة المعاندين (وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا)، أي يبلغ منهم ويؤثر فيهم، ويصل إلى كنه المراد، مطابقا لما سبق له من المقصود؛ وبليغ القول، هو الذي يعبر أحسن التعبير عما في نفس قائلة ومقاصده، ويناسب أحوال المخاطبين بما لديهم من أساليب القول ومستوى التفكير والبيان والتفهم وأنواع التجارب، والخبرات والتوجهات، وفي هذا الأمر من الله سبحانه شهادة لرسوله. صلى الله عليه وسلم. بغاية البلاغة والإحكام»([16]).
وخلاصة الأمر أن البلاغة والفصاحة النبوية، هما في أعلى المراتب وأسناها، بما أنعم به الله. عز وجل .على رسوله الكريم .صلى الله عليه وسلم .من بليغ القول وفصيحة، وهو يخاطب العرب من حوله بلغتهم التي توارثوا التخاطب والإبداع بها أبًا عن جد، يفهمون كلامه جيدا، ولكن سبيلهم إلى الكلام بمثل ما تكلم به، كان سبيلا قصرت دونه الهمم، وعييت .ولا شك .دونه الألسنة.
2- ضوابط فقه لغة الحديث الشريف:
بعدما تبين لنا المقام العالي جدا الذي تبوأه الكلام النبوي الشريف، فإن فقهه وفهمه حق الفهم، يتطلب ضوابط لابد منها، وقد عرج على ذكرها علماء اللغة والأصول معا، أرى من الضروري الإتيان على ذكرها بما يناسب المقام، لاستحالة تناول الحديث الشريف تناولا علميا دون الإحاطة بها. وهي:
أ- لغة الحديث النبوي والعرف اللغوي:
قلت بأن همم العرب الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصرت عن التحدث بالأسلوب الذي تحدث به الرسول .صلى الله عليه وسلم.، وما حباه الله .جل وعلا. به من كفايات لغوية هائلة، لأن اللغة التي كان يتحدث بها. صلى الله عليه وسلم. عربية فصيحة معهودة بين الناس عامتهم وخاصتهم، فلم يكن يخاطبهم بما لا عهد لهم به، أو بما لم يألفوا سماعه، لذلك فإنهم لم يكونوا يحاورونه أو يجادلونه. صلى الله عليه وسلم.، إلا لأن مقصد الفهم قد تحقق، وأن المخاطب قد فهم كلامه .صلى الله عليه وسلم. حق الفهم، وتفاعل معه وانفعل به، مما يعني. بكل بساطة. أن النبي. صلى الله عليه وسلم. كان يتكلم من داخل العرف اللغوي العربي، ويحترم غاية الاحترام ما درجوا عليه في كلامهم ومخاطباتهم وإبداعاتهم من أعراف لغوية ما كانوا مستعدين للتخلي عنها، وما كان هذا غرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان غرضه تبليغ رسالة ربه عز وجل بلسان قومه في أوسع مجالاته: أساليبَ تعبيرٍ وطرق أداء ومراعاة أحوال الناس وأفهامهم، وإعراب كلام على ما جري عليه العرف في التخاطب باللسان العربي.
ومعنى هذا، أن النبي .صلى الله عليه وسلم. قد بلغ الغاية في الفصاحة والبيان من داخل منظومة اللغة العربية، ومن صميم أساليبها، وليس من خارجها، بحيث أسمعهم ما لم يسبق لهم سماعه من ألفاظ أو إعراب، وإنما احترم صلى الله عليه وسلم طباع القوم وعرفهم اللغوي، وهو يدرك تمام الإدراك منزلة هذه الطباع وهذا العرف في شحذ الألسنة العربية والمحافظة على طرقها في التعبير؛ وقد قال حازم القرطاجني في هذا الصدد: «ولا شك أن الطباع أحوجُ إلى التقويم في تصحيح المعاني والعبارات عنها من الألسنة إلى ذلك في تصحيح مجاري أواخر الكلم، إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها، باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصححة لها، وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها، ويستدرك به بعضهم على بعض، وتبصير بعضهم بعضا في ذلك»([17]).
فإذا كان هذا طبع العرب وعريكتهم التي جبلوا عليها في التخاطب، حتى دأبت على احترامها وتلقينها لأجيالها للحفاظ على السليقة اللغوية العربية، وعلى أفانين القول العربي الفصيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى الناس حرصا على الحفاظ على هذا الطبع أو هذه الأعراف اللغوية، لأن القرآن الكريم الذي أنزل عليه عربي، ولأن حصول القصد من التبليغ والإفهام لابد وأن يكون عبر قنوات التواصل المعتادة في لغة العرب، معجماً وطرقَ أداء وأساليب تعبير، وإلا فإن الخطاب سيتهشم في وسط الطريق، وينقطع التواصل أصلا، فينعدم الفهم، وتسقط الحجة بعد ذلك، ولكان هذا أقرب الحجج وأسرعَها إلى ألسنة المشركين، وكان يكفي أن يقولوا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يخاطبهم بغير ما ألفوه من لغة أو تعبير أو ما شابه ذلك.
ولكن الرسول. صلى الله عليه وسلم. حافظ على هذا العرف اللغوي، وعلى ما جرت به العادة في الكلام العربي، لكي يكون كلامه الشريف صلى الله عليه وسلم نابعا من صميم التعبير العربي، ومن جوهر كلام العرب.
أقول هذا الكلام، لأن احترام العرف اللغوي العربي في كل شيء، يعتبر عصب اللغة العربية وقطبها الذي عليه المدار، وقد رأينا ما قاله حازم القرطاجني، وهو قول سائر البلاغيين العرب وهم يحللون الكلام العربي شكلا ومضمونا، فهذا ابن سنان الخفاجي يتحدث عن "العرف العربي" في أي كلام عربي، فقال عن شروط الإبداع الفصيح: «أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح، غير شاذة، ويدخل في هذا القسم ما ينكره أهل اللغة ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة»([18])، وأكد على هذا أيضا وهو يتحدث عن الكلمة المركبة في الكلام المؤلف، أو في السياق، فقال: «أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح، وللتأليف بهذا القسم علقة وكيدة، لأن إعراب اللفظة تبع لتأليفها من الكلام، وعلى حكم الموضع الذي وردت فيه من الكلام»([19]).
وما من شك في أن التأكيد على "العرف اللغوي"، إنما هو آت من شعور العربي بتناسق طرق الأداء اللغوي لديه لفظا ومعنى، منذ مراحل مبكرة من العصر الجاهلي, فيجمع بين السابقين واللاحقين على صعيد لغوي واحد، يأخذ فيه الكلام العربي بعضه برقاب بعض، تنتفي صفة الفصاحة والبيان عن كل من يخرج عنه بطريقة أو بأخرى، فيرمي بالهجنة أو العجمة، فيستبعد من دائرة الاستشهاد: وهذا قدامة بن جعفر يلح أيضا على هذا العرف إلحاحا شديدا فقال: «ومن عيوب المعاني: مخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة والطبع»([20]). وفي كتاب له آخر قال: «وأما الفصيح من الكلام، فهو ما وافق لغة العرب، ولم يخرج عما عليه أهل الأدب، ولتصحيح ذلك وضع النحو، ولجمعه وضعت الكتب في اللغة»([21]).
وهذا يعني ضرورة، أن فهم الكلام العربي فهما صحيحا، وفقهه حق الفقه ينبغي أن يكون نابعا من إلمام حقيقي بالاستعمال العربي لفنون الخطاب وأساليب التعبير، فكما أنهم متمسكون بالعرف اللغوي في هذا التعبير، ويعتبرونه شاهدا على الفصاحة والبيان، فإن تلقيه يفرض ضرورة الإمساك بناصية ذلك العرف، بالمعرفة الحقيقية بكل صيغ القول وفنون الأداء العربي، وعلى كل المستويات الدلالية والمعجمية والتركيبية، سواء في الأفعال أو الكلمات أو الحروف، وكل هذا يعتبر العُدّة الحقيقية واللازمة للأصولى، وهو يشمر عن ساعده لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة.
لهذ، فإن كل مصادر اللغة العربية وبلاغتها، ألحت إلحاحا شديدا على الاستعمال اللغوي حسب العرف العربي([22])، وهذا الإلحاح نفسه. وبشدة أيضا. نجده عند علماء الأصول بخاصة، كما سيأتي بيانه في حينه إن شاء الله تعالى، بل إن هذا العرف اللغوي أصبح حجة يُدافع بها عن كتاب الله تعالى وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وعن السلف الصالح، على نحو ما فعل ابن قتيبة. وهو من هو في اللغة والأدب والعلوم الشرعية. حيث قال مثلا مدافعا عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: «وكيف يكذب ابن مسعود في أمر توافقه عليه العرب في الجاهلية والإسلام»([23]).
ب- العرف اللغوي والتطور اللغوي:
وهذا العنصر هو أيضا في غاية الأهمية لارتباطه الوثيق بالاستدلال على الأحكام الشرعية المستنبطة من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يراع العرف اللغوي، وما حصل من تطور في الاستعمال اللغوي لبعض المفردات العربية، حصل الزلل في الاستدلال، والشطط في البرهنة.
ذلك أن كثيرا من الألفاظ العربية، طرأ عليها تطور في الاستعمال. ولا أقصد التطور هنا لا في البنية ولا في المعجم([24])، أي إن اللفظة الواحدة تحتفظ ببنيتها الصرفية وبمدلولها اللغوي كما هو، إلا أنها كانت تستعمل في زمن ما، للدلالة على معنى ما، ثم أصبحت تستعمل كما هي، لكن للدلالة على معنى آخر، قد يختلف اختلافا كليا أو جزئيا عن الاستعمال الأول، وقد تنبه علماؤنا الأوائل لهذا، مما يفرض علينا ضرورة الاحتياط له، والتنبيه عليه.
ومن ذلك مثلا، ما رواه البخاري في صحيحه، فقال: «حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا. .. الحديث»([25])، فقال ابن حجر شارحا لهذا الحديث: «ومعنى قوله «كذب» أخطأ، وهو لغة الحجاز، يطلقون الكذب على ما هو أعم من العمد والخطأ»([26]).
فالفعل «كذب» لا يستعمل اليوم إلا كما هو معهود ومتعارف عليه بين الناس عند إطلاقه، حيث يتبادر إلى أذهان الناس كل معاني القدح والعيب فيمن يقال فيه «كذب»، أو هو «كاذب»، وهذا أبعد ما يكون عن لغة التخاطب بين رجال الحديث ممن هم من السلف الصالح. رضوان الله عليهم.، فاستعمال أنس بن مالك. رضي الله عنه. للفعل «كذب»، وهو يتحدث عن أحد التابعين الذين سمعوا عنه، بعيد كل البعد عن معناه العرفي المتداول بين الناس اليوم، وإنما قصد. كما قال ابن حجر، ولعل في تنبيهه على هذا دلالة واضحة. «أخطأ» في لغة الحجاز، والبون شاسع جدا بين الخطأ والكذب.
وهذا يعني أن العرف في الاستعمال اللغوي جزء لا يتجزأ عن فقه اللغة، وعن فقه الأحكام الشرعية أيضا، مما يؤكد ضرورة فهم القرآن الكريم والحديث الشريف، حسب ما درج على فهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العرب الأقحاح، لمعرفتهم الدقيقة بطرق استعمال الألفاظ كما هي جارية على العرف العربي.
ومن هذه الأمثال أيضا، ما أورده ابن سنان الخفاجي وهو يتحدث عن شروط الفصاحة العربية، فقال: «أن لا تكون الكلمة قد عُبر بها عن أمر آخر يُكره ذكره، فإذا أوردت، وهي غير مقصودة بها ذلك المعنى: قبحت، وإن كملت في الصفات التي بيناها. ومثل هذا قول عروة بن الورد العبسي:
وقلت لقوم في الكنيف تروحوا * عشية بتنا عندما وان رزح
والكنيف أصله الساتر، ومنه قيل للترس: كنيف، غير أنه قد استعمل في الآبار التي تستر الحدث وشهرتها، فأنا أكرهه في شعر عروة. وإن كان ورد صحيحًا. لموافقة هذا العرف الطارئ، على أن لعروة عذرا، وهو جواز أن يكون هذا الاستعمال حدث بعده، بل أشك أنه كذلك، لأن العرب أهل الوبر لم يكونوا يعرفون هذه الآباء، فهو وإن كان معذورًا وغير ملوم فبيته مما يصح التمثيل به. .. فأما قول عمرو:
وكم غائط من دون سلمي * قليل الأنس ليس به كتيع
فجار هذا المجرى، والغائط: البطن من الأرض، إلا أنه يستعمل في الحدث على ذلك الأصل، فذكره قبيح على ما تقدم، لكن عمرو معذور كعروة»([27]).
فلا شك في أن الفارق بين «العرف القديم» في الاستعمال اللغوي، و«العرف الطارئ»، فارق كبير جدًا، لأن الشاهدين المذكورين جاءا في الأصل في سياق المتعة واللذة، لأنهما كانا يستعملان استعمالا درج عليه العرب يومها حين تنتشي أنفسهم بين المياه والظلال، أما وقد تطور الأمر، وقد استعمل ابن سنان عبارة «يستعمل الآن»، فقد أصبحت اللفظتان تدلان على مغنيين مغايرين تمامًا لمعنييهما اللذين كانتا تدلان عليهما أول الأمر، مما يعني أن تطبيق الفهم الطارئ على الاستعمال القديم، يستحيل معه فهم المقصود من الخطاب.
لهذا فإن العلماء المعاصرين، قد أولوا العرف اللغوي في الاستعمال العربي اهتمامًا بالغًا في التعامل مع نصوص الحديث النبوي الشريف بخاصة، حتى تفهم الفهم الصحيح انطلاقا من مراعاة ذلك العرف الذي كان يتحكم في استعمال اللغة زمن النبوة، يقول مثلا الأستاذ الدكتور حمزة المليباري في هذا الشأن: «وعلى الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار أساليب القدامى في مخاطبة معاصريهم، ومعاني الكلمات التي يستخدمونها فيها، لاسيما أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كثيرًا ما يطابق أسلوب القرآن الكريم، من حيث التحدث بالمعجزات والغيبيات والصفات الإلهية، ومن حيث التنبؤ بما يجري قبل يوم الساعة، واعتماد أسلوب صالح لعقلية المجتمع الذي خاطبهم مباشرة، دون أن يتناقض في الوقت نفسه مع عقلية المجتمعات التي ستلحقهم، مع اختلاف الظروف والثقافات والطبائع والأعراف والتقاليد، فلغة القدامى وأساليب مخاطبتهم تختلف عن لغة عصرنا، وقد يقصدون من الكلمة معنى غير المعنى الذي تعارفنا عليه، أو استقر عليه اصطلاحنا»([28]).
وهذا الرأي الوجيه، كان قد حذر منه الشيخ يوسف القرضاوي أيضًا حين قال بأن «هناك ألفاظًا كثيرة بدلت في مجالات شتي يصعب حصرها. ثم لا يزال هذا التبدل يتسع مع تغير الزمان والمكان وتطور الإنسان، إلى أن تصبح الشقة بعيدة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ، والمدلول العرفي أو الاصطلاحي الحادث المتأخر، وهنا ينشأ الغلط وسوء الفهم غير المقصود، كما ينشأ الانحراف والتحريف المتعمد، وهو ما حذر منه الجهابذة والمحققون من علماء الأمة: أن تنزل الألفاظ الشرعية على المصطلحات المستحدثة على مر العصور»([29]).
من هنا فإن التريث في فهم الألفاظ الواردة في نصوص الحديث النبوي الشريف، أمر لا مفر منه، بل إن الأمر يتعدي «الفهم اللغوي» إلى «الفقه اللغوي» في أوسع مجالاته.
ج- بين «فهم اللغة» و«فقه اللغة»:
رغم ما قد يبدو في الظاهر من تماثل بين مصطلحي الفهم والفقه اللغويين، إلا أن المتمعن في الأمر مليا، يظهر له بأن هناك فارقا واضحا، وإن كان بين الجانبين تداخل لا مرية فيه، لأن التمييز حتمي بين مدلولات الألفاظ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك قبل قليل، ومجالات استعمالاتها حسب العرف اللغوي، لأن اللفظة الواحدة، رغم احتفاظها ببنيتها الصرفية والصوتية لأمد غير قصير، إلا أنها تخضع باستمرار لعمليتي الإفراغ والشحن: إفراغ من مدلول سابق ، وشحن بمدلول لاحق، وهذا ما يحتم، ليس الفهم اللغوي فحسب، وإنما يحتم الفقه اللغوي، لأن «الفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت الناس في هذا، تتفاوت مراتبهم في اللغة والعلم»([30]).
بذلك يبدو بأن الفهم اللغوي مرتبط بالمعنى اللفظي الخاص بهذه اللفظة أو تلك، بينما الفقه اللغوي بجمع بين هذا المعنى اللفظي نفسه، مع الدلالة العامة للسياق الذي وردت فيه الألفاظ مجتمعة، والتي تحمل في طياتها دلالة معينة، تكون المقصود منها لدي المتكلم، أي إن الفهم اللغوي مرتبط بالمعنى، بينما الفقه اللغوي مرتبط بالمعنى والدلالة معًا، لذلك قال ابن القيم رحمه الله: «والعارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظي يقول: ماذا قال؟ كما كان الذين لا يفقهون، إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: ماذا قال آنفا، وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله {فَمَا لِهَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} النساء الآية 78، فذم من لم يفقه كلامه»([31]).
وإلى هذا أيضًا يشير القرطبي رحمه الله وهو يفسر قوله تعالى {لِّيَتَفَقَّهُ ا فِي الدِّينِ} التوبة الآية 122، فقال: «أن يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين»([32])، فالفقه إذن، هو التبصر بالشيء والتدبر فيه إلى أقصى الحدود لمعرفة المقصد والمراد.
وعليه، فلا شك في أن المنافقين الذين كانوا يسمعون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفهمون معناه بلا ريب، فقد كانوا من العرب الأقحاح، ولكنهم مع ذلك لا يفقهون مراد النبي صلى الله عليه وسلم ومقصوده، لذلك نسب الله جل وعلا إليهم عدم الفقه {فَمَا لِهَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }، بينما نسب إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقه {لِّيَتَفَقَّهُ ا فِي الدِّينِ }، والفرق واضح جلي إن شاء الله تعالى.
لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم. كان يستعمل لفظة «الفقه» في غير ما موطن من حديثه صلى الله عليه وسلم، ولا يستعمل لفظة «الفهم»، من ذلك مثلا قوله. صلى الله عليه وسلم. «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»([33])، وقوله .صلى الله عليه وسلم.: «من يرد الله به خير يفقهه في الدين»([34])، من هنا تظهر مزية الفقه عن مزية الفهم، سواء في اللغة أو في الدين، مع العلم أنه من المستحيل أن يتفقه امرؤ في الدين من دون أن يتفقه في اللغة، كما سيأتي بيانه بضوابطه إن شاء الله تعالى؛ وحتى في معاجم اللغة، نجد أن هناك من يلمح إلى هذا الفارق، من ذلك مثلا، قول ابن منظور: «الفقه: العلم بالشيء والفهم. .. والفقه في الأصل: الفهم، يقال: أوتي فلان فقها في الدين أي فهما فيه، قال الله عز وجل {لِّيَتَفَقَّهُ ا فِي الدِّينِ} أي: ليكونوا علماء به،. .. وفقه فقها: بمعنى علم علماً. .. وفقه الشيء علمه، وفقهه وأفقهه: علمه. ..» ([35]).
فيظهر بوضوح أن الفقه هو الفهم مع العلم، بحيث إن المركب من إضافة الفهم إلى العلم، هو عين الفقه وماهيته، وهو ما أشار إليه الفارابي أيضا في ديوان الأدب، حيث قال: «وفلان يتفقه، من الفقه، كما يقول يتعلم من العلم»([36]) وإن كان قبل ذلك قد قال: »الفقه: الفهم، قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه»([37])، مما يعني عنده أن الفقه يجمع بين الفهم والعلم.
ويزداد الأمر وضوحا مع الزجاجي حيث يقول: «ألا ترى أن الفقه: الفهم، يقال فهمت الحديثَ مثل فهمت، ورجل فقيه، وفقه أي فهم، ثم صار الفقه علم الدين خاصة، فإذا قيل: رجل فقيه، فإنما يراد به العالم بأمر الشريعة، وإن كان كل من فهم علما وحذقه: فهو فقيه»([38])، حيث يظهر عنده بأن الفقه جامع بين العلم والفهم والحذق، والحذق: المهارة بالشيء.
وكل هذا يعني أن فقه اللغة، هو الوقوف على أسرار الألفاظ ومعانيها دلالاتها، مفردة ومركبة في سياقات مختلفة، على ما جرى عليه العرف في الاستعمال اللغوي العربي، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال ثلاثة أمور:
أ- التوسع ما أمكن في الإحاطة بدلالات هذه الألفاظ ومعانيها في ذاتها، كما وضعت أصلا في اللغة العربية، أي العلم بالمعجم العربي.
ب- الإلمام ما أمكن بدلالات هذه الألفاظ، من خلال سياقات تراكيبها المختلفة التي درج عليها العرب في الاستعمال اللغوي على أنحاء متنوعة بتنوع المقاصد والإرادات التي يروم إليها المتكلم، مع مراعاة العرف اللغوي في الاستعمال.
وهذا العنصر الثاني، لا يتأتى فقط بالدربة على الاستعمال اللغوي اصطلاحا وعرفًا، أو الحذق بالأساليب المختلفة في التعبير، وإنما لابد من عنصر آخر في غاية الأهمية، كثيرا ما يغفل عنه، فيقع المحذور منه، وهو عنصر «الذوق اللغوي»، وقد تنبه له الإمام السيوطي رحمه الله فقال: «وأما الكلام فلا يدرك إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة والفقه يكون من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق، هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض»([39]).
وقد أصاب .لعمري .كبد الحقيقة؛ لأن هذا الذوق الذي يتجاوز ظواهر الأشياء، كما قد يتجاوز المعنى الظاهر الذي يتبادر إلى الأذهان من أول قراءة لأي نص من النصوص، إلى ما هو أعمق من ذلك، وهو الدلالة الخفية الصحيحة التي لا تنجلي إلا لمن يحسن تذوق النصوص لتمرسه بها، ولخبرته بالأساليب العربية ودلالاتها، وتفقهه في اللغة وطرق أدائها التي يعبر بها.
وما دام السيوطي قد ربط بين «أهل الذوق» و«علم البيان» الذي هو عمدة اللسان العربي، فإنه يذكر بما كان قد أشار إليه القاضي عبد القاهر الجرجاني حين ميز بين «المعنى» و«معنى المعنى»، فقال: «وإذ عرفت هذه الجملة، فهاهنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: «المعنى» و«معنى المعنى»، تعني بالمعنى: المفهوم من ظاهر النص، والذي تصل إليه بغير واسطة، و«بمعنى المعنى» أن تعقل في اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر»([40]).
ولعله واضح جدا أنه استعمل الفعل «يعقل» للوصول إلى «معنى المعنى»، ولم يستعمل الفعل «فهم»، الذي يبدو بأن صاحبه لا يكاد يتجاوز به المعنى الظاهر، وما أكثر ما يربط الله عز وجل في كتابه الكريم، بين آيات القرآن الكريم، والمركب الفعلي: « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » و« أَفَلَا تَعْقِلُونَ ».
وهذا يعني أن الإمام السيوطي، وهو يدندن حول «الذوق»، والجرجاني وهو يتحدث عن «العقل» وعلاقته بـ «معنى المعنى». وكلاهما فقيه في اللغة والدين، كل ذلك يوحى بأن المطلوب من الناظر في كتاب الله تعالى والحديث النبوي الشريف، أن يتجاوز مجرد فهم النصوص إلى فقه النصوص، وأما فهم ألفاظ اللغة، فما هي إلا عتبة أولى لابد ولا مفر من الولوج منها إلى أغوار النص ومكنوناته، حيث يبصر فيها ما لا يبصره فيها غيره، وهذا مما يؤتيه الله عز وجل من يشاء من عباده، ممن يفقهه في دينه.
ج- إتقان علوم اللغة العربية: لأن فقه دلالات الألفاظ في سياقاتها المختلفة، لا يتأتى مطلقا إلا من إتقان المعرفة بتصاريف الكلام العربي، لأن الجملة الواحدة في اللغة العربية، ما هي إلا نتاج لعملية لغوية معقدة تجمع بين اللفظ والمعنى والنحو الصرف وعلوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع؛ وعليه فلابد لفقه آية من القرآن الكريم أو حديث من الأحاديث الشريفة، من إتقان هذه العلوم على أحسن وجه، وهو ما جعل علماء الأمة يلحون على هذا أيما إلحاح، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله، قد نبه على هذا في مراحل مبكرة من مراحل تأسيس علم أصول الفقه، فقال: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده. .. وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها»([41]).
وزاد هذا التأكيد ابنُ حزم الأندلسي، فألح وفصل على عاده فقال: «ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عالما بالنحو الذي هو علم ترتيب العرب لكلامهم الذي نزل به القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة، وهي الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات لاختلاف المعاني، فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم، ومن لم يعرف ذلك اللسان، لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري»([42]).
وأما إذا وصلنا إلى أبي إسحاق الشاطبي، فإنه قد بلغ الغاية في تحديد المصطلحات، حيث قال وهو يتحدث عن مطالب الاجتهاد: «أما الثاني من المطالب، وهو فرض علم، تتوقف صحة الاجتهاد عليه، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه، فهو بلا بد مضطر إليه، لأنه إذا فرض كذلك، لم يمكن في العادة الوصول إلي درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة، فيسأل عن تعيينه، والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا «علم اللغة العربية» ولا أعني بذلك النحو وحده ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة «علم اللسان» ألفاظا ومعاني، كيف تصورت»([43]). ولا يخفي ما في مصطلح «علم اللسان» من دلالة لدى الشاطبي، بدلا من «علم اللغة العربية»، لأنه أشمل وأعلم في الإحاطة بكل علوم اللغة العربية والتفقه فيها، وقد أكد على هذا ابن خلدون من بعد هؤلاء جميعا، فقال وهو يتحدث عما أسماه «علم اللسان العربي»: «أركانه أربعة، وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين، عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة»([44]).
فيتضح من كل هذه الآراء إذن، بأن العلاقة بين فقه اللغة العربية أو بالأحرى اللسان العربي، وفقه الشريعة الإسلامية، هي علاقة الجسد بالروح، يستحيل الفصل بينهما، لأن التفقه في الدين، يتوقف ضرورة على التفقه في اللغة([45]).
وإذا كنا قد استشهدنا بهذه النصوص أعلاه للتأكيد على انبناء فقه الشريعة الإسلامية برمتها على فقه اللسان العربي، فإن هناك من العلماء من ربط بشكل خاص بين السنة النبوية المطهرة وفقهها، وضرورة التمكن من علوم اللغة العربية([46]). قبل التعامل مع الحديث الشريف. من ذلك مثلا من العلماء القدامى، الحافظ العراقي، حيث قال: «قلت: فحق لطالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شيئين: اللحن والتحريف ومعرتهما، وروينا عن شعبة، قال «من طلب الحديث ولم يبصر العربية، فمثله مثل رجل عليه برنس ليس له رأس» أو كما قال، وعن حماد بن سلمة قال: «مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار، عليه مخلاة لا شعير فيها»»([47]).
وإلى هذا أيضا ذهب المعاصرون، من ذلك مثلا ما قاله الدكتور نور الدين عتر: «قرر العلماء واتفقوا على أنه ينبغي لطالب الحديث أن يكون عارفا بالعربية، فعن الأصمعي أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه، كذبت عليه»»([48]).
ما نخلص إليه من خلال هذه الفقرة، هو أنه من المستحيل قطعا أن يهتدي امرؤ إلى فقه الحديث النبوي الشريف وقبله القرآن الكريم، دون التفقه في اللغة العربية وعلومها تفقها يسلم معه من الغلط أو الزلل، سواء في الاستنباط والاستنتاج، أو في البرهنة والاستدلال، مهما تكن القضايا التي يعالجها في هذين الوحيين الشريفين.
د- فقه اللغة والتلقي عن السلف:
وهذا ضابط له أهمية خاصة تجعل كل ما قلناه سابقا متوقفا عليه إلى حد كبير، لأن التفقه في اللغة والتبحر في علومها، يجب أن يسير بموازاة مع ما أُثِرَ عن السلف الصالح في القضايا المتناولة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ألح عليه العلماء القدامى، كما فعل الإمام الغزالي حين حذر من المسارعة «إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل، فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يحكم ظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية، كثر غلطه، ودخل في زمرة من يفسر بالرأي. فالنقل والسماع لابد منه في ظاهر التفسير أولا، ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط»([49]).
وإلحاح الغزالي على السماع من أفواه المشايخ، الذين تلقوا العلم بتفسير القرآن الكريم أو الحديث الشريف سماعا عن مشايخهم، حتى يتصل بهم السنة بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، آت من كون فهم هؤلاء الصحابة. رضوان الله عليهم حجة .ولأنهم أعلم الخلق بالقرآن والسنة، بعد الرسول صلى الله عليه وسلم: يعلمون سبب نزول آيات القرآن الكريم، تماما كما يعلمون سبب ورود الحديث الشريف، وعليه فلا يجوز الخروج عما سمع عنهم، ونقلته عنهم الأجيال اللاحقة بالسماع، وهو ما نقرؤه اليوم مخطوطا أو مطبوعا.
وهذا "السماع" في الواقع، ولأهميته البالغة، أمر قد درج عليه العرب حتى في فهم إيداعهم وتعابيرهم المختلفة التي تناقلتها الأجيال، فأصبحت تقاليدَ ثابتةً أو سننا متبعا، لا تفهم إلا بالتلقي المباشر عن الشيوخ وسماعاتهم، وإلى ذلك أشار ابن طباطبا العلوي حين قال في باب عنوانه "سنن العرب وتقاليدها": «وأمثلة لسنن العرب المستعملة بينهما، التي لا تفهم إلا بالسماع»([50]).
وهذا يعني ضرورة التقيد بما أثر عن السلف الصالح في فهم مستغلق القرآن والسنة، وما قد يكون فيهما من مشكل أو مبهم، مما لا يكون معه الفهم اللفظي مجديا على أي حال، وعليه فلا يجوز العدول عما أثر عن السلف فيما فسروا به السنة النبوية الشريفة، لأنهم، وهم العرب الأقحاح، هم الذين أتقنوا صهر اللغة العربية مع الضوابط الشرعية، وأي فصل بينهما مآله الزلل والشطط في تحميل النصوص الشرعية ما لا تحتمله. قال الغزالي: «فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضي ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ، وتسقط به منفعة كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم»([51]).
فلو ترك الأمر إلى الفهم اللغوي للألفاظ، فإن القرآن الكريم والحديث الشريف، تستباح نصوصهما الشريفة، يخوض فيها كل خائض، ويقول فيهما من شاء ما شاء، فلابد من الانضباط بما أثر عن السلف الصالح مع هذين الوحيين، وبعد ذلك إن احتياج إلى إعمال الرأي والاجتهاد جاز ذلك، لكن لابد من البحث عن الأشباه والنظائر، مما يدل عليه العرف اللغوي العربي السليم، حتى يسلم القياس وتصح النتائج، مع الالتفات دائما إلى علم وعمل السلف الصالح، يقول الدكتور محمد أديب صالح: «الرأي المحمود، وهو الذي يجري على موافقة معهود العرب في لسانها وأساليبها في الخطاب، مع مراعاة الكتاب والسنة وما أثر عن السلف»([52]).
وعليه فإن التسلح بالمخزون اللغوي العربي في التعاطي مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هو المنطق الأساس، ولكن لابد من مراعاة العرف العربي في التعبير والخطاب، لأنه المدخل الرئيسي إلى فهم مقاصد النصوص أولا؛ وثانيا، لابد من التقيد بالجهد الشاق والمرهق الذي قام به السلف الصالح في ضبط دلالات تلك النصوص للاستدلال بها على الأحكام الشرعية، خاصة وأن «الدراسة اللغوية للنص بدأت كاتجاه مبكر في علم أصول الفقه الذي أكد أهمية ضبط العلاقة بين اللفظ والمعنى، كمدخل لدراسة النص القرآني ونص الحديث، على أساس أن الضبط محوري في دراسة وجود دلالة الأدلة على الأحكام الشرعية»([53]).
وعبارة «ضبط»، بما تعنيه من دقة وتحرز، تدل على أن ضبط العلاقة بين الجانب اللفظي الذي يجري على سنن العرب ومعهود أسلوبهم في التخاطب والتعبير، مع الجانب الدلالي الذي يتناسق تناسقا تاما مع القرآن والسنة ومقاصدهما، نتح عنه علم أصول الفقه الذي قعد القواعد الأصولية التي نتجت عنهما الأحكام الفقهية، وفق شواهد وأدلة شرعية من الكتاب والسنة.
ثم إن هذا يعني أيضا، أن الألفاظ في تركيبها العربية المختلفة، لا تضبط دلالتها ضبطا حقيقيا ودقيقا، إلا داخل منظومة من الضوابط الشرعية التي أثرت عن السلف الصالح الذي استثمر مخزونه اللغوي العربي الهائل، فجعله منصاعا مطواعا لمقاصد كتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث إن الفهم اللغوي البحت للكتاب والسنة أصبح مرجوحا معزولا، ما لم يلق سندا يعززه من فهم السلف، سواء للقرآن الكريم، لأنهم أعلم بمحكمه ومتشابهة وبناسخه ومنسوخة، وبأسباب نزوله، أو من فهمهم للحديث النبوي الشريف، لأنهم أيضا أعلم به وبسبب وروده وبناسخه ومنسوخه، وبذلك انصهر عندهم فقه اللغة مع فقه الدين على صعيد واحد، فأصبحوا بذلك كله لمن بعدهم، وإلى قيام الساعة، الأسوة والقدوة والحجة، ينبغي اقتفاء أثرهم فيه، ولا ينبغي العدول عنهم بحال من الأحوال.
3- دلالة الألفاظ ودلالة السياق في الحديث النبوي الشريف:
إن منهج علم أصول الفقه بخاصة، في تعامله مع الحديث الشريف، أنه ينظر في الألفاظ الواردة في نص الحديث في ذاتها أولا، ثم ينظر إليها في علاقتها بالسياق العام للحديث الشريف، فيخلص إلى ما يخلص إليه بعد النظر والتمحيص؛ لأن إغفال جانب من هذين الجانبين يؤدي ولا شك إلى مجانبة الصواب، لذلك قال ابن خلدون: «يتعين النظر في دلالة الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة»([54]). وهذا يعني أن في الحديث الشريف دلالتين لابد من النظر فيهما:
أ- دلالة الألفاظ في ذاتها:
وهذا هو الذي أشرت إليه سابقا، وغير ما مرة، من ضرورة الإلمام بالمخزون اللغوي العربي، لأن اللفظة الواحدة في العربية، لها عدة معانٍ سمعت عن العرب، واستعملوها في أشعارهم وأنثارهم وأمثالهم، ولابد من ضبط معنى اللفظة الواحدة، لأن هذا الضبط هو البوابة إلى ما هو أهم، وهو معرفة دلالتها داخل سياق الحديث، فإذا كانت اللفظة مما يحتمل أكثر من معنى، فلا يضبط ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم إلا من خلال السياق الذي وردت فيه، ثم إن امتلاك ثروة لغوية مهمة، لابد منها لكل من أراد النظر في الحديث الشريف؛ وقد سبق أن قلنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على إلمام واسع جدا. بما مكنه الله جل وعلا من ذلك. بالمعجم العربي في استعمالاته المختلفة لدي القبائل العربية الفصيحة المتعددة، مما يفرض على الباحث في كلامه صلى الله عليه وسلم، أن يسعى ما أمكنه السعي والجهد إلى الإلمام ببعض هذا المخزون اللغوي الهائل.
يتبع