اللغة العربية من التحدي إلى العالمية
السهلي عويشي



اللغة كائن حي دائم النمو والتطور، إلا أنه في مراحله هذه قد يتعرض للكبوات، والهزات التي قد تجعله يضعف، فإن هو كان يمتلك بداخله إمكانات المقاومة والممانعة والبقاء تجاوز كبوته لينهض من جديد وينمو ويتطور، وإن انعدمت فيه هذه الإمكانات وسيطرت عليه قابليته لاحتضان الآخر مضى وانتهى. واللغة أيضا «ذلك الوعاء الحاوي للثقافة ووسيلة التفكير الذي يحدد رؤية العالم ونواميسه، لذلك شكلت معرفتها أهم ركيزة لتحصين الهوية والذات والشخصية» (1).
وحديثنا عن الهزات التي قد تعيشها اللغة في مختلف مراحلها، باعتبارها وعاء معرفيا لثقافة معينة، يدفعنا إلى الوقوف عند مختلف التحديات المطروحة أمام اللغة العربية، باعتبارها لغة كونية، لأزيد من قرنين من الزمن، أو يزيد، وهي تتعرض لمعاول الهدم، لو تعرضت له لغة أخرى لانتفت من الوجود، لولا أنها تملك من المقومات ما حفظ لها، ويحفظ لها بقاءها، واستمراريتها، لكن الإشكالات التي تطرح: لماذا هذا التهافت والتحامل عليها بهذه القوة والقسوة؟! أليست لغة كباقي اللغات ومن حقها التطور والمنافسة؟! ما هي أوجه هذا التحامل وهذا التهافت؟ ما هي آليات كسب الرهان والانتقال بالتالي من شعار التحدي إلى رهان العالمية في ضوء المتغيرات التي يعيشها العالم على جميع الأصعدة؟
هذه إذن جملة من الإشكالات التي نطرحها، ونروم مقاربتها في هذه الورقة، لا للحسم فيها، وتقديم أجوبة شافية مانعة بشأنها، بل لتبقى دائما موضوع بحث، وتمحيص، من منطلق أن موضوعا بهذا الحجم وهذا الثقل يحتاج إلى جهد جميع الباحثين والدارسين الغيورين على لغة الضاد، لما لها من مكانة وأهمية، باعتبارها الأساس الصلد الذي تقوم عليه قصة الأمة على حد تعبير اللغوي الشهير أندرسون.

الحروف-العربية.jpg

وفي هذا الباب يقول ابن خلدون «إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم». لأن ابن خلدون يعتقد أن المغلوب مولع أبدا بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته، وسائر عوائده.. وإذا ما تأملنا هذا القول، وأخضعناه لميزان العقل لوجدناه ينطبق على حال اللغة العربية منذ اللحظة الأولى لاكتشاف حجم الفارق بيننا وبين الآخر وإلى الآن، بل يزداد الأمر سوءا واستفحالا في ظل المتغيرات الجديدة، والتحديات الشرسة التي تواجه فيها اللغة من قبل قوى العولمة المتمثلة في المصالح المادية الناجمة عن الاتصال بالأجنبي، والتأثير الإعلامي القائم على الصخب والضجيج والتبشير باللغة الإنجليزية على أنها اللغة العالمية (1).
في مقابل ذلك انحسار وأفول نجم اللغة الفرنسية التي بشر بها الكثير من المثقفين منذ رفاعة الطهطاوي، مرورا بطه حسين، وإلى ما بقي.. وغدا ماذا لو أفل نجم اللغة الإنجليزية وبزغ نجم آخر من الشرق مثل الصينية أو اليابانية؟! هل سنظل دائما تبعا للآخر نلتمس منه نور العلم والمعرفة؟! إنه سؤال إشكالي كبير لا يتذلل إلا إذا وضع في سياقه المعرفي والتاريخي، المرتبط أساسا بما هو ثقافي وفكري، وهو يأتي عكس ما يؤسس له البعض لتجريدنا من هويتنا، وبالتالي تحقيق ما لم يستطع أن يحققه طيلة قرون مضت، وفق مخطط مدروس محدد الغايات. ولفهم ما يحاك لابد أن نقف عند بعض المحطات التاريخية المهمة في علاقتنا نحن بالآخر، باعتبارها تجيب بشكل أو بآخر عن هذا الإشكال، كما تساعدنا في فك حيثيات ما يحاك.

1- محطة الانبهار
إنها محطة تملك الإحساس بالضعف والانبهار عند المثقف العربي، وهو يرى بأم عينيه ما وصل إليه الآخر من قوة، وتنظيم، وعلم، وتأليف، وتقانة، وثقافة، وما يعيشه المسلمون من تخلف وجهل. هي محطة إذن ارتبطت بالتلاقي مع الآخر: إما بواسطة البعثات الدراسية وإما الرحلات، والتي أظهرت حجم الانبهار الكبير بالآخر، إلى حد التماهي معه أحيانا، كتجربة رفاعة الطهطاوي، الذي ما إن عاد إلى مصر حتى أسس مدرسة الألسن لتدريس اللغة الفرنسية والحضارة الغربية بين الطلبة العرب، وهناك من يرى أنه أسس هذه المدرسة بتوجيه من فرنسا، لأنها تعلم ما للغة من دور فعال، ليس في التواصل فقط، بل، وهذا هو الأهم، في نشر الثقافة والحضارة، ليتوالى مخطط توجيه سهامهم إلى لغة الضاد منذ ذلك التاريخ وإلى الآن، وبأشكال متنوعة ومختلفة، تارة بالهجوم على التراث العربي القديم، كالتشكيك في الشعر الجاهلي مع طه حسين، وتارة بالدعوة إلى اللهجات، وتارة بتشجيع الصراعات الاثنية والعرقية من باب اللغة، بدعوى حقوق الأقليات، وتارة بنبذ الحرف العربي في التدريس، وتارة بمبررات لا تستند إلى أي أساس علمي ومنطقي سوى مجاراة الآخر بشكل مبطن غير معلن. فعلى امتداد خريطة العالم الإسلامي عمل الآخر بكل ما يملك من قوة للنيل من اللغة العربية، لأنه يعلم أنها المدخل للانقضاض على الأمة، فهي الدين، والتاريخ، والتراث، والحضارة، وأي مشكك في قوة اللغة العربية وجدارتها لا يسعنا إلا أن نحيله إلى التجربتين اليابانية والصينية، كما أشار مالك بن نبي رحمه الله قبل أزيد من أربعين سنة «لكن الذي هو أكثر دلالة هو المقارنة بين فئتين متميزتين من تلاميذ الثقافة الغربية، فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان، فالمجتمعان قد تتلمذا معا حوالي عام 1860م في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي ذي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم، فالأفكار المميتة في الغرب لم تصرفها عن طريقها، فقد بقيت وفية لثقافتها لتقاليدها وماضيها» (3).
لكن ما حصل للمجتمع الإسلامي لمثقفيه هو العكس، جرفتهم الأفكار المميتة في الغرب، إذ لم تستطع النخبة المثقفة التخلص منها، مما أدى بمشروعها النهضوي إلى الإخفاق، لتعلق فشلها على مشجب اللغة العربية، ناسين أو متناسين معجزة اليابانيين الذين استطاعوا التقدم والتطور على الرغم من حفاظهم على لغتهم، وثقافتهم، وتقاليدهم في نظامهم التعليمي، وحتى في نمط حياتهم. فلماذا يريد دعاة الحداثة المفترى عليها أن يصرفونا عن ماضينا، وتاريخنا، وجذورنا العربية والإسلامية بدعاوى لا تستند إلى أساس علمي، أو تاريخي سوى ذلك الحقد الدفين الذي تخفيه للغة العربية ومن خلالها للأمة؟

2- الاستشراق
في إطار العلاقة بيننا وبين الآخر، والتي سادتها في الكثير من الأحيان تجاذبات، وصراعات، وتدافعات بين الطرفين، ظهر الفكر الاستشراقي الذي تحكمت فيه مجموعة من الدوافع، والتي في أحايين كثيرة تجاوزت ما هو علمي ومعرفي إلى ما هو إيديولوجي وديني وإمبريالي، وفق مخططات استراتيجية كانت تروم التحكم في الأمة العربية والإسلامية ومقدراتها للإجهاز عليها، فالآخر يعلم أن الآلة العسكرية وحدها لا تكفي، ولا تحسم المعارك، فلجأ إلى تنويع خياراته بما يخدم مصالحه ومخططاته، وضمنها الغزو الثقافي والفكري، الذي وفق أحد الدارسين، لم يكن وليد اليوم أو البارحة، بل منذ الحملات الصليبية على الشام والتي باءت بالفشل، حيث اتجهت وجهة أخرى غير عسكرية، كانت نواتها الأولى جمعيات المستشرقين التي كانت تتألف من رجال الكنيسة، أو اليهود، ممن لهم كره عميق للإسلام، فكان شغلهم الشاغل هو دراسة الإسلام، والقيام بتحريفه، وتشويه جماله، وزرع البلبلة والتشكيك في ثقافة المسلمين ودينهم الحنيف؛ لتشويه الحضارة الإسلامية في أذهان المسلمين (4).
فقاموا بدراسة كل ما له علاقة بالإسلام، والمسلمين من تاريخ، وفقه، وحديث، وأدب، وحضارة، وفنون، وسرقة المخطوطات وأمهات المصادر التي شكلت كنزا معرفيا إسلاميا أصيلا، فقاموا بدراستها وترجمتها بمنهجهم، وبما يخدم مخططاتهم «فلما بدأ اتصالنا بالحضارة الغربية.. لم يجد المثقفون من غير علماء الشريعة أمامهم طريقا ممهدا للحديث عن تراثنا المبعثر في كتب قديمة غير منظمة تنظيما يتفق وتنظيم الكتب العلمية عند الغربيين إلا كتب المستشرقين، الذين أفنوا أعمارهم في دراسة ثقافتنا وتتبع مصادرها في خزائن الكتب العامة عندهم....» (5)، فلم يسلم من مثقفينا إلا القليل، ممن آلوا على أنفسهم جهد المراجعة، والقراءة الجديدة من المصادر الصحيحة الأصيلة، بعيدا عن زيف المستشرقين وقراءاتهم، غير مكتفين بما تم تحصيله منهم. أما أولئك الذين اكتفوا بما قرأوا، فأصبحوا مجرد أبواق لترديد ما تحصلوا عليه، وإن كان ممتلئا بالشوائب، فقاموا بإنتاج وصناعة نخب على نهجهم، ومنهاجهم، وعلى سمعهم وبصرهم، يتبنون طروحاتهم وأفكارهم، بل ويجتهدون بما يتماشى وتصوراتهم، ومناهجهم في التفكير والتحليل، حتى وإن كانت هذه المناهج قد شاخت وماتت في المجتمعات التي ولدت فيها، وبالتالي «فإذا كانت الأفكار التي تستورد من الخارج هي أيضا مميتة في وسطها الأصلي فإنها ستلعب في مجتمعنا الدور نفسه وتعطي النتائج نفسها...» (6).
ولما تنامت عملية إحياء التراث العربي الإسلامي، تحقيقا وتدقيقا ومتابعة، وتمكنت من إفشال هذه المخططات، تغيرت استراتيجية العمل، بحيث إن سهام النقد، والهدم لم تعد تتجه بتلك الحدة نفسها، كما كانت، للدين والحضارة العربية الإسلامية بشكل مباشر، لأنها لعبة مكشوفة وساذجة، إذ أصبحت تتجه إلى اللغة كنوع من التقية والتحايل، للتلبس بلبوس المدافع عن الأمة والغيور عليها، والذي لا يريد لها إلا التقدم والرقي والتطور، لتستمر مذبحة التراث والحضارة عبر إنتاج لغة هجينة، لا امتداد لها، لا روح لها، لا في التاريخ، ولا في المجتمع.. لغة ضعيفة، اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا وتداوليا، بإحداث نوع من القطيعة معرفيا وحضاريا بين الإنسان العربي المسلم وتراثه، مما يعني تحقيق الهدف المرسوم سلفا وهو ما يمكن أن نمثل له بالمعادلة التالية:
إضعاف اللغة = إضعاف الهوية = إضعاف الذات
لغة= هوية = ذات

وهي معادلة يمكن أن نكتشفها بشكل جلي من خلال حديثنا عن الازدواج اللغوي.

3- الازدواج اللغوي
لعل من تبعات الحركة الاستعمارية للعالم الإسلامي أنها لم تنهب مقدراته الطبيعية فحسب، بل عملت على إضعافه أيضا، ثقافيا وفكريا، حتى لا تقوم له أي قائمة، وبالتالي تبقى هي القوة السائدة، حتى لو خرجت. كما أن الصراع لم يكن صراعا عسكريا فقط، بل كانت هناك صراعات ومعارك حامية الوطيس في جبهات أخرى لا تقل خطورة عن تلك العسكرية، استعملت فيها أسلحة أخرى واستراتيجية من نوع آخر، هذه المعارك قادها رجال الفكر والثقافة المتشبعون بقيم اللغة الأصيلة، وبقيم الدين الحنيف وتعاليمه السمحة، فقد كانوا هم محركيها، وكان الدين هو الطاقة المتجددة التي يشحن بها المجاهدون والمناهضون للاستعمار في البلدان العربية الإسلامية، وهذا ما انتبه إليه المستعمر مبكرا. ولما لم تنفع استراتيجية الخرافة والدجل لإفساد العقيدة أمام يقظة الفكر الإصلاحي النهضوي في العالم الإسلامي، لجأ إلى استراتيجية أخرى تنبني على إشاعة الفرقة بين المسلمين، لكون الإسلام كان هو اللحمة الجامعة، رغم اختلاف الأعراق والألوان والألسن، فبدأ يبحث عن شيء آخر، فوجد ضالته في تشجيع الفكر القومي، والعرقي، والطائفي، تحت يافطة حقوق الأقليات، وهو ما يتجلى بشكل واضح في تفكيك الخلافة الإسلامية بتشجيع العنصر العربي على الانفصال، ثم بث الفرقة داخل الأوطان العربية: الظهير البربري في المغرب العربي - استعمال ورقة الأكراد في العراق والشام وتركيا.. وتشجيعهم على الانفصال - تمزيق السودان، إلى غيرها من المحطات التي كانت كلها تهدف إلى إضعاف الأمة، والتي مازالت سائدة إلى الآن، وإن اتخذت صورا أخرى، وتلونت بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، إلا أنها هذه المرة بلاعبين جدد من الداخل، وهنا الخطورة، كالتيار الأمازيغي المتطرف في المغرب العربي الكبير، ثم ورقة الأكراد في الشام والعراق وتركيا، وهو مخطط يدخل من دون شك في سياق إضعاف الأمة وتفكيكها وتمزيقها، بدءا باللغة وانتهاء بالمقومات الحضارية لها، ونحن نتحدث عن المخططات الاستعمارية في ما يخص الجانب اللغوي، لابد من التأكيد على أن العصر الاستعماري غرس في ما غرس من الظواهر المتصلة بالهياكل الاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية في البلاد المستعمرة ظاهرة خاصة هي ازدواجية اللغة التي تتعلق ببناه الثقافية، والعقلية وبأفكاره (7). وهو ما حدث في كل البلدان العربية المستعمرة، وإن بدرجات متفاوتة في المغرب العربي، كما في مصر والشام، الأمر الذي أدى إلى إعادة إنتاج الأفكار والقيم والمعتقدات، كما يلاحظ مع عبدالرازق الأزهري القديم الذي جعل أفكاره وقيمه الأساسية موضع تساؤل عندما ناقش مثلا فكرة الخلافة (8) أو لآخرين من بعده، وإلى الآن، ممن انبهروا بثقافة الغرب وافتتنوا به إلى حد الحلول، وصاروا يرون فيه الأنموذج الذي يحتذى به، بدءا برفاعة الطهطاوي وانتهاء بمناصري قيم الحداثة وما بعد الحداثة. ولقد انتبه مالك بن نبي لخطورة هذا منذ زمن بعيد، مشيرا إلى أن الانشقاق الذي أدخلته ازدواجية اللغة في العالم الثقافي للبلد الإسلامي ليس ذا طابع جمالي فقط، بل هو ذو بعد أخلاقي وفلسفي، والمتأمل لما يحصل حاليا في المشهد الثقافي العام، يدرك - لا محالة - أن الأمر في الازدواج اللغوي لم يعد منوطا به تفجير الحقل الثقافي، وإغناؤه فقط، بل تمادى إلى حد تفخيخه وتخريبه، ونسفه بالكامل، متلبسا بإيديولوجيات متنوعة، لتخدم ما سماها مالك بن نبي آلهة اليوم وتمائم الساعة ولتخدم نفسها تحت أي قناع من هذه الأقنعة (9)، وهو ما يتكشف من خلال تصاعد الأصوات الداعية إلى اعتماد اللهجات في التدريس، وتصاعد التيار الأمازيغي المتطرف الذي بمناسبة وبغير مناسبة تجده متحاملا على اللغة العربية، وهو لا يعبر إلا عن هدف واحد، وهو ضرب اللغة العربية في معاقلها الأساسية وإضعافها، وبالتالي الترويج لأفكار المستشرقين، واتهامهم للغة العربية باعتبارها لغة جامدة، ومحنطة، وعاجزة عن التعبير عن الفكر الجديد (10)، فالمشكلة ليست أساسا في اللغة، بقدر ما هي في الفكر، ولو كانت في اللغة لما استطاعت مجتمعات بالأمس القريب كانت تراوح مكانها في التخلف، أن تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار، من دون أن تقطع مع لغتها وتاريخها وتراثها، لنخلص كما يقول الدكتور عبدالعزيز حمودة «إننا حينما استغرقتنا عملية استهلاك فكر الآخر، ولم نعد ننتج فكرا خاصا بنا، قدمنا لغتنا في حالة قصور وعجز..» (11).
لذا نجده لا يتردد، وهو الملم والمتلقي للتعليم الغربي، في أن يحذر من مخاطر التبعية الثقافية، كما يدعو إلى الاتجاه للتراث العربي القديم، لتأكيد شرعيته هو، وليس شرعية الحاضر، وإبراز وتطوير أفضل ما فيه لتحديد رؤية أو شرعية للمستقبل من دون إهمال الاستفادة من المخزون الثقافي الغربي بعيدا عن الارتماء الكلي في أحضان الثقافة النظرية الغربية الحديثة، لما فيه من تجن على الذات واللغة، إضافة إلى ذلك، فإن شعار القطيعة المعرفية مع التراث، خلق فراغا أدى إلى تبني الفكر الغربي كبديل لملء الفراغ الجديد، وبالتالي خلو الساحة الثقافية العربية من فكر لغوي، ونقدي ناضج (12)، لأن اللغة العربية لغة استمرارية وحياة، وليست لغة قطيعة، وبالتالي كان التقهقر هو المآل، لما تم الانسياق وراء فكر الآخر وتبنيه، الأمر الذي صار يستوجب رفض ثنائية الانبهار بكل إنجازات العقل الغربي واحتقار كل إنجازات العقل العربي (13).
هذه إذن بعض التحديات المطروحة أمام اللغة العربية، أبينا إلا أن نضعها في سياقها التاريخي والثقافي والفكري، بغية فهم ما يحصل حاليا من تحامل عليها، لأن فهم الحاضر يستدعي استيعاب الماضي، لوضع أرضية صلبة تستشرف المستقبل.
رهان العالمية

إننا حينما نقول إن اللغة العربية لغة كونية وعالمية، بإمكانها المنافسة، وتحقيق الريادة، واسترداد أوجها ومجدها، لا نقول ذلك من باب دغدغة العواطف والأحلام، بل نقول ذلك انطلاقا من مجموعة من المؤشرات، كما وضعها علماء لغويون غربيون قبل العرب أنفسهم، وانطلاقا أيضا من دراسات وأبحاث لسنية ومن نتائج محصل عليها تصب كلها في مصلحة اللغة العربية.
لقد أثبتت الدراسات اللسنية الحديثة أن اللغة الوحيدة غير القابلة للانقراض هي اللغة العربية.

الهوامش

(1) اللغة والهوية، جون جوزيف، ترجمة عبدالنور خراقي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 342، أغسطس 2007م، الكويت، ص7.

(2) المصدر نفسه، ص11.
(3) مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق 1988م، ص151.
(4) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي، دار ابن حزم، بيروت 2010م، ص285.
(5) المصدر نفسه، ص51.
(6) مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص150.
(7) المصدر نفسه، ص137.
(8) انظر: كتاب مختارات من الأدب العربي المعاصر، أنور عبدالمالك، باريس 1965م، ص81 ـ86.
(9) مشكلات الأفكار في الحضارة الإسلامية، مصدر سابق، ص139.
(10) المرايا المقعرة، عبدالعزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، العدد 272، أغسطس 2001م، الكويت، ص195.
(11) المصدر نفسه، ص196.
*انظر: المرايا المقعرة، عبدالعزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة.
(12) المصدر نفسه، ص195.
(13) الخروج من التيه، عبدالعزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، العدد 298، نوفمبر 2003م، الكويت، ص68.