عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ مِثْلَ الصِّبْيَانِ، مِنْ ضِيقِ الأُزُرِ خَلْفَ النَّبِيِّ ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ.
• عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يَمْنَعْهَا))، وفي رواية: ((لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله))، وفي رواية: ((ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ)).
وفي رواية: قَالَ بِلالُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بن عمر رضي الله عنه: وَالله لَنَمْنَعُهُنَّ ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُاللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ: وَالله لَنَمْنَعُهُنَّ .
• وعَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّة امْرَأَةِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا))، وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ))؛ رواهما مسلم.
• وعَنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمن ِ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
رواة الأحاديث:
جميع الرُّواة تقدمت ترجمتُهم ما عدا زينب الثقفية رضي الله عنها.
زينب الثقفية: هي زينب بنت أبي معاوية، وقيل: (بنت عبدالله بن معاوية) العامرية الثقفية، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها ابن مسعود، وعن عمر رضي الله عنهم أجمعين، روى عنها أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود، وابن أخيها، اختلف في ريطة أو رائطة، قيل: هو لقب لها، وقيل: هو اسم لزوجة أخرى لابن مسعود، وكانت زينب تنفق على عبدالله بن مسعود، وعلى ولده من ثمن صنعتها، فقد أخرج الثلاثة أن زينب جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني امرأة ذات صنعة، فأبيع وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي شيء، ويشغلونني فلا أتصدَّق، فهل لي في النفقة عليهم من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لك في ذلك أجر، ما أنفقتِ عليهم، فأنفقي عليهم))؛ [انظر: أسد الغابة (6/ 121)، والإصابة (8/ 164)].
تخريج الأحاديث:
حديث سهل بن سعد أخرجه مسلم (441)، وأخرجه البخاري في "كتاب الصلاة" "باب ما جاء في فضل الصف الأول" (224)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الصلاة" "باب الرجل يعقد الثوب في قفاه ثم يصلي" (630)، وأخرجه النسائي في "كتاب القبلة" "باب الصلاة في الإزار" (765).
وأما حديث ابن عمر فأخرجه مسلم (442)، وأخرجه البخاري في "كتاب النكاح" "باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره"(5238)، وأخرجه النسائي في "كتاب المساجد" "باب النهي عن منع النساء من إتيانهن المساجد" (705).
وأما حديث زينب الثقفية فأخرجه مسلم (443)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه النسائي في "كتاب الزينة" "باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت البخور" (5144).
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم (444)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه أبو داود في كتاب" الترجل" "باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج" (4175)، وأخرجه النسائي في كتاب "الزينة" "باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت البخور" (5143).
وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم (445)، وأخرجه البخاري في كتاب "الأذان" "باب انتظار الناس قيام الإمام العالم" (869)، وأخرجه أبو داود في كتاب "الصلاة" "باب التشديد في ذلك" (569).
شرح ألفاظ الأحاديث:
"لَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ": عقدوها لضيقها؛ لئلا يُكشَف شيء من العورة لا سيما عند الركوع والسجود، والأُزُر: جمع إزار؛ وهو ما يحيط بالجزء الأسفل من الجسم، ولا رداء لهم، فيعقدون طرف الإزار في العنق.
"يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجالُ"؛ أي: من السجود لئلا يقع بصر امرأة على عورة رجل انكشف، لضيق أزرهم.
"إِمَاءَ الله": المقصود النساء، يُقال للرجال: عباد الله، وللنساء: إماء الله، والتعبير بهذا اللفظ فيه إشارة إلى أنها أمة الله، وليست أمتك حتى تمنعها.
"ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ": التقييد بالليل ليس مرادًا، والعبرة بالعموم بدليل الإطلاق في الروايات الأخرى، أو يُقال: نهي عن منعهن من الخروج ليلًا لبيان أن غير الليل أولى بالنهي عن منعهن.
"قَالَ بِلالُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بن عمر: وَالله لَنَمْنَعُهُنَّ ": ليس مراده معارضة نهي النبي صلى الله عليه وسلم وردُّ الحديث، ولكن قصده تغيُّر النساء عما كن عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الحشمة والحياء، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن".
"فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا"؛ أي: وبَّخه بشدة، وفي رواية لمسلم: "فزبره ابن عمر"؛ أي: نهَرَه، وفي رواية له: "فضرب في صدره"، لظاهر معارضته كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت معارضته ليس لذات النهي؛ وإنما لأجل تغيُّر النساء.
((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ))؛ أي: إذا أرادت شهودها؛ أما من شهدت العشاء، ثم عادت لأهلها فلا تمنع من التطيُّب.
((فَلا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ)): التقييد بالعشاء ليس مرادًا؛ وإنما هو على سبيل المثال، فلو شهدت بقية الصلوات فإنها لا تمس طيبًا.
"مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ": قال النووي: "يعني من الزينة والطيب وحسن الثياب"؛ [شرح مسلم (4/ 385)].
"كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ": قال العيني: "يحتمل أن تكون شريعتهم المنع، ويحتمل أن يكون منعهن بعد الإباحة، ويحتمل غير ذلك مما لا طريق لنا إلى معرفته إلا بالخبر"؛ [عمدة القاري (6/ 159)].
"قَالَ فَقُلْتُ لِعَمْرةَ": القائل يحيي بن سعيد الراوي عن عمرة.
"قَالَتْ: نَعَمْ": قال ابن حجر:" وقول عَمرة: "نعم" في جواب سؤال يحيي بن سعيد لها، يظهر أنه تلقته عن عائشة رضي الله عنها، ويحتمل أن يكون غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها موقوفًا، أخرجه عبدالرازق بإسناد صحيح، ولفظه: قالت: " كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلًا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسُلِّطت عليهن الحيضة" وهذا وإن كان موقوفًا، فحكمه حكم الرفع؛ لأنه لا يُقال بالرأي، وروى عبدالرزاق أيضًا نحوه بإسناد صحيح"؛ [فتح الباري (2/ 350)].
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: الأحاديث دليل على جواز شهود المرأة جماعة المسلمين في المسجد؛ بل جاء النهي عن منع النساء شهود الجماعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَمْنَعُوا إِماءَ الله مَساجِدَ الله))، وفي الرواية الأخرى: ((إذا استأذنت... فلا يمنعها))، والأمر بالإذن لهن: ((ائْذَنُوا لِلنِّساءِ بِاللَّيْلِ إِلى الْمَساجِدِ))، واختلف في حكم النهي في الأحاديث، إن استأذنت تستأذن من وليِّها كزوجها إن كانت متزوجة أو أبيها إن كانت غير متزوجة، فمنعها، ما حكم منعه؟
القول الأول: أن النهي للكراهة، وهو مذهب الحنابلة، واختاره النووي؛ [الفروع (1/ 601)، والإنصاف (2/ 242)، وشرح النووي لمسلم (4/ 383)].
واستدلُّوا:
1- بأحاديث الباب، ومنها حديث عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله))؛ متفق عليه.
2- حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خيرٌ لهن، وليخرجن تفلات))؛ رواه أحمد، وأبو داود، ومعنى تفلات؛ أي: غير متطيبات.
والقول الثاني وهو الراجح إن شاء الله: أنه يحرم منعها للأدلة السابقة، والأصل في النهي التحريم، ولا يوجد صارف يصرفه للكراهة، وهو الراجح، وظاهر كلام ابن قدامة، واختيار شيخنا العثيمين؛ [الفروع (1/ 601)، والإنصاف (2/ 242)، والممتع لشيخنا (4/ 201)].
ومما يدل على أنه للتحريم أيضًا حديث ابن عمر في الباب حيث جاء في بقية الحديث أن بلالًا بن عبدالله بن عمر لما سمِع هذا الحديث قال: "والله لنمنعهن"؛ لأنه رأى الفتنة وتغيُّر الأحوال، فأقبل عليه ابن عمر وسبَّه سبًّا شديدًا وهجره، وقال له: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله)) وتقول: "والله لنمنعهن"، والحديث في الصحيحين.
وعليه فلا يجوز للولي أن يمنع المرأة من الخروج للمسجد من أجل صلاة الجماعة، وفرَّق بعض العلماء بين الشابة فيجوز منعها بل يُكره الإذن لها؛ لما فيها من الفتنة، وبين العجائز فيُكره منعهن، والصواب ألا فرق بينهما مع أمن الفتنة، وتحقق الشروط كما سيأتي؛ لعموم النصوص؛ [انظُر: الإفصاح لابن هبيرة (1/ 150)].
قال شيخنا العثيمين: "والأصل في النهي التحريم، فيحرم على الولي أن يمنع المرأة إذا أرادت الذهاب إلى المسجد لتصلي مع المسلمين، وهذا القول هو الصحيح.... لكن إذا تغيَّر الزمان فينبغي للإنسان أن يُقنع أهله بعدم الخروج، حتى لا يخرجوا، ويسلم هو من ارتكاب النهي الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: ((إذا استأذنت المرأة)) يشمل الشابَّة والعجوز، والحسناء والقبيحة... وقوله: "إلى المسجد"؛ أي: للصلاة، أما لو ذهبت إلى المسجد للفرجة على بنائه أو لتحضر محاضرة في المسجد مثلًا فله أن يمنعها، فبيتها خيرٌ لها من الخروج إلى المسجد؛ لأنه هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن))؛ [الممتع 4/ 201].
وقال في تعليقه على مسلم (3/ 173): "والخلاصة الآن أن الرجل لا يمنع زوجته من الخروج إلى الصلاة، إلا إذا خاف فتنة بها أو منها؛ لكن هل له أن يمنعها من حضور مجالس العلم ومجالس القرآن أم لا؟
يُقال في هذا كما يُقال في حضور المساجد؛ لأن الجميع يتفق، أو لأنه يمكن أن يجمع بأن الخروج لمصلحة دينيَّة، أما إذا كان لمصلحة غير دينيَّة؛ كما لو خرجت من أجل أن تتجوَّل في الأسواق، أو من أجل أن تشتري حاجة لها، يمكنه أن يقوم بذلك بنفسه أو بولده أو ما أشبه ذلك، فله أن يمنعها".
وفي مسألة خروج المرأة بإذن وليِّها للمساجد تنبيهان:
الأول: يشترط لخروج المرأة إلى المسجد ما يلي:
1- ألا يكون في ذلك فتنة، فإذا وجدت الفتنة لها أو بها فلا تخرج لذلك، ولا يُؤذن لها؛ لما جاء من حديث عائشة في الباب، قالت: "لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَني إِسْرائِيلَ"، وعليه يُحمَل قول بلال في الباب: "واللهِ لنَمنَعَهُنَّ".
2- أن تخرج غير متطيِّبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق: "وليخرجن تفلات"؛ أي: غير متطيبات، ولحديث أبي هريرة في الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلا تَشْهَدْ مَعَنا الْعِشاءَ الآخِرَةَ))، وحديث زينب الثقفية في الباب ((إِذَا شَهِدَتْ إِحْداكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا)).
3- ألَّا تلبس ثياب زينة ولا تتبرَّج؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وليخرجن تفلات".
4- أن تستأذن زوجَها أو وليَّها كما هو ظاهر أحاديث الباب.
الأمر الثاني: لا يُفهم من عدم منع المرأة الخروج إلى المسجد أن ذلك أفضل للمرأة؛ بل المرأة خير لها أن تصلي في بيتها؛ لحديث أبي هريرة السابق حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وبيوتهُنَّ خيرٌ لهُنَّ))، وعليه نقول للمرأة: الأفضل لك أن تصلي في بيتك، وإن أردت الخروج إلى المسجد، فيجوز لك ذلك بالشروط السابقة، إلا صلاة العيدين، فإن الأفضل للمرأة أن تخرج إلى المصلى؛ لحديث أم عطية حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحيض والعواتق وذوات الخدور أن يخرُجْنَ لصلاة العيد وأمر الحيض أن يعتزلْنَ المصلَّى، والحديث في الصحيحين.
الفائدة الثانية: حديث سهل بن سعد فيه ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلة ذات اليد وضيق المعيشة، وهذا عام سواء في ألبستهم كما في حديث الباب حيث كانوا لا يملكون من الإزار إلا ما يُغطِّي الجزء الأسفل من الجسم، فيضطرُّوا لعقدها على أعناقهم؛ لئلا تنكشف العورة عند الانحناء للركوع أو السجود، وهكذا هم في طعامهم، وعلى رأسِهم العُمَرانِ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، قال لهما رضي الله عنهما: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟))، قالا: الجوع يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ...)) الحديث، وعند البخاري يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لقد رأيتني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشيًّا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويُرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع"، والأمثلة على قلة المعيشة في حياتهم كثيرة، وليس هذا مقام بسطها.
الفائدة الثالثة: الحديث دليل على احتياط الصحابة في سترة العورة وحرصهم، وذلك بعقدها على أعناقهم؛ لئلا تنكشف، وفيه أهمية ستر العورة في الصلاة وعدم انكشافها حتى مع قلة الثياب والعجز، وذلك بأمر النساء ألا يرفعن رؤوسهن قبل الرجال.
الفائدة الرابعة: حديث ابن عمر فيه دليل على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلَّا بإذنه من حيث الأصل؛ ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منعهن إذا استأذنَّ للمسجد؛ لبيان محل الجواز، ويبقى ما عداه على المنع.
الفائدة الخامسة: الحديث دليل على شِدَّة غضب الصحابة عند مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وتعظيمهم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وتربية أبنائهم على ذلك كما كان من ابن عمر لابنه بلال حين قال له: "أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: "والله لنمنعهن"!
الفائدة السادسة: في الحديث استجابة الصحابة رضي الله عنهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يُفهَم من إنكار ابن عمر لابنه، وفي لفظ البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَمْنَعُوا إِماءَ الله مَساجِدَ الله)).
الفائدة السابعة: حديثا زينب وأبي هريرة رضي الله عنهما يدلان على أن المرأة ممنوعة من التطيُّب إذا أرادت الخروج من بيتها، ويغلب على ظنِّها مرورها برجال أجانب، وعليه فإن خروج المرأة من بيتها مُتعطِّرة على ثلاث أحوال:
الأولى: أن تضع الطيب ليجد الرجال الأجانب ريحها في الأسواق والمجامع وسائر الأماكن التي يغشاها الأجانب، فهي بهذا ارتكبت مُحرَّمًا؛ بل كبيرة من كبائر الذنوب.
ويدل على ذلك: حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا استعطرت المرأة، فمرَّت على القوم ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا، قال قولًا شديدًا يعني زانية))؛ رواه أبو داود والترمذي، وصحَّحه ابن دقيق العيد، وحسَّنه الألباني؛ [انظُر: الاقتراح لابن دقيق العيد، ص(126) وصحيح الترمذي للألباني (6/ 286) حديث (2786)].
قال العظيم آبادي: "ليجدوا ريحها"؛ أي: لأجل أن يشموا ريح عطرها"؛ [عون المعبود 11/ 153)].
وقال المناوي: "فهي زانية"؛ أي: هي بسبب ذلك متعرِّضة للزنا، ساعية في أسبابه، داعية إلى طلابه، فسُمِّيت لذلك زانية مجازًا، فربما غلبت الشهوة فوقع الزنا الحقيقي"؛ [فيض القدير(1/ 355)].
الثانية: أن تضع الطيب ويغلب على ظنِّها مرورها برجال أجانب؛ ولكن لم تضعه من أجلهم، فهي بهذا فعلت مُحرَّمًا، وإن لم تقصد فتنة الرجال.
ويدلُّ على ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31].
ووجه الدلالة: أن الله تعالى نهى المرأة عن إبداء زينتها للرجال الأجانب، والطيب من الزينة، فإذا فعلت ذلك وقعت في المحظور.
2- حديث زينب الثقفية في الباب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا))؛ وذلك لأن ارتياد المسجد مظنَّة المرور برجال أجانب، فنهى عن ذلك.
3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلا تَشْهَدْ مَعَنا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ)) للعلة السابقة.
الثالثة: أن تضع الطيب، ويغلب على ظنِّها عدم مرورها برجال أجانب، كأن تخرج مع زوجها في رحلة تنزُّه، أو لزيارة أهلها، أو تخرج مع زوجها في سيارة لأحد مجامع النساء الخاصة، أو تخرج مع زوجها في سيارته، وتنزل على باب المصلى المعزول كلية عن الرجال ثم ترجع معه مباشرة دون المرور بالطرقات العامة ونحو ذلك من الأحوال التي تظنُّ المرأة أنها لن تمرَّ برجال أجانب، وكان غرضها من التطيُّب التنظُّف العام الذي أمرت به الشريعة، فلا حرج من تطيُّبِها حينئذٍ لانتفاء علة التحريم فلا فتنة حينئذٍ، وعلى هذا فقه نساء الصحابة حيث كن يستعملن الطيب فيما يغلب على ظنِّهِنَّ عدم انتشاره بين الرجال؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب (نوع من الطيب) عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها"؛ رواه أبو داود، وحسَّنه النووي، وصحَّحه الألباني؛ [انظُر: المجموع للنووي (7/ 219)، وصحيح أبي داود للألباني، حديث (1830)].
الفائدة الثامنة: حديث عائشة دليل على أنه لا يجوز للمرأة الخروج في حال الفتنة أو متلبِّسة بفتنة خشية أن تفتتن أو تفتن غيرها؛ ولذا قالت: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما مُنِعت نساء بني إسرائيل".
قال العيني: "فإذا كان الأمر قد تغيَّر في زمن عائشة حتى قالت هذا القول، فماذا يكون اليوم الذي عمَّ الفساد فيه، وفشت المعاصي من الكبار والصغار، فنسأل الله العفو والتوفيق"؛ [عمدة القاري (6/ 296)].
قلت: ماذا لو رأى العيني صاحب هذه المقولة قبل أكثر من خمسمائة عام ما عليه بعض مجامع النساء اليوم، واختلاطهن بالرجال، وذَهاب الحياء، لاسيَّما مع تعدُّد وسائل التواصُل وأماكن التجمُّع والاختلاط في سائر أقطار العالم الإسلامي، والله المستعان.


مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الصلاة)


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/130820/#ixzz5Xa5Lhp84