غرائز الأدب


د. وهيب خوج

أخرج ابن السمعاني بسند فيه مقال عن ابن مسعود رضى الله عنه عن النيى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي))، وأخرج الشيرازي في فاوئده وابن النجار عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن، فإن حملة القرآن فى ظل يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه)). وكم نحن إلى قليل من الأدب أحوج إلى كثير من العلم، فالعقل يحتاج إلى مادة الأدب كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الطعام، والأدب كنز عند الحاجة عون على المروءة، صاحب في المجلس، أنيس في الوحدة تعمر به القلوب الواهية، وتحيا به الألباب الميتة، وينال به الطالبون ماحاولوا. وقد قيل: علم بلا أدب كشجاع بلا سلاح، فالأدب إذا تطعمت به نجع، وإن تعطرت به سطع، وإن ترديت به نفع، ومن اكتسب أدبا اكتسب نسبا، والأدب سبب لنيل الأرب، ولقطات الأدب قرضات الذهب كما قالوا. وان حلي الرجال فيما يحسنونه، وحلي النساء فيما يلبسونه.

تكلم رجل بين يدي المأمون، فأحسن، فقال له: ابن من أنت؟ قال: ابن الأدب ياأمير المؤمنين، قال: نعم النسب انتسبت إليه، ولهذا قيل المرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت، ومن حيث يوجد لا من حيث يولد. فخير ما استفاد المرء بعد الإيمان بالله ورسوله أدبا يتحلى به، لأنه مسك الأنبياء، وخلقهم وسمتهم عليهم السلام، والأدب هو الدين كله، وحقيقته: استعمال الخلق الجميل، واستخراج مافي الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل، ولقد خص الله بالفلاح من زكى نفسه فنماها وعلاها. ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ((الت حريم:6) قال ابن عباس رضى الله عنه أدبوهم وعلموهم، وهذه اللفظة مؤذنة بالاجتماع، فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد.
فبالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصح العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة يقام الزهد، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا يرغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال الرتبة عند الله تعالى. فيا ليت طلاب العلم اليوم عملوا على تزكية االعقل بالأدب، كما تزكي النار الذهب، فالأدب أقرب الطرق إلى الله، فلله طرائق بعدد الأنفاس، وأقرب الطرق إليه طرق الذل والانكسار، وهما من أجل خصال الأدب.
وأنفع طرق الأدب: التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك، حقا: إن أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه. وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب. ولا استجلب الشؤم والحرمان بمثل سوء الأدب والخلق، وتأملوا أيها الكرام: أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان. قال شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك: ((من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن نهاون بالسنن، عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض، عوقب بحرمان المعرفة)).
وكما قال أنس بن مالك رضى الله عنه الأدب في العمل علامة قبول العمل.
فيما لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس مايحسنونه
وقال ابن عطاء: النفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، والنفس تجري بطباعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بجهده إلى حسن المطالبة، فمن أعرض عن الجهد، فقد أطلق عنان النفس وغفل عن الرعاية، ومهما أعانها فهو شريكها.
وإذا ترقت به عزائمه إلى الثريا رسا به الأدب، واعلم أخي المؤمن أن محصل الأدب من تحققت فيه أنواع الأدب، وبلغ الكمال فيها، ومن ترقى في درجات الأدب من درجة إلى درجة.