عمر.. حكمت فعدلت فأمنت فنمت


د.إيمان عادل عزام - أكاديمية سعودية



كآلاف غيري سمعت عن مسلسل «عمر»، لكني لم أر غير الدعاية، فرأيت عصًا.. ويدًا.. وكتفًا.
لم تكن العصا هي عصا سيدنا عمر بن الخطّاب "رضي الله عنه" التي كان يضرب بها في الحق لا يخاف لومة لائم.

واليد التي رأيت لم تكن تلك اليد التي صافحت رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ونزل فيها قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}.
ولم يكن ذلك الجسد هو ذات الجسد الذي لم يضعه صاحبه على الأرض مستلذًّا بنوم منذ عرف الله تعالى، ولم تمر في فكري غير ثوان؛ لأتيقّن أني لو رأيت وجه الذي في المسلسل، فلن أرى النور الذي أضاء وجهًا رأت عيناه رسول الله " صلى الله عليه وسلم" .. ولو سمعت صوته، فلن يكون هو الصوت الذي نزل القرآن بتأييده سبع عشرة مرّة!!
إنه ليس سيدنا عمر، ولا مثاله، ولا يجسّده، ولا يصوّره.
إنه فتى يحكي معلومات جمعها عن صاحب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" لكنه لم يتقن الحكاية؛ لأنه يحكيها، فيدخل فيها صورته، ورؤية المخرج، وزوايا عدسة المصوّر، ثمّ مؤثّرات (رتوش) لتجتذب الجماهير، وتناسب مستوى الذوق الرفيع الذي وصلنا إليه!!
وهكذا.. عاهدت نفسي وأهل بيتي ألا أرى هذا المسلسل ولو صدفة.
لم يحتج الأمر مني إلى كثير من التفكير، ولم يحتج من أهلي إلى شيء من الإقناع، فصدى حديث عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه" يتردّد في نواحي البيت: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ في قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ " صلى الله عليه وسلم" خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ في قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ على دِينِهِ...»(رواه أحمد).
إني أتذكر جيّدًا ما روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه أنه قال: ما رأيت هاشميًّا أفقه من علي بن الحسين، سمعت علي بن الحسين وهو يسأل: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ؟ فأشار بيده إلى القبر، ثم قال: منزلتهما منه الساعة(1).
إن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" هو أفضل خلق الله تعالى وحبيبه، ومكان سيدنا أبي بكر وسيّدنا عمر- رضي الله عنهما- مكانهما منه الآن حينما تزوره " صلى الله عليه وسلم" فتجدهما ضجيعيه، لا يبعدان عنه أشبارًا.
إن أصحاب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" كافة هم صفوة البشر الذين وصلت سيرتهم الإنسانية في قمّة كمالها، إنهم تربية رسول الله " صلى الله عليه وسلم" .. أليس تقولون إن: «الصاحب ساحب»؟ كيف بنا بصاحبٍ صاحَب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ؟! الإنسان الكامل، ذلك الكمال الذي تعجز اللغة عن التعبير عنه.
إن صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" هم المثل العظمى.. والقيم العليا.. هم تجسيد ديننا بكل ما حوى من معان وقيم ومبادئ وأخلاق وأحكام.
إنك حين تعجز عن إدراك معنى العزيمة إلى الدرجة التي يقوم المرء فيها ليله، ويجاهد نهاره صائمًا محتسبًا، ولو كان حديث عهد بعرس أو كان طفلًا يشبّ على أطراف قدميه ليقنع رسول الله " صلى الله عليه وسلم" أن يأخذه معه في الجهاد، فاذهب إلى حياة الصحابة ستجد هذه الصور عندهم كثيرة وفيرة، وستجد معها شخصًا يحدّث نفسه: كيف يلقى الله غدًا وليس معه على التقصير عذر؟!
وحيث عسر عليك أن تتصور حبًّا لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" يفوق حب النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين، فارحل سريعًا إلى ساحة أحد لترى عيناك حقيقة بشر تحوّلوا في طرفة عيْن إلى دروع تحول بين رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وبين ما يؤذيه، ولو كان شوكة، إنهم أصحاب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" .
وقس على ذلك- يا أخي- كل ما يضيق عقلك عن تصوّره، الإيثار لحدّ الموت، الزهد الذي يحمل أمير المؤمنين صاحب الفتوح على أن يلبس ثوبًا فيه اثنتا عشرة رقعة.. الخشوع في العبادة إلى الحدّ الذي تقطع فيها قدم الصحابي فلا يشعر، الرحمة.. العدل.. العطاء.. البناء.. العزّة.. الصدق.. نقاء السريرة.. حبّ الخير للبشرية أجمع.. مراقبة النفس.. الإخلاص.. التوكّل.
لقد وسعتهم تلك المعاني العظيمة بل غلبوها، فصار كل واحد منهم معنى بنفسه، فكلٌ منهم أمة وحده.
إنهم صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" الذي اهتز عرش الرحمن يوم مات واحد منهم.
إن صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ليسوا ملائكة معصومين، لكنهم بشر كاملون، وقد «كمل من الرجال كثير.. »، نعم.. كاملون؛ لأنهم أصحاب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" أو قل: لأنهم تربية رسول الله " صلى الله عليه وسلم" .
إنهم أصحاب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" رأوْه بأعينهم، وصافحوه بأيمانهم، وفدوْه بأرواحهم. جالسوه في مجلسه، أحبّوه وأحبّهم، سجدوا بسجوده، وقاموا بقيامه، خاطبهم وسمع منهم، سمعوه وكلهم أذن.. حتى كأنهم صفحات نقية حفر رسول الله " صلى الله عليه وسلم" رسالته عليها، فإذا بالنبي الأميّ يكتبها بماء الذهب، فلا تصدأ ولا تمحى، وتبقى سيرتهم ترويها الأجيال جيلًا بعد جيل، ويظلّ الأمل في المسلمين- وإن بعدوا- ما بقيت سيرتهم تروى بينهم.
أخي المسلم، احكِ السيرة العظيمة لسيدنا عمر بن الخطّاب "رضي الله عنه" ، لكن اروها كما هي، فإنك لن تستطيع أن تضيف شيئًا على كأس ممتلئ، ولو أضفت على كأس مملوء لأنقصته، فلا تفعل.
احكِ سيرة أمير المؤمنين، ولا تدخل فيها رؤياك، وصورتك، وصوتك، وجسدك.. احكها كما حكاها المسلمون، وكما هي في الكتب، وكما تأثّرتَ أنت بها، فقرَّرت أن تجعلها مسلسلًا.
احكها كما هي.. ولا يخدعنك بريق مال لم يكن يساوي عند سيدنا عمر "رضي الله عنه" سوى التراب.
كفاك دعاوى فارغة: إننا علينا أن نعلّم النشء.. ونعرّفهم برموز الإسلام ورجالاته.. ولابد من اجتذاب النشء.. ولكل عصر وسائله.. و.. و..
أفق يا مسلم.. إنها لعبة جديدة يلعبها الشيطان عليك.
أي ناشئ يرى مسلسل عمر؟!
فرضنا أن الناشئة ترى المسلسل، وتستفيد منه.. ألا تستطيع الناشئة أن تعرف الصحابة أو تحبّهم إلا من خلال مسلسل تلفزيوني!!
ترى ماذا سنفعل ليعرف أبناؤنا باقي ديننا؟! وهل كلّ معنى يسهل تجسيده؟!
كيف عرف المسلمون الصحابة وأحبوهم في أعصر سابقة لم تكن المسلسلات جزءا منها؟!
لماذا نجحوا فيما فشلنا فيه؟
لقد درست في علوم التربية أن الطفل لا يفهم غير الصور المجسّدة، فإذا كبر فهم المعاني المجرّدة؟ وأنت تخبر أن تعريف النشء برموزنا يكون من خلال المسلسلات، فهل معنى هذا أن البشرية تتراجع، فلم تعد تفهم غير الصور المجسّدة؟! أو ربما نحن فقط الذين نتراجع؟! فلست أظنّ الناشئة في الدول المتقدّمة تعتمد على المسلسلات في غرس قيمهم، وتعريفهم بتاريخهم وتراثهم.
أو.. لنقل الحقيقة ولنعترف بأنّ سيرة أصحاب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" أصبحت تجارة رابحة لمنتجين أرادوا أن يربحوا من صحوة المسلمين.. وقد لا نعرف لهم اهتمامًا بالدين قبل أو بعد هذا المسلسل!!
أو اعتراف آخر: إنّك- أيها المشاهد- تريد المعرفة مع شيء من التسلية و«الوناسة».
خبت وخسرت إن فعلت، اذهب والْهُ كما شئت، بعيدًا عن منطقتنا المحرّمة.
إن صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" جزء من الدين، وليس ديننا لعبًا ولهوًا.
إننا مع إحياء سير الشخصيات العظيمة في نفوس المسلمين، والتشرّف بالحديث عنهم في كل مناسبة ممكنة، بل ودون مناسبة.. وكثيرة هي الدموع التي تسكب في مجالس الأستاذ عمرو خالد، وهو لم يجسّد صورة صحابي واحد، فالتأثير وقع، والسيرة حُكيَت، وبقيت الصورة مقدّسة من كلّ تخبيط وتخليط؛ لنحتفظ بالصورة في رحابة الخيال الواسع لم تمسّها يد تسيء، ولا تحدّها عدسة تغيّر وتبدّل، إن الخيال يتسّع لأكثر ما ترينا إياه عدسة المصوّر أو فكر المخرج، فيتلوّث تاريخنا ببعض ذلك؛ لأنه كما قلت لك: الكأس مملوء والزيادة عليه تنقصه، فكيف إن كان المزيد معيبًا؟!
إن موازنة المصالح والأولويات في نظري أن تظل قدوتنا ومثلنا ساحة مقدّسة ومنطقة محرّمة لا تستباح، ولا يوارب هذا الباب فلا توضع له القيود والشروط، بل يغلّق ويسدّ سدًّا.
وإن تثقيف الجهلة من المسلمين- في نظري- ليس بأوْلى من الحفاظ على تلك القدوة.
ليظل المسلمون بعيدين عن القراءة، ليظلوا في مهاوي الجهل، وإن كانت سورة (اقرأ) أوّل سورة نزلت على نبيّهم.
ليظل الدين آخر أولويات مسلمينا، ليظلوا لا يعرفون حتى أسماء الخلفاء الراشدين.. ليظل الفتى منهم يعرف الشات والنت وكل البرامج، وكل المسلسلات والمباريات وأخبار المشاهير.. ليظلوا نائمين.. ليظلّ الظلم والذلّ والمهانة والفقر والجوع في بلاد المسلمين.. ليظل المسلمون كالقصعة تتهافت عليها الأمم تهافت الذباب.. ليهلك أفراد وجماعات، أو لا يهلكوا.. لكن.. لتظل قدسية رموزنا محفوظة لا تُمَسّ؛ حتى إذا جاء اليوم الذي يفيق فيه المسلمون من هذا السبات الذي طال ليله؛ هبّوا إلى قدوتهم، فوجدوها كما هي في كتب رواها الصالحون العلماء، فلما رووها كان لسانهم طاهرًا لا يعرف الكذب والزور والنفاق والمجاملة والغفلة واللعب، وكان قلبهم ذاكرًا، وكانت جوارحهم طائعة ممتثلة ذاقت حلاوة الطاعة فتمسكوا بها، فرووا لنا السيرة العطرة، وسرى إلينا من بين السطور حال من حالهم.
فإلى أولئك الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.. علّموا المسلمين حبّ القراءة.. وماذا ينبغي أن يقرأوا.
اغرسوا في قلوبهم حبّ النبي " صلى الله عليه وسلم" وآل بيته وأصحابه منذ الصغر.
أكثروا من ذكر صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وانتقوا عبارات تحكي الإجلال والتوقير والحبّ، وتمثّلوا هذه المعاني ليسري حالكم إلى أبنائكم، فيرضعوا هذا الحبّ في حليب أمهاتهم.
أقسمت عليكم يا مسلمين.. ليظل المثال محفوظًا، لا تجرحوه ولا تشوّهوه، ولا تفتحوا الباب للجرأة عليه، حافظوا عليه وصونوه، لا تعبث به الأيدي ولا يصله غبار، أو حتى احتمال غبار.
اتركوا لنا صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، فإن أبيتم أن تتركوهم لنا، فاتركوهم لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" وتذكّروا حديث البخاري يوم أتى أبوبكر النبي " صلى الله عليه وسلم" فقال لرسول الله: إني كان بَيْنِي وَبَيْنَ ابن الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إليه، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ. فقال: يَغْفِرُ الله لك يا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أبي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثمَ أبوبَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النبي " صلى الله عليه وسلم" يَتَمَعَّرُ حتى أَشْفَقَ أبوبَكْرٍ، فَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، والله أنا كنت أَظْلَمَ.. مَرَّتَيْنِ. فقال النبي " صلى الله عليه وسلم" : «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وقال أبوبَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تاركو لي صَاحِبِي؟ مَرَّتَيْنِ، فما أُوذِيَ بَعْدَهَا»(رواه البخاري).
أقسمت عليكم.. اتركوا لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" أصحابه، ولكم عليّ عهد أن أروي لكم شيئًا من سير الصحابة، الحين بعد الحين، كلما تيسّر بإذن الله.
الهوامش
1- تاريخ مدينة دمشق ج41 ص388.