الإنسان بين العبودية والحرية


محمد الدش



من عظيم المنح الإلهية والعطايا الربانية أن يصير الكون، بما فيه ومن فيه، خاضعا منقادا لله تعالى، فسبحانه له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، فهو الخالق بقدرته وإرادته، المتصرف بحكمته ومشيئته، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. ولقد كان للإنسان في هذا الكون المنزلة العالية بما خص به من شرف العبودية لله عزوجل، بما تحمله هذه الكلمة من شرف الخضوع لله تعالى من ناحية، وشرف الغاية التي خلق الإنسان لأجلها من ناحية أخرى. والناظر في القرآن الكريم يلحظ - بجلاء تام - أن هذا الشرف الممنوح من الله لجميع خلقه لا يقف عند إنسان دون آخر، بل الكل في نوال هذه العطية سواء. لقد وصف الله عزوجل أنبياءه ورسله، عليهم السلام، إجمالا بالعبودية له تعالى، فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ } (الصافات:171-172)، وذكر بعضهم تفصيلا بتشريفهم بالعبودية له، فوصف سيدنا نوحا بقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ? إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء:3)، ويقول في سيدنا إبراهيم وبنيه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ } (ص:45)، ويخبر القرآن الكريم في ثلاث آيات بمزيد من البيان والدلالة على عبودية المسيح، عليه السلام، لربه تعالى وأنه ليس إلها، وقد أنطقه الله بذلك ليكون مثلا وحجة على قومه، وبرهانا على قدرته تبارك وتعالى. ووصف الله خاتم الأنبياء والمرسلين بالعبودية تكريما وتشريفا في كثير من آي الذكر الحكيم منها قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان:1). إنها أعظم صفة، فلو كان لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" صفة أشرف من ذلك لخصه الله بها في هذا المقام الشريف.. مقام الإخبار بإنزال القرآن الكريم والدعوة إليه.


ولما كان الإنسان مخلوقا مكرما، فضله الله تعالى على كثير ممن خلق تفضيلا، ومنحه من الحقوق التي تناسب ذلك التفضيل والتكريم، فقد وهبه حق الحرية، به يختار من المباحات ما يشاء.. من المأكل والملبس والمشرب. يحصل المال من حله بأي طريق شاء، يعمل في الخير ما يريد.. إلى غير ذلك من أموره الحياتية. وفي طليعة تلك الأمور، ترك لك أمر اختيار دينك ابتداء، فلا يكرهك على الدخول في دين ما، ولكنه أقام الحجة على البشر، فأرسل الرسل، مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعدهم. وقد يحسب الإنسان أن حريته تأتي من التصرف على أي نحو يريده طالما أن عقله يقبل ذلك، أو أن نفسه موافقة له، أو أن طبعه يهواه.. كلا، فهذا تصور مغلوط لمفهوم الحرية التي أرادها الله لعباده، فالإنسان يفعل كثيرا من الأمور ظاهرها الحرية الشخصية وباطنها العبودية المقيتة، ثم يرفض العبودية الحقة لله تعالى، التي تمنحه حريته، وتفك عنه أغلاله، وتكسر قيوده.. العبودية لله تعالى هي التي تخلص الإنسان من عبادة الفكرة، وأسر الشهوة. وانظر، أخي القارئ الكريم، إلى واقعنا الذي نحياه، تجد أننا نعيش في زمن العبودية لا الحرية التي يتغنى بها الصغير قبل الكبير، نعيش في عالم؛ العبيد يصنفون فيه وفق ما يذلون له ويخضعون، فليس العبد هو من يذل لإنسان مثله يأمره وينهاه فحسب، بل يتعدى هذا المفهوم، ليوضح أن كل ما يسيطر على الإنسان ويجعله يدور حوله كما تدور الرحى فقد صار له عبدا يطيعه، وينقاد له، ويحركه يمنة ويسرة. ومن هذه الأصناف عبيد هذا الزمان.. عبيد الفكرة الباطلة، من لعب الشيطان برؤوسهم، وزينت لهم عقولهم القاصرة وأفئدتهم الخربة أنهم على الحق، وسمحوا لأنفسهم بالإعلان عن هذا الباطل بكل جرأة ووقاحة تحت اسم حرية الفكر والرأي، وقد وجدوا لأنفسهم منابر إعلامية تنشر أباطيلهم وافتراءاتهم، فأمثال هؤلاء ليسوا عبادا لله الذي منحهم حرية منضبطة بشرعه تعالى يمتازون بها عن السائمة.. وإنما هم عباد للشيطان الذي أمرهم بالفوضى والعشوائية حتى صاروا كالأنعام بل أضل، ثم يأتي عبيد الشهرة، الذين ضحوا في سبيلها بأغلى المبادئ وأنفس القيم ومعالي الخلق، ونسوا أنهم حين يعلنون أنهم أحرار فقد أخطأوا وأساءوا.. أخطأوا في فهمهم للحرية على أنها تعني الابتذال والإسفاف.. وأساءوا حين تعدت تصرفاتهم إلى الإضرار بالآخرين، فأذهبت بعض حيائهم وبدلت بعض أخلاقهم وآدابهم. وعلى الجانب الآخر، تجد عبيد اللذات والشهوات، يدورون في فلكها، تقيدهم حبائلها.. جامع للمال من حله وحرامه.. حريص عليه، بخيل به، دائما في خدمة الدينار والدرهم، يبذل في طلبه نفسه.. فهذا هو عبد المال، ثم يأتي صنف آخر من عبيد هذا الزمان وهم عبيد العادات السيئة التي لا يستطيعون لها فكاكا، وما أكثر هؤلاء! يعيشون عبيدا لعادات مرذولة وأخلاق مذمومة، ويحسبون أنهم أحرار. إن الحرية الحقيقية لا تكون إلا في العبودية الكاملة لله تعالى.. هي الطريق المستقيم والسبيل المنير، الذي يخلص الإنسان من رق الشبهات وأسر الشهوات.