​المدح والقدح .. الضوابط والآداب

كمال عبدالمنعم




المدح والثناء والإطراء، يكون بذكر جميل الفعال والخصال، والذم والقدح يكون بذكر القبيح من القول والفعل، وكلاهما ذكرا في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فقد مدح الله تعالى أقواما وذم آخرين، وكذا الرسول الكريم " صلى الله عليه وسلم" ، ومن مدحه الله ورسوله فلا يستطيع أحد ولا ينبغي له أن يذمه، أما من ذمه الله ورسوله فلا مادح له، ولا رافع لشأنه وقدره، إذ لا معقب على قول الله ورسوله، أما المدح والقدح الذي يصدر من البشر تجاه بعضهم البعض، فهذا مما ينبغي التوقف عنده طويلا، لأن ذلك قد يكون في جانب العدل أو في جانب الزيغ أو الشطط، والمعيار لضبط ما يصدر عن الناس من مدح وقدح هو المنهج الإلهي، والميراث النبوي في الحكم على الناس وعلى أقوالهم وأفعالهم.


لقد مدح الله تعالى نفسه، لا لأنه يحتاج إلى مدح، ولكن ليعلمنا نحن بكمال قدرته، وليبصرنا بعظم تدبيره في خلقه، لنزداد إيمانا على إيماننا، وأجل وأعظم ما وصف الله نفسه به، ومدحها به قوله تعالى: {الله}، ذاك لأنه المتفرد بالألوهية، والمستحق للعبودية، فلا إله ينازعه، ولا رب يشاركه، وهو المنزه عن الشبيه والنظير والزوجة والولد، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص 1-4)، وورد مدح الله تعالى لنفسه في آيات كثيرة، منها قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)، أي أنه نعم المعين والناصر والسيد والسند، وقال الله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات:48)، أي أن الله تعالى فرش الأرض ومهدها للعيش فوقها بطمأنينة وسكينة، فلا تميد أو تميل بما عليها ومن عليها، وذلك من إعجاز خلقه في كونه سبحانه وتعالى.


ومدح الله تعالى الجنة دار المتقين، ووصفها بأجمل الأوصاف ليرغبنا فيها، ولنجد السير، ونشمر عن ساعد الجد، لنفوز بها في الآخرة، فقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (محمد:15).


أما رسول الله " صلى الله عليه وسلم" فقد مدح أشخاصا بعينهم وبشرهم بالجنة، روى الترمذي وأبوداود وصححه الألباني عن عبدالرحمن بن عوف "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «أبوبكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبوعبيدة بن الجراح في الجنة»، ومدح المؤمن القوي وفضله على المؤمن الضعيف، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن «لو» تفتح عمل الشيطان».


أما الذم من الله فكان أيضا لأصناف من البشر ممن أشرك به وعبد غيره، وحرف كتبه، وأساء إلى رسله، وطغى وبغى، وأكل أموال الناس بغير حق، وأكل الربا، وارتكب الفواحش والموبقات، وأفسد في الأرض، كذلك ذم بعض أفعال العباد التي يرتكبونها، وهي لاشك معصية له عزوجل، مثال ذلك قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (الحجرات:11)، وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (المائدة:80)، وقوله عزوجل: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة:63).


إن الإنسان ليعجب أشد العجب من هذه الجارحة، أقصد: اللسان التي اجتمعت فيها كل فعال الخير والشر، فبه يتلو الإنسان القرآن، ويذكر الرحمن، ويصلي على الحبيب المصطفى، ويصلح بين المتخاصمين، ويشهد الحق، وينطق بالصدق، ويثني ويمدح، وبجارحة اللسان أيضا، يسب ويلعن، ويهجو ويقدح، ويشهد الزور، وينطق بالفجور، ويغتاب وينم، لأجل هذا ذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بخطورة ما نتكلم به، وأننا سنحاسب على كل ما يصدر منا، قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18)، وروى الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ( تذل له وتخضع، وقيل: تذكر) تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا».


لقد كره الإسلام المدح المبالغ فيه، لأنه يؤدي بصاحبه إلى العجب، وقد يصل به إلى القعود عن العمل الصالح، وقد يجره إلى الكبر والخيلاء، مدح رجل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقال له: يا خير الناس، وابن خير الناس، فقال له: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله على غزارة علمه، ورفعة قدره ومكانته، كان يكره المدح، ويكثر التوبيخ لنفسه، قائلا: والله منذ أن أسلمت وأنا أجدد إيماني، ما بي شيء، ولا مني شيء، أنا المكدي (أي: شديد الفقر والحاجة إلى الله تعالى)، وابن المكدي، وهكذا كان أبي وجدي، ثم أنشد قائلا:


أنا الفقير إلى رب البريات
أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات

أما الذم الذي يصدر من العباد فقد تنوع وتشكل إلى حد التطاول على الذات العلية، قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً{88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً{89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً{90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً{91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً{92}} (مريم:88-92)، وروى البخاري في صحيحه والنسائي في سننه عن أبي هريرة "رضي الله عنه" عن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: قال الله عزوجل: «كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك, وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا, وأنا الأحد الصمد، لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد».


ووصل الذم من البشر إلى الرسل والأنبياء، فاستهزأوا بنوح عليه السلام، وعذبوا إبراهيم عليه السلام، وسجنوا يوسف عليه السلام، وآذوا موسى عليه السلام، وقتلوا زكريا عليه السلام، وحاولوا قتل عيسى عليه السلام، أما محمد " صلى الله عليه وسلم" فقد نال منهم الكثير، فوصفوه بالشاعر، والكاهن، والساحر، والمجنون، وحاولوا بكل ما أوتوا من أساليب الذم والتوبيخ والأذى أن يثنوه عن تلك الدعوة التي بعثه الله بها.


ولم يسلم الوحي المنزل من قبل الله تعالى على رسولنا " صلى الله عليه وسلم" من هذا القدح، فقال الله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } (الفرقان:5)، وقال سبحانه مخبرا عن أحد عتاة الشرك، وهو الوليد بن المغيرة: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } (القلم:15).


إن المسلم المتزن لابد أن يقيم ما يصدر عنه من مدح وقدح، فلا يمدح بغير حق فيكون منافقا، ولا يقدح بغير حق فيكون مغتابا، وسواء كان هذا أو ذاك فهو فعل مذموم يجلب على صاحبه الإثم والعقاب من الله تعالى، وأقول نصيحة لنفسي أولا، و للقارئ الكريم: نزه لسانك عن كل ما يؤدي إلى عقاب الله وغضبه، سواء كان مدحا بغير حق، أو قدحا بغير حق، ونزه جوارحك أن ترتكب الإثم والسوء، فيا سعادة من سار على الوسطية التي أمر بها ديننا الحنيف، فلا إفراط ولا تفريط، عندها يكون من الفائزين الناجين، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.