هوى النفس.. وتحلل المجتمعات!



السنوسي محمد السنوسي

من الشائع - خطأ - أن يكثر التحذير من «هوى النفس» في إطار دائرة الفرد فحسب، دون دائرة المجموع الأكبر اتساعا؛ وكأن المجتمعات أو الشعوب تسلم مما يصيب الأفراد من أمراض!
نعم، المجتمعات تمرض كما تمرض الأفراد، ويصيبها ما يصيبهم؛ لأن الأفراد هم من يشكلون بمجموعهم هذه المجتمعات.. كما أن السنن الربانية وتشريعات الإسلام هي بالأساس تخاطب المجموع قبل الفرد؛ لأن بصلاح البيئة والمحيط العام يستطيع الفرد أن ينمي نوازع الخير لديه، وأن يحفظ على نفسه الصفات الحميدة بيسر وسهولة.
والمقصود من «هوى النفس»: «ميل النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع» (1). فكما يميل الفرد إلى ما يستلذه من الشهوات مخالفا أوامر الشرع، كذلك تفعل المجتمعات بوقوعها في المحظورات، فيكون العذاب الأليم جزاء وفاقا، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} (الطلاق:8)، أي: وما أكثر القرى التي أعرضت عن أمر الله، فكان جزاؤها الحساب الشديد، والعذاب بالاستئصال.
جاء في «التحرير والتنوير»: «والمراد بـ(الهوى) ما تهواه النفس، فهو مصدر بمعنى المفعول، مثل الخلق بمعنى المخلوق؛ فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفع الكامل. وشاع (الهوى) في المرغوب الذميم؛ ولذلك قيل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} أن {بِغَيْرِ هُدًى} حال مؤكدة ليست تقييدا؛ إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى» (2).
ولخطورة «هوى النفس»، كان اتباعه موجبا للهلكة، وكانت مخالفته شرطا للنجاة.
قال تعالى يخبرنا عن صفات أهل الجنة، والتي منها عصيان الهوى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى{40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40-41).
وقال عن صفات المشركين الضالين: { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (الروم:29).
وقد عد الحديث الشريف «اتباع الهوى» إحدى ثلاث مهلكات، هي: «شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (3).
الاستغناء عن منهج الله!
إن «اتباع الهوى» صفة ذميمة تشكل خطورة على صاحبها، فردا كان أو مجتمعا؛ لأنه يقول - بلسان الحال - إنه مكتف بعقله وتدبيره، مستغن بهما عن منهج الله، وهداية الله، وشريعة الله؛ فهو يرى في نفسه ورغباته الكفاية والغناء، أو يرى لهما الأولوية والأهمية؛ ولو أنه كان يدرك حقا قصور عقله وعدم استقامة نفسه، لما جعل من رغباته وأهوائه موجها له، وحاكما على تصرفاته؛ بل لأسلم نفسه طائعا مختارا إلى أوامر الله، في الفعل والترك؛ فأتى الطاعات واجتنب النواهي.
أما كيف تتبع الأمم أهواءها؟ وكيف يكون اتباع الهوى سببا في تحلل المجتمعات؟ فهذا هو السؤال المهم الذي ينبغي أن ننشغل به، وأن نبذل في استجلائه جهدا بمثل ما بذل فيه على مستوى الفرد.
ويستمد هذا السؤال أهميته من أنه يتقاطع مع العمل المطلوب لاستكناه طبيعة العلل الحضارية التي تصيب المجتمعات؛ فتنخر عافيتها، وتجعل عاقبة أمرها خسرا..
إن نهوض المجتمعات أو سقوطها له سنن تحكمه، وله شروط لابد من استيفائها دون محاباة ولا مجاملة؛ والغافلون هم من لا يرون هذه السنن، ولا يعطونها العناية اللازمة من الفحص والبحث.
ثلاث نقاط


ويمكن أن نجمل الأسباب التي بها تكون المجتمعات متبعة أهواءها، في ثلاث نقاط رئيسة:
< الابتعاد عن منهج الله، بعصيان أوامره واقتراف نواهيه
فترى الفرائض مهملة، والحدود معطلة، والمعاصي شائعة، والأخلاق نادرة، والعدل غائبا؛ بل تحل المحاباة والأحكام الانتقائية التي تخدم مصالح طبقة بعينها، بدل المبادئ الراسخة التي تسري على الجميع وتنشر أشعتها دون تمييز: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» (متفق عليه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها).
الإسراف والترف


بما يترتب عليهما من ضياع حقوق الفقراء، ومن التنافس في المحرمات، والإقتار في المنافع، وإهمال الزكاة؛ ولذا كانا من أسباب هلاك الأمم، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تدميرا} (الإسراء:16)، وقال عن فرعون: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ } (الدخان:31).
< اتباع الأمم الأخرى، وتقليدها في غير ما هو محل للتقليد والنقل
بما يعنيه من مسخ الهوية، وضياع الخصوصيات التي تميز الأمة عمن سواها، وبما يترتب عليه من تفكك المجتمع وتحلله بسبب القيم والمناهج الغريبة عنه، المخالفة له: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» (متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري).
إن الإنسان - وبالتالي المجتمع - إما أن يكون عبدا لله، أو عبدا لهواه؛ وإما أن يتخذ من منهج الله طريقا ودليلا له في دروب الحياة، فيسعد في دنياه وآخرته؛ وإما أن يسير خلف كل ناعق، ويتبع كل صيحة، يظنها النجاة وما يدري أنه يسير إلى هلكته بقدميه، ويخط شقاءه بيديه!
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم } (محمد:14).
نعم يا رب.. لا يستويان..!!
الهوامش


1- معجم الكليات، أبوالبقاء الكفوي، ص: 962، تحقيق: د. عدنان درويش، ومحمد المصري، ط2، 1998م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
2- تفسير «التحرير والتنوير»، ابن عاشور، المكتبة الإسلامية، على موقع «إسلام ويب»، ذكره في تفسير سورة «النازعات».
3- روى الطبراني في المعجم الأوسط، وحسنه الألباني في صحيح الجامع؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات؛ فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه؛ وأما المنجيات: فالعدل في الغضب، والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية؛ وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات؛ وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وصلاة بالليل، والناس نيام».