معاهدة البقط نموذج لحوار الأديان


عبدالرحمن عوض- عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية

لم تكن معاهدة البقط 31 هـ/ 651م التي أبرمت بين عبدالله بن سعد بن أبي السرح والي مصر وكاليدوزو ملك المقرة (دنقلة) مجرد معاهدة لوقف الحرب، بل كانت أول معاهدة سلام وتعايش وحُسن جوار بين العرب والأفارقة، لقد أتاحت هذه المعاهدة دخول العرب المسلمين بلاد النوبة مجتازين غير مقيمين فرصة نشر الدعوة الإسلامية، وتحويل بلاد النوبة السفلى والعليا ومملكة علوة إلى الإسلام رويدًا رويدًا حتى انهارت كنيسة دنقلة في 1316م وتحولت البلاد رسميًّا إلى الإسلام بعد أن تحولت فعليًّا قبلها بعشرات السنين، وربما قبل قرنين (1).


وكانت من بنود المعاهدة ما يلي:
1- إرسال النوبة 365 رأسًا من الرقيق إلى والي مصر، من الشباب الذي يصلح للجندية أو الخدمة المنزلية أو العامة.
2- دخول بلاد المسلمين مجتازين غير مقيمين والمعاملة بالمثل لدخول بلاد النوبة.
3- عدم قتل أي مسلم في بلاد النوبة، واللاجئين من أهل الذمة.
4- عدم إيواء أي عبد آبق للمسلمين.
5- يرسل العرب للنوبة كميات من القمح والشعير وغيره.
وقد أضيفت عدة بنود بعد ذلك على المعاهدة التي استمرت أكثر من 670 سنة، وقد اختلف المؤرخون حول مكان تبادل البقط في أسوان، وقد اتضح لنا بعد دراسة المكان أن جزيرة «فيلة» التي تبعد 5 كم جنوب أسوان- قبل بناء السد العالي في 1964م، كانت هي التي يتم فيها تبادل البقط، وعند بناء السد العالي غمرت المياه الجزيرة تمامًا، فنقلت الآثار إلى منطقة أعلى قبل غمر المياه، ومساحة الجزيرة كانت 450 x 144م، كانت تختفي في الشتاء والربيع، حيث تغمرها المياه بعد بناء خزان أسوان في 1902م (2).
وقد التزم معظم ملوك النوبة المسيحية آنذاك ببنود المعاهدة، وإن كانت هناك سنوات شهدت تلكؤ بعض الملوك، وتباطؤ البعض الآخر! وقد حدثت عدة تعديلات على المعاهدة، حيث طلب ملك النوبة من الخليفة المهدي العباسي 158- 169هـ/ 775- 785م تخفيض مقدار البقط، وأضاف المهدي بندًا جديدًا في المعاهدة وهو إرسال بعض الحيوانات النادرة من النوبة العليا للمسلمين، وقد أرسل أحد ملوك النوبة لخليفة المسلمين قردًا حائكاً!
وقد أورد المقريزي نص المعاهدة كاملة بعد تعديلاتها حتى عهده، وقد تمنت المعاهدة بعض البنود المهمة منها:
1- عدم التعرض لأي مسلم أو معاهد أو ذمي.
2- حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون في بلاد النوبة.
3- عدم إيواء عبيد المسلمين.
وكان هناك بند دفع دية القتيل المسلم، وهي موجودة منذ العصر العباسي الأول تقريبًا كما في بردية والي مصر موسى بن كعب الشهيرة 141هـ/ 758م وكانت دية القتيل 1000 دينار (ألف دينار) وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك العصر العباسي المبكّر (3).
وقد اختلف الفقهاء والمؤرخون القدامى والمحدثون هل كانت المعاهدة صلحًا أم هدنة أم يُعامل النوبيون معاملة خاصة؟
وقد كان من نتائج هذه المعاهدة تسرب الثقافة العربية إلى بلاد النوبة كلها، حتى دخلت هذه البلاد في الإسلام منذ تلك المعاهدة 31هـ/ 651م، وتعرّبت تمامًا الآن في اللغة والثقافة العربية بكل مكوناتها وليس بينها مسيحي واحد الآن من أبنائها.
وقد كانت في أسوان جالية عربية أرستقراطية في القرن الهجري الأول، عملت على تسرب الدماء العربية والثقافة العربية والدين الإسلامي في بلاد النوبة بفضل التجار الرحّل والصناع وغيرهم من أرباب الأعمال الزراعية والتجارية والصناعية.
وبفضل القبائل العربية المتسربة إلى أسوان والنوبة، استطاع النوبيون الخروج من ربقة ملوكها الإقطاعيين، الذين كانوا يحتكرون الأراضي الزراعية وغير الزراعية في 200هـ/ 817م على الأقل.
وقد ظهرت أول إمارة عربية في بلاد النوبة السفلى (من أسوان حتى الشلال الثاني) هي إمارة كنز الدولة أبوالمكارم هبة الله من بني ربيعة فيما بين 333- 412هـ/ 933م في منطقة وادي العلاقي بين البحر الأحمر شرقًا وبلاد النوبة شمالًا، وقد استمرت هذه الإمارة ألف عام حتى 1933م وتلاشت.
هكذا كانت هذه المعاهدة خيرًا على بلاد النوبة، ونقلة حضارية جعلت بلاد النوبة السفلى إحدى المراكز الحضارية في مصر طوال العصر الإسلامي منذ 20هـ حتى يومنا هذا.
وقد رفدت بلاد النوبة السفلى والعليا الفقه الإسلامي بكوكبة من الفقهاء والمحدثين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
1- يزيد بن أبي حبيب 53- 128هـ، وهو أول مفتٍ سوداني بمصر، ولاه الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز أمر الفتيا مع ثلاثة آخرين (4).
2- ذو النون المصري 175- 245هـ الصوفي الرائد، له عدة روايات للحديث.
3- محزم بن عبدالله الأسواني المتوفى 271هـ، من أجلّة أصحاب الإمام الشافعي الآخذين عنه، كان قبطيا، وعاش بأسوان مفتيًا على المذهب الشافعي، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية والشعراء والأدباء.
فالحمد لله رب العالمين الذي جعلنا مسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الغر الميامين، ومن اتبعه إلى يوم الدين.
هذه في عجالة معاهدة البقط التي مرّ على صدورها منذ عامين 14 قرنًا، وهي واحدة من أهم المعاهدات العربية الإسلامية التي أبرمت مع أمة إفريقية في 31هـ، تعد نموذجًا للتعايش السلمي وحوار الأديان التي لم تعرفه أوروبا إلا مؤخرًا منذ نصف قرن!
طبقته الخلافة الإسلامية ثم الدول الإسلامية حتى العهد المملوكي، كانت فيها الطرف الأكثر مرونة والأكثر دبلوماسية، دون إفراط أو تفريط.
وبفضل هذه المعاهدة قامت ممالك نوبية وإمارات عربية وإسلامية في السودان منها: مملكة سنّار 1505- 1820م، وسلطنة دارفور1637- 1916م، ومملكة تقلي 1570- 1882م، وإمارة كنز الدولة (الكنوز) 933- 1933م وغيرها من مشيخات وعشائر.
وهي تحتاج منّا إلى دراستها في مؤتمرات وندوات دولية متخصصة، للاستفادة منها في بؤر الصراع الممتدة في آسيا وإفريقيا.


الهوامش
1- تاريخ الثقافة العربية في السودان، د.عبدالمجيد عابدين- ص 25- دار الثقافة- ط2- بيروت- 1967م.
2- معاهدة البقط- عبدالرحمن عوض- ص 9- القاهرة- 2009م.
3- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- تقي الدين أبوالعباس أحمد بن علي المقريزي- ص 201- الذخائر 51- الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة 1999م.
4- لمحات من الحياة الفكرية المصرية قبل الفتح العربي وبعده- د.عبدالمجيد عابدين- ص 58- ط1- القاهرة- 1964م.